الضجة التي تعالت في أعقاب إعلان هنري كيسنجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، عن رؤيته تجاه سبل الخروج من المأزق الراهن في شأن أوكرانيا لم تخفت بعد. ففيما رأي كثيرون أن ما طرحه كيسنجر في حديثه أمام المنتدى الاقتصادي في دافوس من رؤى بشأن ضرورة سرعة التحول إلى مسار المفاوضات، وما يعقب ذلك من تبعات، أمر يقترب من مقتضيات الواقعية، انتقد آخرون، منهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وكبار موظفي الخارجية الأميركية، ما قاله كيسنجر. وجاء ذلك في توقيت مواكب لما طرحه الملياردير اليهودي الأميركي جورج سوروس من رؤية مغايرة لما أوجزه كيسنجر، انطلق فيها صاحب فكرة "الثورات الملونة" من مواقف مسبقة، موغلة في العداء لروسيا وزعيمها فلاديمير بوتين.
وإذ لم يخرج ما طرحه سوروس عن الرؤية التي يتبناها الإعلام الغربي من واقع ما حددته الإدارة الأميركية من خطوط فاصلة ومسارات يلتزم الرئيس الأوكراني بعدم الخروج عنها، شأن سابقيه الذين وصلوا إلى سدة الحكم في كييف منذ ثورتهم البرتقالية الأولى في عام 2004، فإن رؤية عميد الدبلوماسية الأميركية تبدو أكثر واقعية وقابلية للتطبيق في ظل ما تشهده الساحة السياسية والعسكرية من متغيرات، وانطلاقاً من خبرة بالواقع الروسي وقبله السوفياتي، فضلاً عن زيارات ولقاءات وعلاقة شخصية نسجها مع بوتين منذ لقائهما الأول في سان بطرسبورغ في مطلع تسعينات القرن الماضي.
عبر الفيديو، وقفزاً فوق متاعب الزمن وما يفرضه من قيود مشارف المئة عام، تواصل عميد الدبلوماسية الأميركية مع ضيوف منتدى دافوس ممن حالت قيود "الديمقراطية الغربية الجديدة" دون مشاركتهم أصحاب القضية الحقيقيين، بعد رفض توجيه الدعوة إلى أي من ممثلي روسيا بكل ما يعني ذلك من دلالات. وكعادته، حرص كيسنجر على معالجة القضايا العالمية والإقليمية عبر سياسة "الخطوة خطوة"، وانطلق مما كان توصل إليه منذ حوالى نصف قرن، حول أن ما يمر به العالم من متغيرات يستوجب ضرورة التوافق العالمي تجاه ما تفرضه هذه المتغيرات من اضطرابات وتطورات. وعلى نحو يقترب من المثل الصيني القائل إنه "إذا أردت أن تحقق النصر على عدوك، فإنه يجب عليك أن توفر له جسراً للانسحاب"، قال كيسنجر إن أي حرب في العالم لا بد أن تنتهي بمفاوضات تحدد مسار التسوية السلمية. وأعاد إلى الأذهان ما سبق وكتبه تعليقاً على فكرة انضمام أوكرانيا إلى الـ"ناتو". فأشار إلى أن الوضع الأمثل قد يكون في ضرورة تضمين دستور أوكرانيا ما ينص على وضعيتها المحايدة بما تكون معه جسراً للتواصل بين روسيا وأوروبا. وأكد أن استمرار الحرب ومحاولة "تركيع روسيا" سيكون أمراً "خارجاً عن القانون ويخلق اضطرابات شديدة في العلاقات بين روسيا وأوروبا، ستصعب السيطرة عليها في وقت لاحق". وذلك ما يقترب مما سبق وأشار إليه بوتين، حين كشف عما يتضمنه الدستور الأوكراني من بنود تنص على أهداف أوكرانيا ومنها الانضمام إلى الـ"ناتو" والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الالتزام باستعادة شبه جزيرة القرم ومنطقة الدونباس حتى لو تطلب الأمر استخدام القوة العسكرية".
