يمكن النظر إلى المعرض الكبير الذي يقام لأعمال العمراني الإسباني الكتالوني الكبير الملقب عادة بـ"العبقري"، في متحف الأورساي الباريسي العريق، على أنه مناسبة رائعة لعودة غاودي وإبداعاته الاستثنائية في مضمار الهندسة العمرانية إلى واجهة الأحداث الثقافية الفرنسية الكبرى في العاصمة الفرنسية، لكن أنطوني غاودي، وكعادته التي تميزه عن غيره من المبدعين لن يعود وحده، بل في رفقة عدد كبير من أسماء لمعماريين، وغير معماريين كبار، يعتبرون ورثته الشرعيين وفي مقدمتهم العراقية – البريطانية الراحلة زها حديد والنمساوي المعاصر لنا هاندرتفاسر. غير أن حصة الأسد من تلك الرفقة إنما هي من نصيب صديق لأنطونيو غاودي هو الصناعي الثري يوزيبي غويل الذي يحضر في المعرض كما في كل المطبوعات التي صدرت على هامش المعرض من دون أن يكون له دور فني في المسار الإبداعي لغاودي، ولكن من دون أن يحضر في الوقت نفسه لكونه صديقه، بل لدوره، غير الفني على أي حال، في معظم مراحل المسار الإبداعي للمعماري الكبير. وهو دور شبهه كثر على أي حال، بالدور الذي لعبه لودفيغ ملك بافاريا في حياة وإبداع الموسيقي الكبير ريتشارد فاغنر خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وقد نشبهه نحن بالدور الذي لعبه سيف الدولة الحمداني في حياة وإبداع سيد الشعراء العرب أبي الطيب المتنبي.
المال في خدمة الإبداع
كما قلنا، لم يكن غويل مبدعاً في المجال العمراني، ولا في المجال الفني عموماً، بل كان صناعياً ثرياً ارتبط مع غاودي بتلك الصداقة العجيبة التي تواصلت حتى النهاية فكانت الصداقة الوحيدة التي حافظ عليها غاودي طوال حياته هو الذي لم يحافظ على أي صداقة أخرى، وكان من حدة الطبع وسوئه أن اختلف مع كل الذين مولوا مشاريعه وساعدوه على تجاوز أزماته، ولكن علاقته مع غويل كانت استثناء على الرغم من فارق ست سنوات من العمر يفصل بينهما، وعلى على الرغم من أن غويل كان صبوراً عليه إلى درجة عجيبة هو الذي موّل ورعى عدداً كبيراً من إنجازاته العمرانية التي تحمل دائماً وإلى اليوم اسم غويل، من "قصر غويل" إلى "حديقة غويل" إلى "مستوطنة غويل" و"دار غويل"... بما في ذلك مشاريع لم تنجز لسبب أو آخر ومشاريع أخرى لم يكن من الممكن أن يطلق عليها اسم غويل بما في ذلك كاتدرائية "ساغرادا فاميليا" (العائلة المقدسة) التي رحل غاودي عن عالمنا من دون أن يتمكن من إنجازها. والحال أننا حين نتحدث عن العمل العمراني الذي حققه غاودي لكل هذه المنجزات، لا ينبغي أن يسهو عن بالنا أن كل المفروشات والأكسسوارات والأقمشة واللوحات التي ارتبطت بها كانت كذلك من تصميم غاودي وتنفيذه.
رجل لكل الفنون
فغاودي كان معمارياً ورساماً وحافر منحوتات خشبية ومصمم أثاث ومهندس حدائق... أما غويل فلم يكن في المقابل سوى رجل صناعة ثري يملك ذوقاً رفيعاً ولا يأبه لما ينفق على الإبداعات الفنية، لكنه، قبل لقائه الأول في باريس بغاودي لم يكن قد سمع باسمه، بل هو "اكتشفه" فقط في عام 1878 خلال زيارته للمعرض العالمي هناك، ولفت نظره ذلك البعد الجمالي البالغ الحداثة الذي يطبع واجهة صممها ذلك الشاب الكتالوني لجناح لصانع قفازات مواطن له هو إستيبان كوميلا. حينها كان غويل في الثانية والثلاثين من عمره. أما مصمم الواجهة الشاب فكان أنطوني غاودي الذي لا تتجاوز سنه السادسة والعشرين. وطبعاً ستكون هناك حكاية أخرى ليس من الضروري أن تتناقض مع هذه الحكاية تفيد بأن الشابين تعارفا من خلال المعماري خوان مارتوريل الذي كان يعتبر غاودي تلميذاً ومريداً له وكان يعتبر من كبار مهندسي برشلونة، مسقط رأس الثلاثة معاً.
