النتائج التي انتهت إليها الجلسة الأولى للبرلمان اللبناني، الثلاثاء 31 مايو (أيار) الماضي لجهة التجديد لرئيسه التاريخي، نبيه بري، لولاية سابعة من أربع سنوات وانتخاب نائبه، عضو البرلمان إلياس بوصعب المنتمي إلى "التيار الوطني الحر"، حليف "حزب الله" الأقرب، بأكثرية النصف زائداً واحداً (65 نائباً)، خيبت آمال من اعتقدوا أن هذه الانتخابات أفقدت الحزب الأكثرية في السلطة التشريعية لصالح خليط معارضيه والنواب "التغييريين" الجدد الذين كان فوز 13 منهم مفاجأة لمن يترقبون تغييراً في المشهد السياسي في الداخل والخارج.
وإذا كان التجديد لبري أمراً مفروغاً منه نظراً إلى أنه لا إمكانية لترشيح أي نائب شيعي بديل، لأن جميع النواب الشيعة الذين أفرزتهم صناديق الاقتراع ينتمون إلى ثنائي "حزب الله" وحركة "أمل"، فإن الحزب تمكن بالمساومات ووسائل النفوذ، من استمالة زهاء 6 إلى 7 نواب من المستقلين، وترجيح كفة النائب بوصعب لضمان إدارة موالية له للمطبخ التشريعي اللبناني، على الرغم من أن الأكثرية العددية من أصل النواب الـ128 ليست موالية له بالكامل. ومع أنه لا صلاحيات مهمة يتمتع بها نائب رئيس البرلمان، فإن أهميته تكمن في أنه يوكل إليه ترؤس اجتماعات اللجان النيابية المشتركة التي تدرس القوانين المهمة على الصعيد السياسي. والتنسيق بينه وبين رئيس البرلمان يؤدي إلى صياغة التسويات أو إلى تأجيل بعض المشاريع غير المواتية للجهة التي تسيطر على رئاسة المجلس، بالتالي على نائب الرئيس أن يكون مطواعاً ومقرباً من هذه الجهة، بحيث يمكنه المساهمة في عرقلة إقرار بعض القوانين أو إطالة النقاش في شأنها أو تعديلها.
الأكثرية الضائعة والمائعة
ويقول نواب معارضون للحزب، إنه أدار العملية الانتخابية بمثابرة وثبات، فوزع وعوداً لبعض المستقلين من النواب (مع أن بعضهم فاز ضد حلفاء له) تارة بإيهام أحدهم بترشيحه لرئاسة الحكومة، وتارة أخرى بوعد دعم نائب ما لمنصب وزاري أو لتولي مسؤولية في لجان نيابية مهمة، من أجل ضمان تولي حليفه بوصعب مهمة نائب الرئيس، بدلاً من منافسه النائب الجديد غسان سكاف، حليف رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط. ودفعت الخيبة من النتيجة جنبلاط إلى القول، "بعد هزيمة الأغلبية الجديدة في انتخاب نائب رئيس البرلمان نتيجة سوء التنسيق، قد يكون من الأفضل صياغة برنامج مشترك يتجاوز التناقضات الثانوية من أجل مواجهة جبهة 8 آذار السورية - الإيرانية التي ستنتقم لهزيمتها في الانتخابات بكل الوسائل ولن ترحم أحداً". إلا أن توحيد الأكثرية المفترضة على برنامج يتطلب مشاورات بين مكوناتها لم تحصل بعد، فضلاً عن صعوبة التلاقي بينها، بحيث يبقى تنسيقها في المواقف مقتصراً على التوافقات الظرفية و"على القطعة".
