ترى هل كانت البشرية لتفكر في حال البيئة وتنظر في ظواهرها الشاذة والمتقلبة لولا الكوارث التي أخذت تتوالى بوتيرة أعلى ألف مرة من السابق، أي منذ أن تكونت الأرض والسماء وما بينهما من كائنات؟
بالطبع لا، فالبشرية على ما يقول المفكر البيئي النروجي آرنه نايس (1912- 2009) أحدثت تعديلات في الأنظمة البيئية يمكن وصفها بالانقلابية العنيفة والمتسارعة، على ما وصفنا، سيكون لها التأثير الفعال في بقاء النوع البشري وسائر الأنواع الحية، أو على دمارهما في آماد غير بعيدة إن استمر الإنكار المتمادي لحال البيئة في الكرة الأرضية قاطبة، وإن امتنع قادة الدول الكبرى عن تفعيل القرارات الآيلة إلى ترميم الوضع البيئي.
إذاً ما كانت البشرية لتعاود النظر في مواقف شعوبها ودولها حيال البيئة، ولا تنبهت إلى وجوب إدخال البيئة في صلب رؤاها الاقتصادية والسياسية والفكرية لولا بروز الظواهر البيئية السلبية وآثارها المدمرة على اقتصادات الدول ومستقبلها، ولولا فئة قليلة من المفكرين الذين لا يتوانون عن طرح الأسئلة المتصلة بموقع البيئة في الفلسفات المعاصرة وبأدوار الأنظمة الاقتصادية والسياسية المتفاوتة في إحداث التحولات الدراماتيكية التي تصيب البيئة.وللتذكير فإن ظواهر بيئية كارثية يمكن تبينها، ومنها تلوث الهواء الذي يعد المسبب الرابع للوفيات المبكرة، إذ يموت به خمسة ملايين ونصف المليون من البشر عبر العالم، ويعد العامل الرابع المسبب للوفيات المبكرة في سائر الدول المتقدمة صناعياً والمتخلفة.
أحوال سلبية
ولا يخفى على المواطن المتنبه إلى أحوال بيئته أن هذا التلوث ناجم عما تفرزه المصانع ومحطات توليد الطاقة والسيارات السائرة على الوقود السائل وغيرها، وما تطلقه من غازات مضرة بالصحة العامة وسامة، وخير دليل على هذا ما تبثه بعض وسائل الإعلام من صور تبين كثافة الضباب الدخاني في المدن الصناعية، مثل بكين وكالكوتا ودلهي وغيرها، بحيث تطلق السلطات تحذيرات متتالية للسكان بلزوم الوقاية حالما يبلغ التلوث درجات خطرة.
أما في شأن المياه فقد بات معروفاً أن ثمة تلوثاً خطراً على الصعيد العالمي، إذ بات يطاول التلوث الجرثومي الأنهار والينابيع ومصادر المياه الجوفية وخزانات المياه الكبرى في البلدان التي لا تمتلك شبكات صحية، وحيث لا تكون معامل تكرير المياه فعالة بسبب الفساد، ومثالنا على ذلك بحيرة القرعون في محافظة البقاع بلبنان، وقد بلغ مستوى البكتيريا فيها درجة تموت معها كل الكائنات المائية، لا سيما سمك الكارب الذي نفق منه المئات خلال السنة الفائتة، ولو أضفنا إلى عوامل الفساد والتخلف وقلة الموارد المادية في العالم النامي والبلدان المتخلفة عاملاً آخر وهو ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية، وهي ظاهرة بات يطلق عليها تسمية الاحترار، لكان علينا أن نضيف ظاهرة أخرى وخطرة وهي انقراض أنواع من الحيوانات البحرية والبرية بوتيرة متصاعدة تدعو إلى القلق.
