تُحافظ دول الخليج على انتعاش اقتصادي ملحوظ مدعومة بتحسن قوي لأسعار النفط، مما يجنبها الانحدار الاقتصادي الذي تعيشه غالبية الاقتصادات العالمية وتفشي مخاطر التضخم المرتفع. وقال محللون ومتخصصون لـ"اندبندنت عربية"، إن اقتصادات دول الخليج ستبقى قادرة على كبح جماح معدلات التضخم وإبقائها تحت السيطرة في 2022، حتى في ضوء التوقعات بارتفاع أسعار المواد الغذائية على المستوى العالمي.
وأوضحوا أن الحكومات الخليجية مطالبة بمواصلة إجراءاتها الخاصة بتعزيز وتسهيل بيئة الأعمال، وصولاً إلى تحسين جديد لمستوياتها على المؤشرات العالمية، إلى جانب العمل على استقطاب استثمارات أجنبية جديدة تضخ أموالاً وخبرات في السوق المحلية، علاوة على الحفاظ على التنمية المستدامة للقطاع غير النفطي للحيلولة دون حدوث أي تأثيرات سلبية من معدلات التضخم المتصاعدة عالمياً.
وبحسب الأرقام الرسمية، فإن معدلات التضخم في دول الخليج الست الغنية بالنفط، لا تزال منخفضة، وذلك عند مقارنتها مع باقي كبريات الاقتصادات العالمية، أو حتى أهم أسواق الدول الناشئة.
ومقارنة بالتضخم الأميركي الذي وصل لأعلى مستوى منذ 4 عقود إلى 8.5 في المئة وفي الاتحاد الأوروبي إلى 7.5 في المئة، تتراوح نسب التضخم في الخليج بين 2 في المئة في السعودية وهي الأقل خليجياً و2.5 في المئة في الإمارات و3.59 في المئة في عُمان و3.90 في المئة في البحرين و4.37 في المئة في الكويت، أما قطر التي تعتبر الأعلى على مستوى الخليج بنسبة 4.42 في المئة.
قراءات أقل في معدلات التضخم
وعلى الرغم من أن قراءات التضخم التي تُعد أقل بصورة كبيرة عن مثيلتها في الولايات المتحدة، فإن البنوك المركزية الخليجية تجد نفسها مضطرة لرفع سعر الفائدة بسبب ارتباط عملاتها بالدولار، باستثناء الكويت التي تربط الدينار بسلة عملات يُهيمن عليها الدولار.
وتعني عمليات ربط العملات الخليجية أن البنوك المركزية المحلية غالباً ما تأخذ إشارة إلى السياسة النقدية من الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى مخاطر عدم توافق السياسات عندما تكون دورات الأعمال بعيدة عن خطوتها، واليوم تعاني منطقة الخليج من ارتفاع التضخم، ولكن ليس بوتيرته في الولايات المتحدة.
واقتفى صناع السياسات النقدية في دول الخليج أثر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، ورفعوا أسعار الفائدة الأساسية مرتين حتى الآن، الأولى بمقدار ربع نقطة مئوية في مارس (آذار) الماضي لأول مرة منذ عام 2018، والثانية بمقدار نصف نقطة مئوية في أبريل (نيسان) الماضي.
وتحرص البنوك المركزية في منطقة الخليج، بما فيها السعودية والإمارات إلى مواكبة القرارات الصادرة عن الفيدرالي لحماية ربط عملاتها المحلية بالدولار، في حين لا تُعد ضغوطات التضخم في المنطقة قاسية مثلما هو الأمر في الولايات المتحدة، حيث بلغت أعلى مستوياتها منذ أربعة عقود، فإن قوة التعافي في أعقاب تفشي وباء كورونا تستدعي تشديد السياسة النقدية، بحسب شركة "أكسفورد إيكونوميكس".
النشاط الاقتصادي يتحسن
قال المتخصص في الشؤون الاقتصادية الدولية، ووزير الاقتصاد والتجارة اللبناني الأسبق، ناصر السعيدي: "على الرغم من الضغوط التضخمية حول العالم، فإن النشاط الاقتصادي لدول الخليج يُظهر تحسناً، حيث بقيت مؤشرات مديري المشتريات بدول المنطقة عند مستويات توسعية".
وأشار إلى أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية المستوردة واضطرابات سلاسل التوريد تسببت في ارتفاع التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث إن كثيراً منها بلغ أعلى مستوياته في عقد من الزمان، موضحاً أن وزن المواد الغذائية في اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي أقل مقارنة بباقي دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، موضحاً أن التحسن في القطاع غير النفطي بالخليج يحدث بشكل أسرع مما هو عليه في التصنيع، مما يشير إلى التعافي الأسرع للقطاعات غير النفطية وغير الصناعية.
