بعد بث فيديو كليب وصف بـ"المخل" لمغنية كردية شابة اعتمدت فيه على لون غنائي غربي يعرف بـ"راب ديس"، موجة جديدة من السجالات الحامية في إقليم كردستان العراق، بين قسم حذّر من خطورة هذا اللون على الذائقة الفنية والتابوهات لدى المجتمع الكردي، وآخر يرى فيه فناً "سطحياً عابراً" غير قادر على مجاراة "أصالة" الموسيقى والشعر الكرديين.
وكانت وزارة الثقافة وجهت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بعدم "بث فيديو كليب للمغنية كومساي بعنوان slaw bitch أي ’مرحبا أيتها الوغدة‘، بناء على شكاوى للمواطنين ووفقاً للمادة الثالثة من التعليمات رقم واحد لسنة 2014".
وقالت إن "مضمون الأغنية من حيث النص واللحن هزيل يخالف الأعراف ولا يحترم الدين والتقاليد الاجتماعية للمجتمع الكردي، كما أن من شأنه أن يفكك النسيج الأسري"، وشددت على أن "التزامكم عدم تداول مثل أعمال كهذه يصب في خدمة مجتمعنا ويعبر عن مهنية عالية، وبخلافه ستتخذ إجراءات قانونية بحق المخالفين".
وسجلت الأغنية خلال أربعة أيام فقط من بثها عبر منصة "يوتيوب" أكثر من 330 ألف مشاهدة، ونحو 3500 تعليق، وأكثر من تسعة آلاف إعجاب، ولدى كومساي أغنية أخرى منشورة في مايو (أيار) عام 2020، تجاوزت نسبة مشاهدتها 15 مليون مرة.
وسبق أن تعرضت المغنية لحملة انتقادات واسعة عقب نشرها أغنية من ألحانها وكلماتها مطلع عام 2020، على خلفية تبادل لقبلة بين بطلي الكليب، وطولبت المغنية "باحترام ثقافة وأعراف المجتمع الكردي".
تعبير عن الاحتجاج
ووجهت المغنية عبر حسابها في "فيسبوك" شكرها للدعم الذي تلقته من "الجمهور الواعي والمثقف"، ووصفت كلمات أغنيتها الجديدة بأنها "كلمات امرأة جريئة بأسلوب ’راب ديس‘ وهو لون غنائي شائع أدّاه مطربون عالميون كثر".
وأعربت عن سرورها بكونها "أول فتاة تعبر عن احتجاجها من خلال الموسيقى ضد اللاتي يصرف عليهن ملايين من الدولارت ثم يتباهين أمام الناس"، وقالت إنه "من السهولة الهجوم على الموسيقى والمرأة، في حين لا يمكن وقف الفساد".
وقد فسر البعض هذا الانتقاد بأنه موجّه ضد ظاهرة انتشار فتيات يطلق عليهن "الموديل" والمتهمات بتلقي الأموال من ميسورين وتجار كبار ومتنفذين في السلطة"، وختمت منشورها بالقول "لقد صنعت نفسي بنفسي".
ويعرف عن "ديس سونغ" بكونه لوناً غنائياً أميركي الأصل يحتوي على مفردات "بذيئة" توجّه ضد مغنين آخرين منافسين، وهي مشتقة من كلمة disrespecting أي "عدم الاحترام"، وفق موسوعة ويكيبيديا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رقابة أكاديمية
ويعتقد الفنان الكردي صلاح بايرام، الخريج من معهد حلب للموسيقى أن هذا الأسلوب من الغناء "له تأثير خطير ومباشر خصوصاً في الجيل الجديد، وهذا يتطلب وجود رقابة على مستوى الكلمات، على اعتبار أن الموسيقى والغناء هما أسرع وسيلة تصل إلى المتلقي أكثر من بقية الفنون"، وقال "أنا مع الرقابة لكن بشرط أن تكون أكاديمية متخصصة وليس عفوية، لأن غاية الفن هي الارتقاء بالإنسان وإبعاده عن الهمجية من حيث الفكر والثقافة وما إلى ذلك".
وحول مدى إمكانية فرض الرقابة في ظل التطور التقني والفضاء المفتوح على مستوى وسائل البث المتاحة في منصات الفيديو ومواقع التواصل الاجتماعي، رأى بايرام أن "هذه إشكالية تمثل عائقاً حقيقياً يصعب حله، طالما تتوافر منافذ متاحة لخرق الحظر، فإن الحل الأمثل يكمن في التربية الموسيقية سواء في البيت أو المدرسة، وأحد أكبر الأخطاء في الإقليم هو عدم تدريس الموسيقى من الصف الأول الابتدائي، وهذا مطلوب لخلق طفل مثقف موسيقياً، قادر على التمييز بين الجيد والسيّء، وفي النهاية عندما يكبر حينها سيكون حراً في الاختيار"، وبيّن أن "تراث الغناء الكردي لا يخلو من عبارات ومفردات فيها نوع من الإيحاءات الجنسية، كما لدى بقية الشعوب، لكن النقطة الأساس تكمن في انحطاط مستوى الكلمة واللحن".