إلى ذلك يمكن الكلام كثيراً على ظاهرة الفيضانات والأعاصير المدمرة، وأمثلتها في العالم باتت كثيرة، وآثارها الاقتصادية والاجتماعية فاقت كل ما كان يحصل في الأزمنة القريبة بأضعاف مضاعفة، وباتت تهدد كثيراً من المدن والمناطق الشاطئية بالانغمار وتهجير سكانها بعشرات الملايين، بعد ذوبان الطوف الجليدي في القطب الشمالي وتجاوز المساحات الذائبة خمسة ملايين كيلومتر مربع، بحسب العالم الأميركي بيتر وادهامز، وذلك من أصل 7.6 مليون كيلومتر مربع، وهذا بحد ذاته كارثة بيئية شديدة الوطأة على البشرية، وفقاً للعالم نفسه، بسبب ارتفاع حرارة الأرض.
ولا نحسب أن نداءات هذا العالم وغيره إلى حكومات الدول المسؤولة عن الانبعاثات المدمرة للأوزون، من مثل ثاني وأول أوكسيد الكربون، قد استجيب لها اليوم في منتصف العام 2022، ولا نظن أن الدول الموقعة على "اتفاق كيوتو" في اليابان عام 2005 قد احترمت تواقيعها في خفض الانبعاثات إلى الحد الذي يقي البشرية من الكوارث التي لا تزال تلقي بأثقالها وأضرارها المهولة على عواتق الشعوب التي أنهكتها الجائحة الأخيرة تحت مسمى كورونا.
ولا نظن أيضاً أن هذه الدول نفسها حققت قدراً من الإنجازات في شأن الحد من إزالة الغطاء الأخضر والقضاء على الغابات، وفي شأن التصحر والإقلال منه والحد من الإفراط في استثمار المناطق المزروعة والحد من أفراط الإنتاج الصناعي والإقلال من إنتاج المواد الخانقة للحياة الحيوانية والبيئية، مثل النايلون والكاوتشوك والإفراط في استهلاكها ورميها في الأنهار والبحار حتى صار لها مخزن في المحيط الأطلسي بمساحة جزيرة كبيرة.
آراء موجهة وتحديات
ولئن صح أن اتفاق أو بروتوكول كيوتو للعام 2005 كان منعطفاً مهماً في وعي البشرية وعمّق الأزمة البيئية وتداعياتها الكارثية بل الوجودية على الكرة الأرضية، فإنها لم تكن كافية من أجل الحد من تدهور الوضع البيئي ولن تكون شافية، ذلك أن أساس المعضلة لم يكن إجراء شاملاً أو موضعياً بقدر ما هو قناعات راسخة لدى البشر، وسلوك وخلقيات وسياسات كانت لا تزال تنظر إلى الطبيعة على أنها ملكية متاحة للجميع، وأن للإنسان أن يتصرف بها على هواه، ووفقاً لمصالحه وما يجنيه منها من ثروات.
وفي مقابل المصير الكارثي الذي ينتظر البشرية بفعل العوامل المدمرة للبيئة المذكورة أعلاه، كان لا بد من أن ينهض فكر إنساني يعيد الاعتبار للصلة الإيجابية التي ينبغي أن تحكم علاقة الإنسان بطبيعته، بقدر ما يجبر المجتمع الدولي والتجمعات الفاعلة فيه على احترام الحياة البشرية، والشروع في مسار معاكس لما تشهده الإنسانية منذ بدء الثورة الصناعية، عنيتُ به مسار إعادة ترميم البيئة بكل مظاهرها ومواردها، وخير أساس لهذا المسار هو بناء خلقية بيئية أشبه ما تكون بفلسفة بيئية تعيد الاعتبار للطبيعة وما حولها وما فيها ومن فيها.
وأول أساس نجده عند الفيلسوف والشاعر اللاتيني لوكريس (98-55 ق.م) الذي أعاد وصف الطبيعة وكائناتها في شعره مضفياً عليها نظرته المحبة للحياة والطبيعة، ومعتبراً أن لهذه الطبيعة طابعاً مقدساً وأن للناس مكاناً واعتباراً فيها، وأن للأوبئة أسباباً مستمدة من الطبيعة.