وأشار إلى أن ربط العملات الخليجية بالدولار الأميركي أدى إلى فقدان استقلالية السياسة النقدية، مع اضطرار البنوك المركزية إلى اتباع سياسة التشديد لبنك الاحتياطي الفيدرالي عبر رفع أسعار الفائدة، لافتاً إلى أن هذا يضغط على القطاع غير النفطي، بخاصة العقارات والإسكان والاستثمار الرأسمالي في الصناعة.
وأوضح السعيدي أنه يمكن تعويض ذلك من خلال أدوات السياسة المالية المستهدفة، ولا سيما في تسريع الاستثمار في الطاقة المتجددة والتكنولوجيا كجزء من مكافحة تغير المناخ والتخفيف من مخاطره المتوسطة والطويلة الأجل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد أنه يمكن لحكومات دول مجلس التعاون تقديم حوافز لتنمية الاقتصاد الرقمي والخدمات الإلكترونية وصناعة التشفير. وبيّن أن ارتفاع قيمة الدولار الأميركي وعملات دول مجلس التعاون الخليجي سيساعد في تقليل التضخم المستورد مقارنة بدول أخرى مثل مصر التي تواجه معدلات تضخم متسارعة. وتابع، "يمكننا توقع زيادة نسبية في أسعار المواد الغذائية نتيجة الارتفاع العالمي بالأسعار".
القدرة على الصمود
قال عضو المجلس الاستشاري في معهد تشارترد للأوراق المالية والاستثمار والمحلل المالي وضاح الطه، "إن التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي تعتبر من أقل النسب العالمية، كما أن اقتصاداتها لا تزال قوية، وسيكون لديها القدرة على الصمود في مواجهة موجة تشديد السياسة النقدية"، مضيفاً أن عوائد النفط المرتفعة ستوفر لحكومات المنطقة قدرة على تعويض هذا التأثير، حيث تمنح حكومات المنطقة القدرة على زيادة الإنفاق بهدف امتصاص تأثير زيادة تكاليف الاقتراض.
وتُعد أسعار النفط التي تتجاوز 100 دولار للبرميل في مستوى أعلى حالياً مما تحتاج إليه غالبية دول الخليج لتحقيق التوزان لميزانياتها خلال العام الحالي، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، وهو ما يعطي الحكومات مساحة أكبر لزيادة عمليات الإنفاق.
وأضاف الطه أن تعافي الاقتصاد غير النفطي للدول الخليجية، وانخفاض أسعار الفائدة الحقيقية، والتي تمثل الفارق بين أسعار الفائدة الاسمية ومعدل التضخم، سيوفر أيضاً لاقتصادات المنطقة مساحة كافية لامتصاص زيادة أسعار الفائدة من قبل الفيدرالي خلال العام الحالي.
مستوى تحت السيطرة
وقال أستاذ المالية والاستثمار بكلية الاقتصاد بجامعة الإمام محمد بن سعود، محمد مكني، إن معدلات التضخم في دول الخليج ما زالت في مستوى معتدل وتحت السيطرة مقارنة بدول عالمية أخرى على الرغم من ارتفاعها حتى نهاية الربع الأول من عام 2022 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021، موضحاً أن النسبة الأكبر في التضخم الخليجي في قطاع النقل بنسبة وصلت إلى 9 في المئة ثم قطاع الثقافة والترفيه بنسبة وصلت 7.2 في المئة.
وأكد أن أسعار الفائدة للبنوك المركزية الخليجية مرتبطة بشكل مباشر بما يقرره الفيدرالي الأميركي، وهذا يعطي ميزة بحكم الارتباط بعملة الدولار العملة الأكثر أماناً وثقه في العالم لارتباطها أكبر اقتصاد في العالم.
وأشار إلى أن دول الخليج مع ارتفاع أسعار النفط التي تُعد أحد العوامل الرئيسة المحركة لاقتصاداتها متوقع أن تشهد نمو أسرع هذا العام أكثر مما كان متوقع، وذلك طبقاً لتوقعات البنك الدولي وعدد من الوكالات العالمية التي أبدت نظرة إيجابية ومتفائلة حيالها، مؤكداً أنه لذلك ليس من المتوقع أن نشهد أي ركود اقتصادي بالمنطقة خلال الفترة القادمة، مشيراً إلى أن هذا الارتفاع في أسعار النفط يغطي أي آثار سلبية ناتجة من ارتفاع أسعار الفائدة.