ما حصل كان مؤشراً إلى أن خسارة "حزب الله" وحلفائه الأكثرية في البرلمان (بنحو 8 نواب)، لا يعني أن الأكثرية المقابلة متماسكة، بل هي مشتتة نظراً إلى غياب التناسق بين مكوناتها من جهة، وإلى كثرة المستقلين والمنفردين من النواب السنة الذين نجحوا، بغياب مرجعية واضحة لهم، جراء عزوف زعيم تيار "المستقبل" رئيس الحكومة السابق سعد الحريري عن خوض الانتخابات من جهة ثانية، فيغلب عليهم التشتت، فضلاً عن أن نجاح 13 نائباً من التغييريين الذين تنقصهم الخبرة ويرفضون التسويات والصفقات التي اعتاد عليها أركان الطبقة السياسية التقليدية يؤدي إلى بعثرة الأكثرية بمفهومها المتعارف عليه. وهو ما جعل البعض يتحدث عن أكثرية ضائعة أو مائعة. و"حزب الله" بنجاحه في ذلك نفذ تمريناً يدل على القدرة على تأمين هذا العدد من النواب من أجل ضمان وصول رئيس جمهورية موال له في الخريف المقبل، إذا جرت انتخابات الرئاسة.
استحقاق الحكومة الجديدة الملح
وفيما يترقب الوسط السياسي لمعرفة ما إذا كانت الأكثرية يمكن أن تستعيد المبادرة في انتخابات اللجان النيابية ورؤسائها ومقرريها في 7 يونيو (حزيران) الحالي، فإن ما يتطلب التدقيق فيه بعد ترتيب البيت النيابي هو إقبال البرلمان على استحقاق سريع هو إجراء رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الاستشارات النيابية الملزمة وفق الدستور لاختيار رئيس للحكومة كي يؤلف الحكومة الجديدة لأن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تحولت إلى حكومة تصريف أعمال منذ 22 مايو (أيار) الماضي، تاريخ بدء البرلمان الجديد ولايته.
وبينما لا ينص الدستور على مهلة لرئيس الجمهورية كي يدعو النواب إلى تسمية من يرتؤونه لرئاسة الحكومة من الطائفة السنية، فإن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والتدهور المعيشي المتواصل كل يوم في لبنان، عوامل تضغط من أجل استعجال تأليف حكومة كاملة الصلاحيات بسرعة. والإلحاح على ذلك سبق الانتخابات نظراً إلى سوابق تأخير الاستشارات بسبب التأزم السياسي ثم عرقلة التأليف، خلال السنوات السابقة، ما أضاع على لبنان فرص الخروج من الأزمة بكل جوانبها.
تفادي الفراغ الحكومي لملء الفراغ الرئاسي
في الظروف الراهنة، تتعدد الأسباب لاستعجال قيام الحكومة الجديدة وسط إشاعة سيناريوات تكرار الفراغ الحكومي ومن بعده الفراغ الرئاسي بانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. وعلى الرغم من أن عمر هذه الحكومة سيكون قصيراً لأن الدستور ينص على اعتبارها مستقيلة عند انتخاب رئيس جديد بعد أقل من 5 أشهر، فإن أول هذه الأسباب الجوهرية لطلب سرعة تشكيلها هو ضمان وجود حكومة كاملة الصلاحيات الدستورية لأن الدستور ينص على أن تتسلم صلاحيات الرئاسة في حال خلوها لأي سبب كان، أي إذا انتهت ولاية عون من دون الاتفاق على انتخاب بديل منه في المهلة المحددة، أي قبل شهرين على الأكثر وشهر على الأقل من انتهاء ولايته. وثاني الأسباب هو أن على الحكومة المقبلة أن تواصل التفاوض مع صندوق النقد الدولي لتكريس الاتفاق الأولي الذي لم يصبح نافذاً بعد على إقراض لبنان 3 مليارات دولار على مدى 4 سنوات كي يصمد بانتظار تطبيق الإصلاحات البنيوية المالية والمصرفية كشرط لصرف أموال للبلد. وثالث هذه الأسباب هو أن إدارة الأزمة المتفاقمة اجتماعياً وصحياً وحياتياً ووقف الانهيار، يحتاجان إلى حكومة فاعلة في انتظار قيام معادلة سياسية جديدة تؤدي إلى تحسين علاقات لبنان العربية في شكل يسهل حصوله على المساعدات من الدول الخليجية التي تطالب بعودة سلطة الدولة على أراضيها ومؤسساتها، وترى أن "حزب الله" يهيمن على قراراتها.
