مع مطلع يونيو (حزيران) من كل عام، تشهد محافظة المنيا (240 كم جنوب القاهرة)، وتحديداً منطقة جبل الطير الواقعة بمدينة سمالوط، واحداً من أكبر الموالد المسيحية هو مولد العذراء مريم، الذي يقام سنوياً بالتواكب مع ذكرى دخول العائلة المقدسة إلى مصر، متخذاً شكل الموالد المصرية عموماً، فالمولد جزء رئيس من ثقافة المصريين على اختلاف الديانات، ويقام للأولياء ولذوي الكرامات ولآل بيوت الأنبياء، ويعتبر احتفالاً قومياً في المحافظة التي يقام فيها، حيث يفد إليه الناس من كل مصر للمشاركة والتبرك وتقديم النذور.
أمضت العائلة المقدسة في مصر ما يزيد على ثلاث سنوات باركت فيها أكثر من 25 موقعاً من ساحل سيناء شرقاً إلى دلتا النيل، حتى وصلت إلى أقاصي صعيد البلاد، لتصبح أماكن إقامة العذراء مريم وابنها المسيح في مصر مزارات يتبرك بها الناس، وأخيراً حظيت باهتمام كبير من الدولة في إطار سعي مصر لإدراج مسار رحلة العائلة المقدسة على قائمة التراث العالمي لليونسكو.
يقع دير العذراء بجبل الطير على ارتفاع 100 متر، وله سلالم منحوتة في الجبل وقد بنيت الكنيسة في عهد القديسة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين في عام 328م، وهي منحوتة بالكامل في الصخر، وبداخلها المغارة التي اختبأت بها السيدة العذراء في الجبل.
أصل الجبل
يرجع اسم جبل الطير إلى تجمع أعداد كبيرة من طائر البوقيرس أعلى الدير أثناء رحلته إلى قارة أوروبا، لذلك سمى بدير جبل الطير، كما أطلق عليه أيضاً دير البكرة، حيث ذكر أنه جرى تركيب بكرة لرفع المؤن والمياه إليه، وأحياناً يطلق عليه جبل الكف، إذ يروي أنه أثناء رحلة العائلة المقدسة بالقارب في النيل إلى مكان الجبل كادت صخرة تسقط عليهم فرفع السيد المسيح كفه فعادت إلى مكانها وانطبع الكف عليها، وهي معروضة حالياً في المتحف البريطاني.
لكن التطور وتغير شكل الحياة امتد إلى كل شيء، ومن بينها العادات والموروثات الثقافية التي كانت تسود في الثقافة الشعبية، ومن بينها منطقة جبل الطير، ليبدأ طابعه العام في التغير مع الزمن، وتبدأ المظاهر التقليدية للمولد في الاختفاء تدريجياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دفعت هذه الفكرة كاتباً شاباً من أهل محافظة المنيا إلى العمل على توثيق المولد بكل طقوسه وطبيعة الحياة التي تدب في المنطقة مع توافد آلاف البشر كل عام، زادوا الآن إلى ملايين، ليزوروا جبل الطير في الأسبوع السابق للمولد، من خلال معايشته أجواء المولد عندما كان يذهب إليه مع أسرته في الطفولة، لتخرج روايته الأولى "بيت المساكين" تتناول شكل وطبيعة المولد القبطي.
بيت المساكين
أحداث الرواية يحكيها الطفل صموئيل الذي يقيم مع أسرته في بيت إحدى العائلات في القرية خلال أسبوع المولد، في ظاهرة فريدة تميزه عن باقي الموالد، وهي استضافة أهالي المنطقة زوار المولد في منازلهم خلال أسبوع الاحتفال، وظلت عادة معروفة منذ زمن طويل، ومنها اشتق الكاتب اسم روايته. حول هذا الموضوع يقول الروائي المصري مينا عادل جيد، لـ"اندبندنت عربية"، "استضافة أهل القرية زوار المولد ظاهرة لا تزال قائمة، فهو موسم سنوي لأهل القرية لتأجير منازلهم وزيادة دخلهم، القرية فقيرة ومعظم دخلها قائم على أسبوع المولد مرة واحدة في السنة فقط، ومع أنه ظهرت أخيراً فنادق فاخرة للميسورين والسائحين، لكنها بالتأكيد لا تستوعب كل الزوار، والأهم أنها أكبر من إمكانات معظم رواد المولد من البسطاء الذين يأتون طالبين البركة للستر وزيادة الرزق والإنجاب وتحقيق الأمنيات".