وجاء موقف الوزارة استجابة لطلب من الشاعر الكردي توانا أمين، استهله بكتابة عنوان الأغنية "مرحبا أيتها الوغدة"، وقال "عذراً هذا ليس تعبيري، بل عنوان أغنية"، وأردف "غالباً ما أرى بعض الناس يسعى إلى تحقيق الشهرة، من خلال جذب انتباه الآخرين، وذلك عبر اقتحام المحظور، مثل هؤلاء يحطمهم الهامش، ولديهم عقدة نقص مزمنة".
وأوضح أن "مضمون هذه الأغنية جنسي بحت، خالٍ من النص واللحن والأداء، هذه الكلمات السوقية، مع احترامي للسوق التي ينطق فيها أحد بمثل هذا الكلام"، وتساءل "لماذا يجب أن يسمعها أطفالنا؟ وكم هو حجم العبء الذي تلقيه على الفن والموسيقى الكردية؟، لذا على وزارة الثقافة أن تمنع هذه الأغنية لكي نضع حداً لهذا الانفلات وأن لا يتشجع آخرون على إصدار أغنية فارغة".
لكن أمين تعرض لانتقادات حادة على دعوته واتهموه بالتناقض، وتبادل المنتقدون أحد مقاطعه الشعرية يعبر فيه لامرأة عن اشمئزازه من "عادتها الشهرية"، ويطالبها بعدم الخروج من البيت عندما يحين موعدها.
تطور مشروط
في المقابل، تشكو شريحة واسعة من الشباب والمراهقين تشبث الأجيال السابقة بالموروثات الموسيقية "القديمة" من دون إعطاء الفسحة لظهور أجيال تختلق أسلوباً غنائياً يتماشى مع العصر، وحول ذلك يعود الفنان بايرام الذي يدير فرقة "سرخبوون الكردية" ويقيم في الإقليم منذ ثمانية أعوام ليقول إنه "مع الفن الأصيل، لكن ليس مع عدم تطوير الفنون التراثية والفولكلورية، شرط أن يتم ذلك بمسؤولية من خلال المحافظة على الشعر الأصيل وتنقيحه من الشوائب وكذلك اللحن وعدم تشويهه، وإيصاله بطريقة راقية، حتى لو بواسطة ألوان عدة سواء البوب أو الجاز أو الهيب هوب".
واستدرك "لكن نحن نعيش في مجتمع متحفظ لديه عادات وتقاليد لها تابوهاتها، وعليه فإن الكلمات الخادشة للحياء العام مرفوضة لدى الغالبية، والرقابة ترتكز على هذه النظرة التي أراها ضيقة، في حين يجب أن تكون أوسع وأشمل وليس مجرد مسألة كلمات خادشة، وهذا عمل لجان فنية متخصصة لتقييم المنتج من حيث اللحن والشعر، وليس النظر إلى ما يتقبله الموروث أو يرفضه، وفي النهاية، فإن النوع الهزيل من الأغاني مؤقت وسيتلاشى سريعاً، فيما تستمر الأغاني الخالدة ذات المضمون الشعري واللحني والأداء الجميل. قد تكون هناك مبالغة في الخوف من النمط الحديث لكنه نتيجة الفوضى القائمة".
ترويج مجاني
ولاقى القرار ردود أفعال وسجالات محمومة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وعلّقت صفحة "هيما نيازي"، المعنية بوجهات النظر في مجال الاجتماع والفلسفة والثقافة ولها جمهور واسع، على قرار الحظر، قائلة إن "وزارة الثقافة كأنها تعيش في زمن أعوام السبعينيات، فإذا لم يعجبها إنتاج فني ما، تسرع في إصدار قرار بحظره".
وتساءلت "هل نحن نعيش في الماضي عندما كانت لدينا قناة تلفزيونية واحدة فقط لكي يتم فرض الرقابة؟، بينما في الواقع هناك منصة يوتيوب وعشرات مواقع التواصل الاجتماعي التي لا يمكن مراقبتها"، ونوهت الصفحة إلى أن "هذا القرار سيكون مردوده عكسياً، لأنه سيدفع كثيرين إلى مشاهدة الأغنية، بالتالي سيزداد عدد المشاهدات، وهذا في النتيجة سيكون بمثابة دعاية مجانية".
وعلّق المواطن خلات كاشاني معرباً عن أسفه "لأن كثيرين بينهم مثقفون ينظرون إلى هذه الأغاني من منظار التطور، وللأسف أيضاً، فإن الكرد بعد 30 عاماً من تمتعهم بحكم ذاتي، لم يستطيعوا الحفاظ على ثقافة وتراث الفرد الكردي".