في خدمة الإنسان
مهما يكن من أمر نعرف الآن أن عرى الصداقة لم تنفصم بين غويل وغاودي منذ تلك اللحظة بخاصة أن الاثنين كانا متشاركين إلى أبعد الحدود في الاهتمام بحداثة تنطوي على مفاهيم إنسانية عميقة ترى أن على التكنولوجيا وضروب التطور أن تكون في خدمة الإنسانية، وأن الجمال في معانيه المطلقة ينبغي أن يكون الإطار الذي يحيط بها وأن المنطقة التي أنجبتهما معاً تستحق أن تعبق بذلك كله. ولسوف تترسخ المعرفة والصداقة بين الاثنين أكثر وأكثر حين سينطلق غاودي في مشروع يشتغل عليه لحساب والد زوجة غويل الثري بدوره الذي كان مارتوريل قد قدمه إليه لبناء كنيسة في قصره المنيف بمنطقة كوميلاس. وبهذا اكتملت الدائرة ولم يعد ثمة ما يعوق التعاون بين الشاب الثري وصديقه الموهوب، لكن البداية لم تكن ضخمة بل لم تزد على تكليف الصناعي صديقه ببعض الأشغال الثانوية والصغيرة في بعض أنحاء ممتلكاته. ليس لامتحانه بل ريثما يكتمل أفق التعاون بينهما. ولسوف يكتمل ذلك الأفق بعد سنوات قليلة ويتواصل حتى النهاية.
انطلاقة سريعة
وكانت البداية الحقيقية تكليف غاودي ببناء كنيسة تخص مستوطنة يقيم فيها عمال مصانع غويل للنسيج في ضاحية من برشلونة. صحيح أن مذبح تلك الكنيسة سيكون الوحيد الذي سينجز بحسب تصميم غاودي، ولكن ليس لخلاف أو لسوء تفاهم بين الصديقين، بل لأن غويل أراد من غاودي أن يبدأ بتحقيق مشاريع أضخم بكثير من ذلك الصرح العمالي. ومن هنا راحت المشاريع تتابع وراح غاودي يصممها وينفذها بتمويل سخي من صديقه الذي بالكاد راح يتدخل في عملية الإبداع نفسها أو يعترض على أي تمويل مطلوب. كان غاودي حراً تماماً في ما يفعل. وكان الاثنان متفقين على أن ما يفعله الفنان يجب ألا تحده حدود. كما اتفقا على أن يلجأ الفنان إلى أقصى حدود تجريبيته التي شاءها منذ البداية، وبمعرفة غويل، مزيجاً من الفنون القوطية والهندسة الإسلامية التي اتفقا منذ البداية على أنها تشكل جزءاً أساسياً من التاريخ الفني الإسباني فارضين هذه النظرة على كثر من مناوئيهما والمتطرفين. ومن هنا ما هو ملحوظ دائماً من غلبة الطابع الإسلامي ليس فقط على القبب والنوافذ والأعمدة ناهيك بغلبته على الغياب شبه التام للزوايا القائمة في معمار غاودي، وهو الغياب الذي لن يكون من العسير لاحقاً على زها حديد أن تتبناه وتطوره إلى حد الإعجاز تقريباً إذ وجدته يتطابق تماماً مع التراث الذي حملته وكيفته إلى درجة أن نالت عنه جائزة بليتزر المعتبرة "نوبل الفنون المعمارية"، التي كانت المرأة الوحيدة التي فازت بها منوهة بأن غاودي لو كان بيننا لكان من أعظم الفائزين بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقاحة الحداثة
من قصر "غويل" في حي الرامبلا في برشلونة، وواجهته بزينتها العربية المتضافرة مع ما يعتبر "وقاحة الحداثة كما ارتآها غويل ونفذها غاودي" إلى "بارك غويل" الذي زاوج فيه غاودي بين العناصر المبنية وعناصر الطبيعة في تكامل مذهل"، حقق غاودي ما كان يمكن أن يحلم به أي معماري أصيل: استفاد من تلك الحرية المذهلة التي مكنه صديقه من التوغل فيها على سجيته، ليحقق أحلاماً ما كان في إمكان مبدع آخر تحقيقها بما في ذلك استلهامه، كما يكتب الأديب الإسباني خوان غويتسولو، ليس فقط ذلك الربط مع الماضي العمراني للأندلس بل كذلك نوعاً من استلهامات إسلامية أخرى تمتد من منطقة الكابادوتشي التركية إلى الرياض المغربية في بعد يليق بالتمازج الخلاق بين الحضارات كما يتصور في أيامنا هذه. وطبعاً لا يمكننا أن نختم هذا الكلام من دون تأكيد أنه إذا كان اسم غاودي قد ارتبط باسم غويل فنياً وإنسانياً بل حتى سياسياً من خلال عملهما معاً لتخليد مدينتهما برشلونة وتمييزها كجزء من "أمة" كتالونية ذات خصوصيات، فإن إنجازات غاودي، وكما نرى في المعرض الباريسي الكبير المقام حالياً وحتى وسط يوليو (تموز المقبل) تشمل أعمالاً لرعاة وممولين كثر آخرين أسهموا معاً في تلك الإنجازات الفريدة التي تضع غاودي اليوم في مصاف كبار عباقرة التراث الإنساني...