ومن بعده نجد جان-جاك روسو (1712-1778) رائد الرومنطيقية في الأدب الفرنسي يعيد رسم الطبيعة وكائناتها من منظار محايد أو مستقل عن الأديان والنظريات الماورائية، مع ميل لدى المتأمل في الطبيعة إلى حلولية ملطفة سوف يتناولها من بعده الرومنطيقيون، من أمثال رامبو (1854-1891) الذي أصدر ثلاث قصائد كبرى يقترح فيها الاستجابة لنداء الطبيعة باعتبارها "الأم المؤلهة وصاحبة الجمال الأول".
مكانة البيئة
وفي إطلالة سريعة على التراث الفلسفي الحديث والمعاصر الذي جعل للبيئة والطبيعة مكانة بارزة توجب اعتبارها في دساتير الدول وتجديد السياسات البيئية فيها، يمكن إيراد بعض الآراء الدالة، فعلى سبيل المثال شدد الفيلسوف هانز جوناس (1903-1993) على لزوم أن تؤسس خلقية من أجل الحضارة التكنولوجية يكون للبيئة فيها مكانة معتبرة، أما فيليكس غاتاري (1930-1992) فاقترح من جانبه أن تتوسع دائرة التفكير البيئي لتشمل الأوساط الاجتماعية والفكرية الفاعلة، في حين دعا الفيلسوف يورغن هابرماس (1929) وريث مدرسة فرانكفورت إلى بناء فلسفة بيئية ديمقراطية من خلال كتابه "الخطاب الفلسفي والعصرنة" و"مستقبل الطبيعة البشرية" وغيرهما.
أما الفيلسوف النروجي آرنه ساييس (1912-2009) الذي واكب التحرك البيئي قي بلاده، فقد أطلق ما سماه "البنية العميقة" في إشارة منه إلى ضرورة التعمق في معالجة الشأن البيئي، وأن يندرج الأخير في إطار إنساني أوسع آفاقاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبدوره أطلق الفيلسوف الفرنسي ميشال سير (1930-2019) تصوراً عن البيئة من منطلق قانوني، إذ اعتبر في كتابه "العقد الطبيعي" أن الطبيعة كائن مستقل بذاته وليست شيئاً مجرداً من الهوية وموضوعاً للتملك والاستهلاك الآني والمفرط، وبالتالي وجب العمل على تغيير شامل في الدساتير والسياسات البيئية يكون فيها للبيئة وللطبيعة ما يضمن سلامتها وديمومتها، باعتبارهما إرثاً للبشرية ولسائر الأجيال المقبلة وليست حكراً على جيل دون آخر.
ومن هذا القبيل أيضاً ما أدلت به المفكرة جوليات لاغرانج في كتابها "من أجل فلسفة في علم البيئة" للعام 2012، إذ انتقدت المجتمع الاستهلاكي ونبهت من الإنتاج المفرط لغايات ربحية، ودعت إلى رد الاعتبار للطبيعة والعمل على حفظها، مع تنبيه المواطنين العاديين إلى لزوم مشاركتهم في إعداد سياسة بيئية ملائمة واستعدادهم الدائم إلى جبهة التحديات البيئية التي تفرضها عليهم حال البيئة العالمية المتدهورة، في مقابل عجز الدول عن إنجاز خطوات حاسمة لدرء الأخطار وحماية الطبيعة والبشر فيها.
في الختام، يحسن بالمواطن العربي أن يتبصر في شأن بيئته، وهي جزء لا يتجزأ من الإطار البيئي الكوني، وأن يباشر في التفكير بالحفاظ على أهم ثرواتها ومواردها وبحارها وبرارها وحيوانها وكل كائن فيها، ما دام أن الخالق جعل بها سبباً للبقاء والديمومة والرخاء، ولنا في بعض المفكرين البيئيين في بلادنا ما يجعلنا نأمل بغد أفضل وبيئة أجمل وأبقى.