بينما قال طاهر شيخ صالح إن "هؤلاء الفنانات يعادين أنفسهن، مهووسات بترخيص أنفسهن، وتحويلها إلى سلعة رخيصة، والمؤسف أن وزارة الثقافة تروّج للأغنية من حيث لا تدري".
وفي السياق ذاته، ذهب هاشم هورامي إلى القول إن "محتوى مثل هذه الأغاني البعيدة من الفن يعكس مشكلة نفسية يعاني منها أصحابها، ولديهم مشكلات شخصية مع آخرين"، وأضاف أن "مثل هذه الحالات شوّهت الذائقة الفنية، وإذا لم نوقفها، فإن الأجيال المقبلة ستكون معدومة من الفن".
ودعا مستخدمون آخرون إلى اتخاذ قرارات بحق مغنيات أخريات شهيرات مثل المغنية المعروفة هيلي لف، إذ تقول في إحدى أغنياتها إن "جسدي يستحق مليوناً على أقل تقدير، وأحب اللامبورغيني والمازيراتي"، في إشارة إلى السيارات العالمية الفارهة.
فضاء من دون معايير
من جانبه، يؤكد الشاعر الكردي مؤيد طيب أن "الفن في مضمونه رسالة، يمثل قيم الخير والجمال والإحساس، لكن في هذا العصر لدينا فضاء مفتوح في عالم التكنولوجيا وما توفره من فرص وتقنية متاحة ومجانية، بإمكان أي شخص أن ينشر ما يجول في خواطره من دون حواجز والبعض ربما تجاوز كل الخطوط الحمر"، واستدرك "لكن في النهاية، فإن مكانة الشعر واللحن والأداء الرصين ستبقى وستستمر في حين أن الفن ذا المحتوى الهابط والمبتذل دائماً كان هامشياً ويتلاشى مع الوقت".
وحول موقفه من تزايد الإقبال على هذا النمط من الأغاني، قال طيب إن "مسألة نسب المشاهدات لأي منتج فني ليست معياراً بأنه الأفضل، كمثال على ذلك، فإن الشاعر شارل بودلير لم يكُن موضع اهتمام الناس، واعتُبر لاحقاً رائد قصيدة النثر في الشعر عالمياً. صحيح أننا قد لا نملك علاجاً لمنع انتشار الفن المبتذل والرقابة قد لا تكون مجدية، مع اتساع مساحة وأدوات النشر، بالمقارنة مع ما قبل دخولنا الألفية الثالثة، ربما نستطيع أن نفرض رقابة نوعية في مجال الصحافة والإعلام، لكن من المستحيل فرض الأمر على عالم التواصل الاجتماعي. كما أن الفن المبتذل موجود منذ القدم، كل ما في الأمر أنه وجد فسحة للانتشار بواسطة التقنيات الحديثة".
وخلال العقد الأخير، تزايد ظهور مغنيات أنتجن أغاني مصورة يغلب عليها الطابع الغربي من حيث الرقص والأزياء والتي قد تنظر إليها الشريحة العظمى من المجتمع الكردي من باب الانحراف عن ثقافته وتقاليده، وقد تعرضت لانتقادات ومُنع بعضها من العرض، آخرها كان في خريف العام الماضي، عندما دعت نقابة الفنانين إلى "حظر بث أغنية من إنتاج ملحن شهير تم تصويرها في صف للدراسة الإعدادية، وتناولت العلاقة بين المدرس والطالبة بصيغة مخالفة للآداب العامة"، وقالت النقابة إن "الأغنية لها انعكاس سلبي على التعليم، ناهيك عن ركاكتها الفنية".
ويؤكد بعض النقاد أن التراث الغنائي الكردي هو الآخر لا يخلو من كلمات فيها إيحاءات جنسية تنافي الأعراف والتقاليد السائدة، وأن للقصة جذوراً، لكن طيب رد على هذه الرؤية قائلاً إن "تلك الأشعار أو الكلمات لم تكُن مبتذلة، بل كانت وصفاً لحالة كلوحة شعرية مجازية، وبمرور الزمن كانت تضاف إليها كلمات على المستوى الشعبي ثم تتداولها الأجيال، إلا أننا نملك أغنية كردية جادة تناولت المعاني الإنسانية كافة في حب المرأة والوطن والمآسي".
وحول طبيعة تابوهات المجتمع الكردي، أكد طيب أن "حالها مثل حال جميع المجتمعات الإسلامية، في مقدمتها الدين الذي اشتدت فيه الرقابة أكثر من السابق، وثانياً المرأة وما يرتبط بها من تقاليد وأعراف على الرغم من أن هناك بعض الانفتاح مع انتشار الفضائيات، وثالثاً تابوهات على صعيد السياسة، التي شهدت أخيراً انفتاحاً وحرية أوسع، خصوصاً بعد سقوط الديكتاتورية في العراق عام 2003".