خيار ميقاتي والأسماء الأخرى
على الأكثرية النيابية الجديدة أن تتفق على تسمية رئيس الحكومة المقبل وسط الأسباب الجوهرية لسرعة قيامها، وفي ظل تعدد المواقف في صفوف مكوناتها. وفيما يسود الوسط السياسي اعتقاد أنه لا بديل عن عودة رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي إلى المنصب وتتهيأ الكتل النيابية لاتخاذ خياراتها في شأن التسمية، فإن كتلة النواب التغييريين مثلاً وبعض القوى المعارضة غير متحمسة لعودته خشية قيامه بالتسويات مع الفريق الموالي للرئيس عون، ومع "حزب الله".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي وقت لا يمانع الأخير (15 نائباً) وكتلة بري (15 نائباً) عودته وكذلك بعض النواب المستقلين، تربط كتلة نواب حزب "القوات اللبنانية" تسمية الرئيس المكلف برنامجه ونوعية الحكومة التي ينوي تأليفها حيث أعلن رئيسها سمير جعجع تفضيله قيام حكومة من الأكثرية النيابية الجديدة، على أن يكون "حزب الله" وحلفاؤه في موقع المعارضة البرلمانية. غير أن الحزب دعا منذ إعلان نتائج الانتخابات إلى حكومة توافق وطني، وأصر على أن يشارك في القرار السياسي مع سائر الفرقاء. كما أن حزب "الكتائب" أعلن تفضيله شخصية من خارج الطاقم السياسي وأن تكون الحكومة من اختصاصيين لا ينتمون للأحزاب.
ويفضل بعض الأحزاب المعارضة وكذلك التغييريون تسمية شخصية من خارج الطبقة السياسية الحاكمة مثل السفير السابق في الأمم المتحدة، القاضي في محكمة العدل الدولية، الدكتور نواف سلام، الذي أبلغ من اتصل به أنه لا يرى إمكانية للنجاح في ظل الانسداد السياسي الذي تشهده البلاد، لا سيما حول معركة رئاسة الجمهورية التي فتحت على مصراعيها فور انتهاء الانتخابات النيابية. وقال ميقاتي في مقابلة تلفزيونية قبل أيام إن المرشحين للمنصب من داخل البرلمان هما، اللواء أشرف ريفي (من أشد المعارضين للحزب) والدكتور عبد الرحمن البزري (علاقته مقبولة مع "حزب الله")، ومن خارج البرلمان، الاقتصادي الدكتور عامر بساط (عمل في صندوق النقد الدولي وفي مؤسسات مالية في أميركا). وفهمت أوساط مراقبة كلام ميقاتي على أنه إشارة منه إلى أن على النواب أن يختاروا بين شخصية صدامية مع الحزب مثل ريفي، أو شخصية قد تكون قريبة منه مثل البزري، أو شخصية قريبة من صندوق النقد، الذي لدى الحزب اعتراضات على ما يطرحه في شأن معالجات الأزمة المالية.
ويطرح بعض الأوساط الإعلامية اسم وزير الاقتصاد الحالي أمين سلام، إلا أن ميقاتي يتميز عن سائر المرشحين بدعم فرنسا لاستمراره في منصبه، كي يواصل ما بدأه مع صندوق النقد ومشاريع الإصلاحات التي أقرتها حكومته، في ظل عدم ممانعة الولايات المتحدة.
