تقول القناة التلفزيونية "المعارضة" المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في عدد من الدول العربية عن نفسها إنها "حرصت منذ بدايتها أن تكون صوتاً للحقيقة ومنبراً لأبناء الشعب الحبيب"، وقالت "إنها ظلت حريصة طوال سنوات البث الثماني الماضية أن تنقل الصورة كاملة وأن تنشر الوعي وقيم العدل والحرية، وأن تكون صوتاً للمظلومين والمعتقلين".
تضييق الأحضان
لكن جد في الأمور جديد وأتت رياح السياسة بما يعارض أجندة القناة، فلملمت متعلقاتها ورحلت والجميع يعلم ما جرى، فالعلاقات السياسية بين البلدين، البلد التي تبث منه القناة والبلد الموجه إليه البث، تحسنت، وفي طريقها لمزيد من التحسن بعد أن جرت تحت الجسر مياه كثيرة، فالدولة المضيفة اختارت أو اضطرت إلى تضييق الأحضان المفتوحة على مصاريعها أمام قوى معارضة دولة مجاورة ناصبتها العداء لسنوات، لأن نظام الحكم فيها لا يعجبها.
القناة المعارضة قالت بينما تلملم أغراضها استعداداً للرحيل صوب من يتسع صدره وحضنه ومصالحه لها إنه "نظراً إلى الأوضاع التي لا تخفي على أحد، وحرصاً على استمرار رسالة القناة الإعلامية لنقل الحقيقة كاملة، فقد قررت نقل جميع أعمالها إلى خارج الدولة المضيفة لتنطلق انطلاقة جديدة من كل ميادين العالم".
كل ميادين العالم ضجت بردود فعل على القناة وإغلاقها والتحولات الكبرى في مسارها، فالقناة أحد أذرع جماعة الإخوان المسلمين التي فر من تبقى من قياداتها وجميع أذرعها الإعلامية إلى خارج مصر خلال الأشهر القليلة التي تلت أحداث الـ 30 من يونيو (حزيران) 2013.
تعددت الملاجئ لكن الملجأ الرئيس كان تركيا، حيث استفاد الفارون من تدهور العلاقات بين مصر وتركيا نظراً للدعم الكبير الذي تحظى به الجماعة من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
شبكة "رصد" التي تعرف نفسها بـ"الإخبارية" ويصنفها متلقون متابعون للمنصات الإعلامية بـ "الإخوانية"، أشارت عبر تقرير لها في مارس (آذار) 2021 إلى ما وصفته بـ "رسائل غزل متتالية من أنقرة إلى القاهرة"، واستشعرت الشبكة المعروفة بأخبارها الداعمة للجماعة والتي تقول عن نفسها إنها تأسست في الـ 25 من يناير (كانون ثاني) 2011 أن التقارب بين البلدين ربما يلقي بظلال وخيمة على أذرع الجماعة الإعلامية، فأشارت إلى أن "عشرات الآلاف من المصريين الذي فروا إلى تركيا يشعرون بالقلق على مصيرهم في ضوء مطالبة نظام السيسي بغلق القنوات التلفزيونية المصرية التي تبث من إسطنبول والتضييق على معارضيه المنفيين هناك، وهو ما ترجم سريعاً إلى طلب تركي من مديري هذه القنوات بخفض سقف انتقادها لمصر وتغيير لغة خطابها مع التهديد بإمكان غلقها".
الطريف أن الشبكة استعرضت في تقرير طويل آراء وردود فعل "رموز المعارضة" والذين تصادف أن يكون جميعهم أعضاء فاعلين أو منتسبين أو منتمين أو متعاطفين مع الجماعة، وكانت قنوات تلفزيونية كثيرة بدأت البث بكل جسارة من تركيا عقب أحداث الـ 30 من يونيو 2013، واستقبلت بحفاوة شديدة من قبل أنظمة ومنصات إعلامية غربية عدة تعتبر جماعة الإخوان خير من يحكم البلاد، أو إيماناً منها بـ "ديمقراطية" وصول الجماعة إلى الحكم، أو امتثالاً لحزمة مصالح ومسارات تعتبرها الأنسب للمنطقة، ومصر في القلب منها.
لا تزال تنبض
لم تتوقف كلية نبضات قلوب القنوات التلفزيونية وغيرها من المنصات الإعلامية لسان حال الجماعة، فهي تنبض ببطء لكنها تنبض، ونبض الجماعات المعارضة وكيفية إبقائه حياً يرزق رصدته ورقة بحثية صدرت عن "المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية" مطلع العام الحالي بعنوان "كيف يستخدم الإخوان ولجانهم الإلكترونية منصات التواصل الاجتماعي في نشر الأكاذيب وإثارة الفتن وتأليب الرأي العام؟"، ذكرت أن جماعة الإخوان تستغل مذيعي قنواتها في الخارج مثل "الشرق" و"مكملين" و"وطن" و"الحوار" و"التلفزيون العربي" في الوصول إلى شرائح أوسع من المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال المتابعين الشخصيين لهؤلاء المذيعين على صفحاتهم وحساباتهم الخاصة، أو من خلال ترويج المحتوى المقدم على هذه القنوات وتسويقه عبر منصات التواصل الاجتماعي.
