بدت إيران أكثر تماسكاً خلال الأيام والأسابيع الأخيرة في تعاملها مع مفاوضات الاتفاق النووي، ومارست ازدواجية صريحة في مقارباتها النووية والإقليمية، فيما ظهر الارتباك لدى المفاوضين الآخرين، الأوروبيين والأميركيين ومعهم إسرائيل، التي انعكست انقساماتها السياسية الداخلية على التقييمات التي يحملها ممثلوها للنقاش مع الإدارة الأميركية.
كانت إيران تعيش صدمتين في داخلها عندما أرسلت وزير خارجيتها، حسين أمير عبد اللهيان، إلى منتدى "دافوس" العالمي، ليظهر في مظهر المدافع عن سياسة بلاده السلمية المتعاونة مع العالم، التي لا تطلب سوى رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية عنها، لكي تواصل حياتها التي لا تتخللها أية طموحات أو مشاريع تسلح نووي.
قفزت إيران فوق الاحتجاجات الشعبية، التي تشهدها مدنها، وتجاهلت الخروقات الأمنية الإسرائيلية التي أطاحت بأحد كبار ضباط حرسها الثوري، وذهبت بدبلوماسية فائقة إلى المنتجع السويسري لتقول على لسان اللهيان إن "رفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب الأميركية، قضية فرعية تضخمها إسرائيل، وأولويتنا هي مصالح الشعب الإيراني والمطالب الاقتصادية في إطار التجارة العالمية".
لم يعد "الحرس" مشكلة، إنه قضية فرعية تثيرها إسرائيل حسب الوزير الإيراني، والأساس رفع العقوبات عن الاقتصاد والتجارة الدولية لإيران. كلام من هذا النوع يبدو ملائماً في "دافوس"، حيث يجتمع أقطاب المال والأعمال من العالم، وسط حضور خليجي بارز، وغياب أو تغييب كامل لروسيا، وانكفاء صيني فرضته ظروف تجدد انتشار "كورونا". وهو كلام بدا متناغماً في تفاؤله مع مساعي المفاوض الأميركي، روبرت مالي، الذي أبلغ الكونغرس استناداً إلى مباحثاته مع درور شالوم، رئيس الدائرة السياسية الأمنية في وزارة الأمن الإسرائيلية، أن "العودة إلى الاتفاق هي خطوة جيدة بالنسبة إلى إسرائيل في المرحلة الحالية".
جاء كلام مالي ومعه الخلاصات الأخيرة التي توصلت إليها إسرائيل المنقسمة حكومياً، ليلتقي اللهيان في منتصف الطريق، فإذا كان الحرس الثوري معضلة تعيق طريق العودة إلى اتفاق 2015، فإنه مسألة فرعية لا تستحق الذكر، بحسب إيران، فالأهم فتح الأسواق أمام إيران لتأتي الأموال ويتعزز نشاط الحرس الخارجي، عبر فروعه العاملة والجاهزة منذ معركة "خرمشهر".
كانت دبلوماسية الابتسامة الظريفة سائدة في "دافوس"، عندما كان يجري رفع مستوى التوتر على جبهات إيران الأخرى.
رداً على الاحتجاجات الشعبية المعيشية رفع الإمام الخامنئي الصوت منادياً، "إن المثل العليا للثورة الإسلامية هي العلاج للآلام التي تعانيها البلاد". وسرعان ما تم تعميم هذا العلاج على لسان ممثلي الخامنئي في الداخل والمنطقة، على الرغم من نصيحة المرشد بأن "إلقاء الخطب الحماسية والتصريحات الغاضبة ليست من علامات الشخص الثوري".
كان قائد فيلق القدس العميد إسماعيل قاآني يتحدث في ذكرى معركة خرمشهر ضد العراقيين عندما حرص على التذكير بأن "ثقافة تحرير خرمشهر شكلت انطلاقة تأسيس حزب الله لبنان"، ليستطرد أن الحزب المذكور يرد على الكيان الصهيوني "كلما تعرض لأحد أبنائه"، "فيهرب جنود الاحتلال ولم يبق صهيوني واحد يرتدي الزي العسكري في الساحة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نسي القاآني أن يشير إلى مقتل أحد ضباطه في طهران قبل أيام، لكن خطابه الخرمشهري كان فاتحة لخطابات ترددت من بيروت إلى غزة، وصنعاء تحذر من انفجار إقليمي في ما لو تعرضت إسرائيل لقبة الصخرة التي بناها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 691 للميلاد، وصمدت دهوراً وحروباً.
حركة "حماس" ومثلها "الجهاد الإسلامي" اعتبرتا اقتحام الأقصى، الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب، بمثابة "برميل بارود سيشعل المنطقة"، وسبقهما أمين عام "حزب الله" قبل ساعات إلى القول من لبنان المنهار كلياً، إن أي مساس بالأقصى "سيؤدي إلى انفجار كبير في المنطقة .
تعابير واحدة تكررت على لسان عسكريي محور المقاومة، الذي تقوده إيران، حول وضع فلسطيني لم ينل من إيران سوى "خطابات ثورية" وتعميق لانقسامات لا شفاء منها.
في المقابل تمعن إسرائيل في تفصيل استعداداتها لمعركة مقبلة سيذهب ضحيتها الآلاف من اللبنانيين، كما قال رئيس أركانها أفيف كوخافي، في سياق مناوراته العسكرية، وهي بذلك تقدم حطباً لخطابات نارية لا تبقي في إسرائيل والمنطقة حجراً على حجر.
غريب التزامن في كل هذا، خطاب مهادن للعالم الغربي في "دافوس"، وتهديد بحرائق على أرض العرب. إنها إيران بامتياز، تلك التي تسعى الولايات المتحدة وأوروبا لتجديد العقد معها، فيما هي منصرفة إلى تكديس مزيد من الانتصارات الإلهية على أراض باتت خراباً في لبنان وسوريا والعراق واليمن، حيث قيامة الدولة الوطنية ستنتظر ما سيقرره المرشد الإيراني، وبما يراه مناسباً في يوم من الأيام لمشروعه التوسعي الخاص المعادي شكلاً ومضموناً للعرب مجتمعات وأوطاناً.