ويعتقد أنه من المهم الأخذ في الاعتبار أن خطر التضخم وانخفاض أسعار النفط لا يزالان قائمين بسبب عودة وباء كورونا في الصين، والذي قد يسبب اضطرابات في سلاسل الإمداد العالمي، أو بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية. وأكد أن اقتصادات مجلس التعاون الخليجي قد لا تتأثر بشكل كبير في المدى القصير أو المتوسط بذلك.
سياسة مالية توسعية
من جهته، قال المحلل الاقتصادي السعودي علي الحازمي، إن من الأفضل لدول الخليج انتهاج سياسة مالية توسعية قادرة على امتصاص آثار رفع معدل الفائدة على الناتج المحلي وإحداث توازن في النمو الاقتصادي بالمنطقة. ولفت إلى أن آثار ارتفاع التضخم عالمياً على اقتصادات دول الخليج لن يكون مؤثراً إلا إذا حدث تراجع أسعار النفط دون مستوى 80 دولاراً للبراميل الواحد تزامناً مع مُضيّ الولايات المتحدة في رفع الفائدة ومحاربة التضخم على المدى الطويل.
وقال المحلل الاقتصادي عبد الله باعشن، "التضخم موجود بدول الخليج عند مستويات مقبولة، وخصوصاً في السعودية، التي أعلنت أخيراً زيادة وتيرة التضخم ليبلغ 2.3 في المئة الشهر الماضي، مرتفعاً من 2 في المئة في مارس الماضي، وهي النسبة الأعلى منذ يونيو (حزيران) 2021 في ظل استقرار تكلفة أسعار النفط والطاقة لأنها مصدرة للسلع المرتبطة بتلك القطاعات، وهو الأمر الذي يُمكّنها من التحكم فيه.
وأوضح أن هناك عدة عوامل تدعم استقرار التضخم في دول الخليج، وفي مقدمتها دخول في مرحلة تنمية اقتصادية في البنية التحتية في النقل وغيرها من تدفق الاستثمارات الأجنبية لأكبر اقتصادات في المنطقة أبرزها اقتصاد السعودية، الذي يملك أكبر نسب نمو اقتصادي في المنطقة، ومن ثم تزيد تلك العوامل من القوة الشرائية، وأيضاً تدفع معدل البطالة للتراجع. وأشار إلى أن استخدام بعض أدوات السياسيات المالية مثل فرض الضرائب والرسوم أو زيادة أسعار الفائدة قد يؤدي إلى ركود في الاقتصادات، لأنها تؤثر على القوى الشرائية.
ولفت إلى أن من وسائل مكافحة التضخم تقليل الضرائب، ولا سيما على البضائع الاستهلاكية، مشيراً إلى أن الضرائب من الوسائل التي لها ارتباط وثيق بعوائد الدول، لا سيما في ظل تزايد تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، وهو الأمر الذي يُصعّب مسألة تقليلها بشكل كبير في المرحلة الحالية.
تضخم مستورد
بدوره، قال المحلل الاقتصادي الكويتي، علي العنزي، إنه لا شك أن نسب التضخم مُتحكّم فيها في منطقة الخليج، ويعود ذلك بشكل رئيس بسبب الدعم الحكومي للوقود في معظم دول المنطقة، وأيضاً لأسعار المواد الغذائية الأساسية مثل القمح، ويُعد التضخم في معظمه وارداً من الخارج بسبب تأثير الحرب الروسية - الأوكرانية أخيراً، وقبلها عمليات التيسير الكمّي التي قام بها الفيدرالي الأميركي لمواجهة تبعات كورونا.
وأكد أن البنوك المركزية الخليجية مضطرة لرفع الفائدة لتواكب أي رفع في أسعار الفائدة الأميركية ضماناً لاستقرار المالي في المنطقة، وذلك على الرغم من اختلاف معدلات التضخم بها مقارنة بالولايات المتحدة، لافتاً إلى أن حالة الاستقرار ذات الصلة بعملية ربط العملات المحلية بالدولار مرجحة على حقيقة أن الولايات المتحدة ودول الخليج من الممكن أن تمر بدورات اقتصادية متباينة، أو يكون لديها معدلات تضخم مختلفة.
وأوضح أن السياسيات المالية الواضحة التي تتضمن زيادة الإنفاق الحكومي، ولا سيما بعد زيادة أسعار النفط، إضافة لخفض للضرائب، هي العامل الأبرز الذي يُمكّن حكومات المنطقة من مواجهة أي ركود اقتصادي محتمل بسبب رفع الفائدة. وتوقع أن تواصل مستويات التضخم الخليجي الزيادة لأن أغلب السلع والبضائع مستوردة من الخارج، ولذلك يسمى تضخماً مستورداً، مشيراً إلى أن من الوسائل للتحكم في ذلك التضخم تثبيت الأسعار.