وتشير الورقة إلى أن الجماعة تستغل مجموعات متنوعة من المذيعين، سواء من المقيمين في إسطنبول أو الدوحة أو لندن، مثل معتز مطر وحمزة زوبع وعبدالله الشريف وياسر العمدة وعماد البحيري وأحمد عطوان وأحمد سمير وسيد توك، وعصام تليمة وأحمد مولانا وأسامة تشاويش وأحمد البقري وأحمد سميح وجمال سلطان، لا سيما أن بعضهم يحظى بمتابعين كثر.
وأضافت أن الجماعة تعمل كذلك عبر عدد من الصفحات الإخبارية التي تصفها بـ "المعروفة بتوجهاتها ضد الدولة المصرية أو التابعة تماماً لجماعة الإخوان"، مثل "شبكة رصد" وحسابات وصفحات ومواقع مثل "عربي بوست" و"نون بوست" و"عربي 21" و"العربي الجديد".
وتقول الورقة إن مثل هذه الصفحات والمواقع "تلعب دوراً كبيراً في تسويق الرواية الإخوانية للمواطنين بمختلف الأشكال والأساليب وبقوالب متنوعة من الأخبار والفيديوهات المصورة والإنفوغراف والفيديوغراف"، والمعارضة عبر القنوات التلفزيونية وغيرها من المنصات الإعلامية المهاجرة أو المطرودة أو المنفية ليست وليدة أمس الربيع العربي القريب، كما أنها ليست اختراعاً عربياً أو حكراً على منطقة دون غيرها، وبغض النظر عن أهداف القنوات التلفزيونية المعارضة التي تبث من خارج الدولة التي تعارضها، وبعيداً من تصنيفها باعتبارها وطنية غايتها خير البلاد ومصلحة العباد، أو غير وطنية وهدفها إسقاط البلاد وتشريد العباد أو نصف وطنية، فإن القنوات التلفزيونية المعارضة التي تبث خارج بلادها تظل قيد رحمة الدولة المضيفة.
ظروف لا تخفى على أحد
"الظروف التي لا تخفى على أحد" والواردة في بيان القناة الداعمة لجماعة الإخوان المسلمين في تركيا قبل رحيلها لتبث من "كل ميادين العالم" تخفى على الجميع، فأسباب فتح أبواب الدول المضيفة لها تخفى على الجميع، وأسباب إغلاقها كذلك تخفى على الجميع، لكن التكهن بها واضح للجميع.
ويعرف الجميع أن هناك من المعارضة من يضيق بها الحال في بلادها فتلجأ إلى الخارج، وهذا الخارج يجب أن تتوافر فيه مواصفات مثل عدم وجود قيود على حرية التعبير طالما لا تتعارض وقوانين البلاد ومصالحها، أو ترحيبها بهذه المعارضة نكاية في الدولة الطاردة، أو تقديم أشكال من الدعم والعون المادي والمعنوي لها، سواء لأسباب تتعلق بدعم "الحقوق والحريات" لإيمانها بها أو لأنها تحقق لها شكلاً من أشكال المصلحة الوطنية.
وحين تتعارض المصالح الوطنية للدولة المضيفة ووجود هذه المنصات المعارضة لدولة مجاورة، أو حين تنتهي العداوة أو الجفاء أو النكاية في الدولة المصدرة لهذه المعارضة، فإن الخناق يضيق عليها فتسكت أو تعمل بمهنة أو حرفة غير المعارضة أو تحزم حقائبها وترحل.
رحيل القنوات المعارضة للنظام المصري والمحسوبة جميعها على الإخوان من تركيا أزعج العاملين في هذه المنصات الإعلامية، لكنه لم يدهش المطلعين على التاريخ، فالمعارضة المهاجرة عمرها قصير، سواء لأسباب تتعلق بالتمويل أو لعوامل لها صلة بتعارض المحتوى الذي يجري بثه وتوجهات ومصالح الدولة المضيفة، وبحسب تقرير منشور قبل أيام في صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية بعنوان "المنفيون المصريون يتعرضون لضغوط بسبب إعادة الضبط الإقليمي الذي يجريه أردوغان"، جاء فيه أن "الرئيس التركي الذي يصارع اقتصاداً ضعيفاً يحاول إعادة بناء العلاقات مع أعداء سابقين في الشرق الأوسط في محاولة لإعطاء دفعة للتجارة والاستثمار، وترك ذلك أثره في القنوات المصرية (المعارضة) التي اتخذت من تركيا، وهي ملاذ آمن نادر للمعارضة العربية، بيتاً لها. الآن بعضهم يتساءل عما إذا كان لوسائل الإعلام المصرية المعارضة في الخارج مستقبل.
مستقبل المعارضة عبر منصات إعلامية في منفى اختياري أو إجباري أو حتى على سبيل الهرب غير مضمون ويبقى قيد تقلبات السياسة وما أكثرها، وتحولات الأهواء وما أشدها.
