كصوت المحراث أو أشد ضجيجاً، تدور طائرات الاستطلاع الإسرائيلية في سماء غزة، ولا تفارق أجواءها ليلاً ولا نهاراً، لتشكل مصدراً للقلق والتوتر النفسي لنحو مليوني إنسان يعيشون بالأساس وسط منغصات الحياة عموماً.
وعلى الرغم من أن طائرات الاستطلاع، أو "الزنانة" تبعاً للتسمية العامية لها في غزة، لا تفارق السماء منذ انتهاء القتال العسكري الذي جرى العام الماضي، فإن تحليقها المكثف غير الاعتيادي بات سبباً لحالات التوتر النفسي والأرق الذي يشكو منه سكان غزة، وفقاً لتقديرات المرشدين النفسيين.
ضجيج "الزنانة"
منذ بدء التوتر الأمني في مارس (آذار) الماضي بين غزة وإسرائيل على خلفية الأحداث الدائرة في القدس الشرقية، أرسلت إسرائيل إلى سماء غزة عدداً كبيراً من طائرات الاستطلاع، جزء منها يسميه الأهالي "الزنانة"، ويصدر أصواتاً غريبة غير متجانسة تتجاوز شدتها المعدل الطبيعي المسموح به للأذن، وهي غير طائرات الاستطلاع التقليدية التي اعتاد السكان سماعها.
منذ فترة، يشكو سكان غزة من قلق نفسي وتوتر وأرق أصاب ليلهم، ووفقاً للمرشدين النفسيين والاجتماعيين، فإن صوت أزيز "الزنانة" الذي يصم الآذان، أحد أسباب القلق النفسي والإزعاج والهلع الذي تريد إسرائيل بثه في نفوس أهالي القطاع، إذ باتت طائرات الاستطلاع تشكل هاجساً نفسياً.
في المقابل، تبرر إسرائيل سبب تحليق طائراتها بأنها تعمل على جمع بنك أهداف. ويقول متحدث الجيش أفيخاي أدرعي، إن التحليق المكثف للطائرات يأتي في إطار المناورة العسكرية الكبيرة التي تجري في بلاده.
توتر نفسي
ريم أم لطلفين كلاهما أصيبا بنوبة هلع إبان القتال الأخير نتيجة أصوات الانفجارات الشديدة التي كانت تشهدها منطقتها، وتعد نفسها أكثر الحالات المتضررة حالياً من ضجيج طائرات الاستطلاع، كونها تعيش في منطقة زراعية خالية من المباني والسكان، وفيها يكون صوت أزيز "الزنانة" شديد الارتفاع.
تقول ريم إن طفليها تلقيا جلسات إعادة تأهيل نفسي، بعد العملية العسكرية الأخيرة، نتيجة حالة الهلع والأرق والخوف التي إصابتهم من أصوات الانفجارات ومشاهد القتل والدمار الذي حل بمنطقتها، وباتت تصرفاتهم طبيعية، لكن بعد التحليق المكثف "للزنانة" ساءت حالتهم كثيراً.
ريم تضيف، "فور حلول الليل، يرتفع صوت الزنانة كثيراً، ما سبب لأطفالي حالة نفسية، فالأول بات لديه تبول لا إرادي وأرق متواصل، وكثيراً ما يراقب نوافذ الغرفة ليتفقد ما إذا عادت الحرب أم لا، وعند سماعه ضجيج الطائرة، يحدثني عن ذكريات لم تفارق عقله حول الدمار". وتتابع، "عند منتصف الليل يستيقظ طفلها الثاني ليخبرها عن أحلام مخيفة، ويتساءل (هو فيه حرب يا ماما)، وبسبب الزنانة سيعود الطفلان لتلقي جلسات دعم وتأهيل نفسي من جديد". وتابعت، "أنا وأولادي مرعوبون، نشعر أننا لا نعيش في أمان، وجودها يقلقنا نفسياً ويصيبنا بالتوتر ويجعلنا نفقد أعصابنا، نحن ما زلنا نشعر بأجواء الحرب".
الموجات غير المتجانسة تسبب الصدمات
بحسب بيانات المسح الذي يجريها جهاز الإحصاء الفلسطيني، فإن نحو 110 آلاف فرد في غزة أبلغوا عن حالات من الهلع أو التوتر النفسي أو الاضطرابات لدى مراكز الدعم النفسي والاجتماعي في الفترة الممتدة بين مارس الماضي، وحتى مايو (أيار) الجاري، أي خلال التوتر الأمني الذي تشهده الأراضي الفلسطينية. وتقدر وزارة الصحة الفلسطينية أن 22 في المئة من إجمالي سكان غزة يعيشون حالياً اضطرابات نفسية نتيجة التهديدات المتبادلة بين إسرائيل والفصائل بالعودة إلى القتال العسكري، فيما تشير بيانات "صحة غزة" إلى أن 70 في المئة من سكان القطاع (أي نحو مليون ونصف) يحتاجون برامج دعم نفسي بعد جولة القتال الأخيرة. أما منظمة الصحة العالمية فقد وثقت أكثر من 210 آلاف حالة اضطراب نفسي في غزة، وبحسب تقريرها فإن 9 من بين 10 أفراد في غزة يعانون صدمة النزاع نتيجة العوامل الأخيرة التي يعيشونها.