التحرك نحو التسوية
ولا بد هنا من التوقف عند ما أعلنه سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية عن أن "أوكرانيا كانت تعتزم مهاجمة جمهوريتي دونيتسك، ولوغانسك في الثامن من مارس (آذار) الماضي"، وهو ما فرض على موسكو استباقه بـ"العملية العسكرية الخاصة"، على غرار ما سبق واتخذه بوتين من قرار بشأن "ضم" القرم في مارس (آذار) 2014 قبل دخول البوارج الأميركية إلى القرم بساعات معدودة، بحسب اعترافاته التي أدلى به إلى القناة الإخبارية الروسية الرسمية ضمن الشريط الوثائقي الذي جرى بثه في الذكرى الأولى لانضمام القرم إلى روسيا في مارس 2015.
أما عما طرحه كيسنجر سبيلاً للخروج من المأزق الراهن، فيتلخص في ضرورة التحرك نحو "التسوية في أوكرانيا خلال الشهرين المقبلين لتجنب العواقب الوخيمة لتجاهل الغرب مكانة روسيا في ميزان القوى الأوروبي، وما يمكن أن ينجم عن ذلك من تأثيرات في العلاقات الدولية بوجه عام"، والتي أشار إلى أنها يمكن أن تغدو أكثر صعوبة وتعقيداً، بما في ذلك على صعيد العلاقات بين روسيا وأوروبا من جانب، وبين أوكرانيا وأوروبا من جانب آخر. وأضاف أن "الوضع المثالي هو إعادة الخط الفاصل إلى الوضع الراهن"، مؤكداً أن "على الغرب التوقف عن محاولة هزيمة روسيا على يد الجيش الأوكراني لتجنب كارثة في أوروبا". وأشار إلى أن "نتيجة الأزمة الحالية في أوكرانيا، في المجالين العسكري والسياسي، ستؤثر في العلاقات بين البلدين في المستقبل". وخلص كيسنجر إلى أن "تحقيق الوضع المحايد لأوكرانيا وتشكيلها كجسر بين روسيا وأوروبا هو الهدف الرئيسي في الوضع الحالي"، وهو ما اعتبرته المصادر الغربية دعوة من جانب كيسنجر إلى الغرب "إلى إجبار أوكرانيا على التفاوض من دون إطالة أمد الأزمة".
سوروس وهزيمة روسيا
لكن، ماذا عما اقترحه جورج سوروس بهذا الشأن؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انطلق سوروس من أن الصراع الروسي- الأوكراني، "قد يكون البداية لحرب عالمية ثالثة". أما الحل فقد وجده صاحب فكرة إشعال فتيل "الثورات الملونة" في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، في ضرورة العمل من أجل "إلحاق الغرب الهزيمة بقوات الرئيس فلاديمير بوتين في أسرع وقت ممكن"، على اعتبار أن ذلك هو "الطريقة الأفضل للحفاظ على الحضارة الحرة". ووصف العمليات العسكرية في أوكرانيا بأنها "جزء من صراع أوسع بين المجتمعات المنفتحة والمجتمعات المنغلقة مثل الصين وروسيا". ولعل ذلك ما يعنى أن سوروس يظل عند رأيه تجاه كون "روسيا بوتين هي تهديد للحضارة الغربية، ويجب هزيمتها. وبأي ثمن". وذلك ما عاد سوروس وأكده بقوله إنه "يجب علينا حشد مواردنا من أجل إنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن"، بما يعني "هزيمة روسيا، وليس مفاوضات السلام".
ومن اللافت في هذا الصدد أن ما يطرحه سوروس هو ما يلقى رواجاً لدى معظم النخبة الأوروبية، من منطلق تماهيه مع ما تتبناه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من توجهات منذ دخل البيت الأبيض، على صهوة جواد العقوبات والضغوط ضد روسيا وبوتين. وهكذا تتلاقى الرؤى والتوجهات، لتغدو النخب الأوروبية أسيرة الأفكار التي تقول بضرورة استمرار دعم أوكرانيا في حربها التي تقوم بها نيابة عنهم ضد روسيا، في مواجهة آراء الواقعيين ممن يعبر عنهم كيسنجر.