وتشير مقالة منشورة على موقع "مجموعة الأزمات الدولية" الناشطة في مجال دعم السلام ونبذ الحروب بعنوان "تأثير المنفى: المعارضة الخارجية ووسائل التواصل الاجتماعي في فنزويلا" إلى أن المعارضين حين يتركون بلدانهم في العادة ويلجأون أو يهربون أو يجدون أنفسهم مضطرين إلى الإقامة في دولة أخرى يصبحون أكثر حدة وجرأة في معارضتهم، لدرجة تعوق أحياناً جهود الوصول إلى حلول سلمية في بلدانهم، وأن على الدول المضيفة ألا تدع هذه المعارضة تنجرف في خطاب متطرف في معارضته، أو تهيمن على المفاوضات السياسية السلمية لأنهم يقلصون فرص الحلول والتسويات.
ويبدو أن "مجموعة الأزمات الدولية" تلمح إلى الجرأة الزائدة التي تعتنقها المعارضة في الخارج عبر المنصات الإعلامية، والتي تكون أشبه بمن وجد نفسه في الصحراء حيث لا يعرفه أحد فأخذ يصرخ ويرقص ويصيح بأعلى صوته لأن لا أحداً يعرفه هناك.
ظاهرة القنوات والمنصات الإعلامية العربية المعارضة والممارسة لمعارضتها عبر الحدود تعود إلى ما قبل ما يسمى "رياح الربيع العربي" عام 2011، ولعل أبرزها ما فعله الممثل المصري الراحل عبدالغني قمر، وكان يمثل المعارضة السياسية الشرسة ضد نظام الرئيس الراحل محمد أنور السادات خلال سبعينيات القرن الماضي، عندما أسس إذاعة "صوت مصر العروبة" وترأسها، إذ كان قمر يصب لعناته وانتقاداته اللاذعة على الرئيس الراحل السادات ونظامه، ناهيك عن اتهامات بالخيانة والعمالة والجبن وغيرها على مدى ساعات النهار والليل من العراق، مقر المحطة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد اغتيال الرئيس السادات وضلوع الرئيس العراقي السابق الراحل صدام حسين في الحرب ضد إيران وتحول موقف العراق من مصر، أغلقت المحطة الإذاعية المعارضة وبقي قمر في العراق حيث توفي هناك عام 1981، وقال عنه شقيقه الأصغر الشاعر بهجت قمر جملة شهيرة هي "عاش خائناً ومات غريباً".
ليست كل معارضة خائنة
بالطبع ليست كل المعارضة عبر منصات إعلامية خارج الحدود خائنة، فالمؤكد أن بعضهم يضطر إلى الفرار من بلاده حفاظاً على حياته أو رفضاً للانصياع لتوجيهات أو قيم أو سياسات يرفضها، أو رغبة في حرية تعبير يفتقدها، والمؤكد أن الضبابية تحيط بمصادر تمويل المحطات والمواقع، وأسباب ترحيب الدولة المضيفة ودواعي انتهاء الترحيب وترتيب إجراءات الرحيل ومصير المعارضة الإعلامية الرحالة وموقفها من العودة لبلادها أو الانتقال إلى دولة مضيفة ثانية وثالثة ورابعة وغيرها.
ومع التشابك والتكامل بين القنوات التلفزيونية وصفحاتها عبر منصات التواصل الاجتماعي أصبح في إمكان المتلقين التعليق وطرح الأسئلة وإبداء آرائهم في ما يقدم على هذه المنصات. أحد المعلقين كتب تعليقاً في صورة سؤال قبل أيام على صفحة قناة معارضة في الخارج قال فيه، "ما هو تعريف إعلامي معارض؟ هل أنتم (الإعلاميون العاملون في القناة) معارضون وأصبحتم إعلاميين كوسيلة للمعارضة؟ أم إنكم إعلاميون محترفون قبلتم عرض عمل وضمن متطلبات الوظيفة المعارضة؟".
الأثير عامر بقنوات معارضة تبث من خارج حدود الدول التي تعارضها، ومحتوى المعارضة دائماً مثير لأنه ممنوع والممنوع مرغوب ومقروء ومشاهد ومسموع، أما نيات المعارضة ودوافعها فلا يعلمها إلا الله، لكن يتم الكشف عنها عادة بعد انتفاء الأسباب أو تقارب الدول أو صدور قرارات كبرى بلملمة أوراق الخلاف وجمع المتعلقات ونقل النشاط إلى مقر آخر.
وقبل أيام وبعد إعلان قناة "مكملين" الداعمة لجماعة الإخوان انتقال عملها لـ "كل ميادين العالم" تاركة تركيا، كتب محمد ناصر أحد مذيعي القناة تغريدة قال فيها: "لا ينكر الفضل إلا جاحد. شكراً للأرض الطيبة التي احتضنتا ثماني سنوات. شكراً تركيا. والآن إلى أرض أخرى. وأرض الله واسعة".