وأخيراً، حسم الرئيس الأميركي جو بايدن قراره، وأعلن أنه لن يستجيب للمطلب الإيراني، ولن يرفع العقوبات عن حرس الثورة، أو يسحب اسم هذه القوات العسكرية عن لائحة المنظمات الإرهابية والداعمة للإرهاب.
قرار البيت الأبيض يأتي بعد سلسلة من المفاوضات غير المباشرة مع طهران للتوصل إلى تسوية، فلم تتجاوب إيران مع فكرة التقسيم الوظيفي لهذه المؤسسة، بأن ترفع العقوبات عن قيادة هذه المؤسسة بوصفها جزءاً من القوات العسكرية الرسمية للدولة الإيرانية، والإبقاء على قوة القدس، الذراع الإقليمية للحرس والنظام، التي تعتبرها واشنطن ودول المنطقة بأنها مصدر الخطر والتهديد لاستقرار وأمن الإقليم ودوله. وفضلت طهران التمسك بمطلبها وشرطها الاستراتيجي.
لكن القرار الأميركي لم يأت من فراغ، بل تعبير عن واحد من توجهين. إما أن تكون واشنطن قد حسمت موقفها وقررت إنهاء المفاوضات وإعلان وفاتها، بالتالي العودة إلى نقطة الصفر وتفعيل الإجراءات التي تضمنتها العقوبات المفروضة ضد إيران، وإما أن تكون قد حصلت على مؤشرات تسمح بتجاوز هذه العقدة، بما يساعد ويسمح بعودة جميع الأطراف إلى طاولة التفاوض، وإحياء الآمال بإعادة إحياء الاتفاق النووي.
لا شك أن المبعوث الأوروبي، إنريكه مورا، الذي زار طهران قبل أيام، والتقى كبير المفاوضين علي باقري كني، قد سمع كلاماً جديداً ومختلفاً من المفاوض الإيراني، سمح لمفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بالإعلان عن استئناف مفاوضات فيينا في الأيام المقبلة.
المتابعون لزيارة مورا إلى طهران، تحدثوا عن أجواء سلبية ومحبطة سادت أجواء الجلسة الأولى بينه وبين باقري، قبل حصول الانفراج في الجلسة الثانية التي سمع فيها الموفد الأوروبي كلاماً مختلفاً يبعث على التفاؤل، ومقترح إيراني يساعد على تجاوز عقدة الشرط الإيراني والتعنت الأميركي.
التسريبات عن تفاصيل الاقتراح الإيراني، الذي حمله مورا إلى بروكسل، تضمن قبول إيران عدم إدراج ملف عقوبات حرس الثورة في مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، شرط أن توافق واشنطن على فتحه لاحقاً، وأن تكون في إطار زمني محدد، ومقرونة بنوايا أميركية جدية للانتهاء من هذا الملف. وهو ما دفع الخارجية الإيرانية لتأكيد أن مستقبل الأزمة مرهون بقرار سياسي على الإدارة الأميركية أن تتخذه وتلتزم به.
هذا المتغير في موقف طهران، يأتي منسجماً مع مؤشرات جدية حول استعداد إيراني لتوسيع دائرة التفاوض إلى ما هو أبعد من البرنامج النووي والعقوبات الاقتصادية، لتشمل ملفات أخرى، في مقدمتها ملف الدور والنفوذ الإقليمي، تصب في استكمال المسار الذي بدأته في التعامل مع هذه الملفات، بخاصة الجهود التي تبذلها لتحسين علاقاتها مع السعودية، والمساعدة في الأزمة اليمنية، فضلاً عن تطوير التعاون الإيجابي القائمة في تحييد الساحة العراقية والمساعدة في حل عقدة الانسداد السياسي في هذا البلد، وتعطيل الاستحقاقات الدستورية فيه. وهي ملفات تشكّل مقدمة جدية لفتح ملفات أخرى ترتبط بالساحات السورية والفلسطينية واللبنانية، ما يعني ليونة إيرانية في استراتيجيتها التفاوضية القائمة على مبدأ الفصل بين الملفات وعدم التفاوض حولها كسلة واحدة.
وإذا ما كان القرار الأميركي استغل عملية الاغتيال التي طاولت أحد ضباط قوة القدس في حرس الثورة في طهران، واتهام تل أبيب بالوقوف وراءها، وعدم وجود حرص إسرائيلي في المقابل على التنصل من هذه المسؤولية، يعني أن الموقف بين الطرفين وصل إلى حائط مسدود، والجهود التي بذلتها المجموعة الدولية (4+1) قد عاد إلى نقطة الصفر أو المربع الأول، على الرغم من حجم التفاؤل الأوروبي والإصرار الإيراني على استئناف المفاوضات واستعدادها للعودة إلى فيينا في أسرع وقت، وهو الموقف الذي أبلغته للقيادات الأوروبية والعربية التي زارت طهران أخيراً ونقلت هذا الموقف الرسمي عن القيادة العليا للنظام.
في هذه الأجواء السلبية التي تقود للاعتقاد أن المفاوضات قد وصلت إلى نقطة النهاية، قد يكون في الأفق مؤشرات تحمل جانباً، أو تحمل على قراءة إيجابية لهذه التطورات. تقول بإمكانية حصول خرق في جدار الانسداد المسيطر على المفاوضات، بحيث يمكن اعتبار موقف الرئيس الأميركي من حرس الثورة جاء بعد التأكيد من الموقف الذي أبلغته طهران للمبعوث الأوروبي مورا، الذي تبلغه وزير الخارجية أنتوني بلينكن من مفوض الخارجية الأوروبية بوريل في الاتصال الهاتفي الذي جرى بينهما بعد عودة مورا إلى بروكسل.
وانطلاقاً من هذه القراءة، يمكن الركون إلى قراءة تقول بوجود رغبة متبادلة أميركية وإيرانية للعودة إلى التفاوض، وأن القرار جاء كخطوة أميركية لطمأنة الأطراف المتخوفة من خطوة رفع العقوبات عن حرس الثورة، وتحديداً الجانب الإسرائيلي الذي لم يتخل عن مساعيه لعرقلة المفاوضات، والضغط على واشنطن لعدم الاستجابة للمطلب الإيراني في هذا المطلب.
وإذا ما صحت هذه القراءة، فالمتوقع أن تشهد الأسابيع المقبلة عودة أطراف المجموعة الدولية إلى طاولة التفاوض، التي من المفترض أن لا تقتصر هذه المرة على الجانب النووي والعقوبات، بل من المفترض أو المحتمل أن تضع فيها الأطراف خريطة طريق لمعالجة الملفات الإقليمية المتوترة التي تشكل ساحة نفوذ إيراني، أو تملك فيها طهران تأثيراً مباشراً أو غير مباشر. تعززه المواقف الصادرة عن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في زيارة إلى سلطنة عمان، التي أكد فيها الدور العماني الإيجابي في تذليل العراقيل ماضياً وحاضراً، ولعب دور إيجابي في تسهيل التفاوض بين بلاده والمجتمع الدولي، وما قاله مسؤول مجلس العلاقات الخارجية والاستراتيجية الإيراني وزير الخارجية الأسبق كمال خرازي من الدوحة، بأن زيارة مورا إلى طهران فتحت الطريق أمام استئناف المفاوضات، بالتالي أن تشهد فيينا جولة تاسعة من التفاوض وأن تكون نهائية.