يوضح أستاذ العلوم النفسية فضل أبو هين أن هذه الأرقام قد لا تكون نتيجة ضجيج طائرات الاستطلاع بالتحديد، بل انعكاس لما خلفته العمليات العسكرية بعمومها، لافتاً إلى أن تحليق تلك الطائرات هدف نفسي، فهي تحيي الصور المرعبة والذكريات الأليمة التي خلفتها الحروب، وتجعل الفرد في حالة اعتقال نفسي وعقلي يفقده الإحساس بالأمن، ويؤثر ذلك على جهاز المناعة البدني والنفسي على حد سواء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف، "استرجاع الذكريات المرتبطة بصوت الطائرات يظهر أعراض نفاد مخزون الطاقة العقلية، ولهذه الموجات غير المتجانسة تأثيرات صدمية آنية وبعدية تؤثر في الجهاز العصبي، وينتج منها زيادة اضطرابات القلب ووقوف شعر الرأس والفزع أثناء النوم والتبول اللاإرادي وفقدان الشهية للطعام".
بحسب علم النفس، فإن جميع العلامات المختزلة في عقل الإنسان تحيي في داخله كثير من الصور المرعبة وغير المنطقية، ويؤكد أبو هين أن هناك نية لإحداث أثر نفسي سلبي من خلال الأصوات المرتفعة لطائرات الاستطلاع، بخاصة أن بالإمكان تسييرها من دون أي صوت، لكن القاعدة تقول، "تفوق الهزيمة النفسية للمجتمع الهزيمة المادية".
على الرغم من عدم حصول أي سلوك سلبي في تعامل الناس مع بعضهم البعض بفعل أصوات الطائرات، وفق أبو هين، فإن مواصلة التحليق والأصوات المزعجة، يمكنها خلق نمط من السلوك غير التوافقي بفعل امتلاء الإنسان بالمشاعر السلبية.
جزء رئيس في المنظومة العسكرية
طائرات الاستطلاع التي تحلق على مدار الساعة تشكل قطعة رئيسة في الترسانة العسكرية الإسرائيلية لما تمثله من أهمية، إذ أجرت نحو 75 في المئة من الطلعات الجوية خلال قتال مايو الماضي، بحسب صحيفة "يديعوت أحرونت". ويستخدم الجيش 11 نوعاً منها، وتعد غرفة عمليات كاملة، فهي مزودة بأحدث أجهزة التجسس، وتبث صورها مباشرة للاستخبارات الإسرائيلية عبر أجهزة رؤية ليلية وأجهزة استشعار حراري وأجهزة التقاط موجات الهواتف الجوالة، ولم تعد مهمتها تجميع بنك أهداف، بل باتت تحمل ذخائر أيضاً.
وتظهر إحصاءات مركز "الميزان لحقوق الإنسان" أن إسرائيل قتلت بواسطتها 911 فلسطينياً من أصل 2269 في قتال 2008، أما في 2012 فقد قتلت 143 فلسطينياً من أصل 171. ومن أشهر طائرات الاستطلاع التي تستخدمها إسرائيل في غزة "كواد كابتر" و"هيرمز 450"، وهما نوعان لعمليات الرصد الليلي وتحملان 380 كيلو غراماً من المتفجرات، ويمكنهما التحليق لمدة 30 ساعة متواصلة، ويتم التحكم بهما عن بعد ألف كيلو متر. وكذلك طائرة "سكاي رايدر"، التي تعمل مع الوحدات الأرضية لتحديد الأهداف، و"ثاندر بي" التي تستخدم للاستطلاع الإلكتروني والمسح الجوي وتحديد الأهداف، أما "إيتان" فتستخدم في مهام الاستطلاع والتجسس، والعمليات القتالية عبر الصواريخ والقنابل الموجهة.
يقول الباحث في الشؤون العسكرية يوسف الشرقاوي، "أصبحت الزنانة تقوم بالتصوير والتعقب، والاغتيال والتصفية الجسدية، وتوجيه الطائرات الحاملة للقاذفات"، مشيراً إلى أن "انتشارها بشكل مكثف لا يرتبط دائماً بقرب شن هجوم على قطاع غزة، فزيادة تحليقها مرتبط بارتفاع حدة التصريحات والأحداث الميدانية".