ويضيف، "مولد العذراء في جبل الطير الأكبر والأمثل بين الموالد المصرية، فهناك مولد العذراء في درنكة بأسيوط الذي ربما يكون أشهر، لكنه أصغر، وكله داخل أسوار الدير، أما جبل الطير فهو ممتد في الجبل، وتشكل خيام الباعة وأصحاب الألعاب شبه قرية في السفوح لها جغرافيا جديدة مؤقتة، وبعد المولد تنظر في المكان نفسه فتجده صحراء، ولا تصدق أن المولد كان يصنع حياة أخرى، كما أن تأجير بيوت أصحاب قرية جبل الطير للزوار أظن أنه ليس موجوداً إلا في مولد العذراء".
توثيق المولد
توثيق التراث الشعبي من خلال الباحثين والفنانين والكتاب أمر في غاية الأهمية لأن كثيراً من العادات تندثر مع الوقت، ومنها المرتبطة بالاحتفالات الشعبية مثل الموالد كالمدائح والنذور والألعاب الشعبية وغيرها. وعن اختلاف مولد العذراء حالياً عن السابق يقول جيد، "زرت المولد العام الماضي بعد انقطاع لسنوات، ووجدت تغييراً كبيراً فيه، حيث يجري العمل على مشروع إحياء مسار العائلة المقدسة الذي تطلب كثيراً من التجديدات في المكان أظهرته بطابع حديث، إضافة إلى أن معظم الزوار أصبحوا يأتون في زيارات سريعة ليوم واحد وليس لقضاء أسبوع كامل في رحاب أم النور، والآن ترى الناس متأنقين في ملابسهم بعكس السابق، إذ كانت الملابس بسيطة لأنهم مقيمون في المكان".
ويضيف، "لا يزال الناس حريصين على تقديم النذور، فهي مكون مهم في معتقد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وما زال موجوداً، لكن أدخل عليه بعض التغيرات في شكله، فتغيرت الذبائح إلى نقود يقدمها الشخص للكنيسة لتنفقها على الفقراء، لكن المبدأ ذاته ما زال قائماً، وهو في تقديري امتداد عميق للتجربة الروحية في مصر القديمة، مثلها مثل فكرة الشفاعة، فهي ليست اختراعاً قبطياً كما يظن الأقباط بحماس طيب".
في مدح مريم العذراء
"عبيت في مدحك، وحسن وصفك، جودي بفضلك، حني عليا... قلبي رماني، في بحر المعاني، عجز لساني، في المصطفية". واحدة من مدائح كثيرة يرددها الناس في وصف العذراء مريم، وهي ظاهرة تميز الموالد في مصر بشكل عام، إذ يكثر مديح صاحب المولد وذكر صفاته وكراماته، ويتبارى المداحون في الإنشاد وسط تفاعل كبير من الحضور.
وكان المداحون ينتشرون من مولد إلى آخر، ويعتبرون من السمات الأساسية ذات الحضور الطاغي، لكن مع مرور الزمن بدأ المداحون الشعبيون في الاختفاء. يشير مينا، "استبدلت بهم الكنيسة فرق تراتيل حديثة من القاهرة بآلات غربية وملابس قاهرية، وتقيم حفلات يومياً على مسرح حديث ومجهز، وهي غير متناغمة إطلاقاً مع ثقافة المكان، لكن كثيرين يظنونها نقلة أحدث، وكلمات تراتيلهم مراجعة لاهوتياً، وتخدم توجه الصحوة أو ممن يطلقون على أنفسهم حماة الإيمان بالكنيسة، على عكس المدائح القديمة التي لم تكن تعتني بالقصة الكتابية والكنسية المنضبطة، لكنها ترتيلة شعبية تصور العذراء أماً ثكلى مات وليدها ظلماً، أو فلاحة مطعوناً في شرفها وهي بريئة، وتتجسد العذراء كأنها مصرية لديها الهموم نفسها التي للناس في الصعيد، وتختلط الأوصاف بين القبطي والإسلامي في وصف العذراء مثل (الحور العين) في بعض المدائح، وهو وصف إسلامي بامتياز، وأجمل فنياً وثقافياً بالطبع، لكنه لاهوتياً غير صحيح".