"أخطاء" بوتين
وفي هذا الصدد يتوقف مراقبون في موسكو عند ما قاله كيسنجر، في حديثه إلى صحيفة "فايننشال تايمز"، عن أننا "نعيش في عصر جديد"، مشيراً إلى أن الوضع الجيوسياسي على مستوى العالم سيشهد تحوّلات كبيرة بعد انتهاء حرب أوكرانيا. وإذ أشار إلى أنه "ليس من الطبيعي أن تكون للصين وروسيا المصالح نفسها في جميع المشكلات المستقبلية، خلص سوروس إلى أن ذلك سيفرض بالتبعية إعادة روسيا، بعد حرب أوكرانيا، تقييم علاقتها مع أوروبا على أقل تقدير، إلى جانب موقفها العام تجاه الناتو".
وعلى الرغم مما قاله كيسنجر عن "أخطاء" بوتين، وفي مقدمها ما وصفه بـ"الغزو الروسي لأوكرانيا"، يعرب كثيرون من المراقبين في موسكو عن مواقف تتراوح بين القبول والتحفظ تجاه ما طرحه كيسنجر من آراء، انطلاقاً من اعتراف بأنه من أكثر الساسة الغربيين معرفة ببوتين واقتراباً منه منذ عقود. وفي هذا الصدد، كشف كيسنجر عما خلص إليه بعد العديد من لقاءاتهما، ومنه أن "المعتقدات الأساسية لبوتين تقوم على نوع من الإيمان الصوفي بالتاريخ الروسي، وأنه تعرض للإهانة بسبب الفجوة الهائلة التي ظهرت بين أوروبا والشرق... لقد تعرض للإهانة لأن روسيا شعرت بالتهديد بضم هذه المنطقة بأكملها إلى الناتو". وعلّق كيسنجر على هذا بالقول "هذا ليس عذراً، وأنه لم يكن يتوقع هجوماً بحجم الاستيلاء على دولة معترف بها".
أضاف كيسنجر أنه يعتقد بأن "بوتين أخطأ في تقدير الموقف الذي واجهه دولياً، ومن الواضح أنه أخطأ في تقدير قدرات روسيا. والسؤال الآن هو إلى متى سيستمر هذا التصعيد وإلى أين قد يتجه". ولم يغفل كيسنجر الإشارة إلى الصين وماهية الدروس والاستنتاجات التي قد تكون خلصت إليها، مؤكداً أن "أي زعيم صيني سيفكر الآن في كيفية تجنب الوقوع في الموقف الذي وضع فيه بوتين نفسه، وكيف تتجنب بكين انقلاب العالم عليها".
ولعل ما قاله كيسنجر عن "الإيمان الصوفي لبوتين بالتاريخ الروسي" هو ما يستند إليه الرئيس الروسي في معالجة كثير من "خطايا" التفريط في الاتحاد السوفياتي وما أسفر عنه من انهيار سبق ووصفه بوتين بأنه "أكبر الكوارث الجيوسياسية في القرن العشرين". وذلك ما حاول بوتين شرح كثير من تفاصيله في مقاله الأكاديمي الذي نشره في يوليو (تموز) 2021 عن الأصول التاريخية المشتركة للشعبين الروسي والأوكراني ومعهما بيلاروس. ومن اللافت أن ذاك المقال، وما أثاره من جدل ونقاش، كان يحمل في طياته كثيراً من المؤشرات والإيحاءات التي تفسر ما جرى ويجري من تطورات ومتغيرات في المنطقة، بما في ذلك "استعادة" روسيا منطقة الدونباس التي أشار إليها بوتين في المقال تحت اسم "نوفوروسيا" (روسيا الجديدة) التي كانت موسكو ولا تزال تعتبرها "أراضي روسية"، فضلاً عن شبه جزيرة القرم التي "استعادتها".