شروط باسيل وتداخل الحكومة بالرئاسة
إلا أن العائق الرئيس أمام تسمية الرئيس المكلف، ومن ثم أمام تأليف الحكومة، سواء أكان ميقاتي أم غيره، يكمن في الشروط التي وضعها صهر الرئيس عون، وريثه السياسي، رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، الذي طالب بمعرفة موقف أي رئيس للحكومة من رفع الغطاء والحماية منه ومن وزير المالية عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لإقالته. كما طلب باسيل التزام رئيس الحكومة ووزير العدل ووزير المال، بتسهيل إنهاء التحقيق العدلي بجريمة انفجار مرفأ بيروت، المجمد حالياً بسبب الدعاوى المرفوعة من بعض الشخصيات الملاحقة من قاضي التحقيق، ضد الأخير، والعالقة في الهيئة الاتهامية في محكمة التمييز، لكن لباسيل شروطاً أخرى لمح إليها في مؤتمر صحافي، تترك مجالاً للاعتقاد أن مطالبة متحركة وفق ما يمكنه قطفه من تعهدات ووعود من الرئيس المكلف. وإذ أصر على رئيس للحكومة "مرضي عنه من طائفته أولاً ومن مجموع اللبنانيين ثانياً، وليس من الخارج، وحقنا أن نعرف شكل الحكومة ونوعها"، فإنه طلب مشاركة الفرقاء السياسيين في الحكومة بعد "التفويض الشعبي" الذي نالوه في الانتخابات، وتحدث في الوقت نفسه عن اختصاصيين تسميهم القوى السياسية. ومن المطالب غير المعلنة لباسيل الإقرار ببناء معمل ثالث للكهرباء يصر عليه منذ سنوات في منطقة سلعاتا الواقعة ضمن دائرته الانتخابية، في وقت قالت دراسة للبنك الدولي، إنه لا حاجة إلى هذا المعمل. وهو المطلب الذي أعاق منذ سنوات تلزيم معملين آخرين في مناطق أخرى، وأحبط عروضاً فرنسية وألمانية بأسعار ملائمة للوضع اللبناني المزري، فيما رفض ميقاتي ضمه إلى مشروع لتلزيم معملين. كما أن باسيل يطمح إلى أن يجاريه رئيس الحكومة المقبل بإجراء تعيينات في المناصب الإدارية العليا، وفي السلك الدبلوماسي، قال عنها مصدر وزاري، إنها "ستكون أداته ليحكم البلد في ظل الرئاسة المقبلة بعد انتهاء ولاية عمه".
كما أن إصراره على وجود السياسيين في الحكومة يرمي إلى أن يكون وزيراً فيها من أجل مشاركة رئيس الحكومة في القبض على صلاحيات الرئاسة عند حصول فراغ رئاسي، بحيث يكون له دور في اختيار الرئيس المقبل عن طريق تأثيره في قرارات الحكومة ونفوذه فيها، إذا طال هذا الفراغ، طالما يتعذر انتخابه هو بسبب العقوبات الأميركية المفروضة عليه منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2020.
تصريف الأعمال حتى الرئاسة
يرجح مقربون من ميقاتي أن تحول الصعوبات في تأليف الحكومة من دون ولادتها حتى لو جرى تكليفه بتشكيلها، فيبقى هو رئيس حكومة تصريف الأعمال، مع إمكان تصاعد التأزم السياسي لأن باسيل لوح بأن تولي حكومة غير مكتملة الصلاحيات تسقط "اتفاق الطائف" بالتالي تسقط المهل لسائر المواقع الدستورية، بما يعني أنها تقود إلى بقاء عون في منصبه بعد انتهاء ولايته، لكن عون نفى هذه النية.
ولفتت أوساط سياسية إلى قول ميقاتي في تصريح تلفزيوني، "إذا أخذ مجلس النواب دوره كاملاً يمكنني أن أقول إننا نستطيع أن نكمل بحكومة تصريف أعمال". وهو إيحاء بإمكان أن يبقى في حالة تصريف الأعمال حتى انتخاب رئيس جديد، أي إن يتم تكليف شخصية بتأليف الحكومة سواء أكان هو أو غيره، من دون أن يتمكن من التأليف نتيجة رفض عون توقيع مرسومها إذا لم تشمل مطالب باسيل.