قد لا يعلم الكثيرون أن الشاعرة والروائية الإماراتية ميسون صقر بدأت فنانة تشكيلية، ومع الوقت اتسع مشروعها الإبداعي، فأصدرت دواوين مثل "هكذا أسمي الأشياء"، و"الريهقان" و"جريان في مادة الجسد"، و"البيت"، و"الآخر في عتمته"، و"تشكيل الأذى"، و"رجل مجنون لا يحبني"، و"أرملة قاطع طريق"، و"جمالي في الصور". وفي العامية المصرية أصدرت ديوانين هما "عامل نفسه ماشي"، و"مخبيَّة الدلع في هدومها". وفي الرواية أصدرت "ريحانة"، و"في فمي لؤلؤة". وكتبت سيناريو فيلم تسجيلى قصير للأطفال بعنوان "خيط وراء خيط". وقد تكون دراستها للاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة بعيدة عن مجالاتها الإبداعية، لكنها استفادت منها فى رواياتها على وجه الخصوص. يقول أحمد عباس صالح: "لا يمكن أن نحاسب مقهى "ريش" أو أي مكان آخر بمعزل عن حسابات الزمان، فالمكان ليس هو أساس المعادلة ولكن أساسها الصحيح هو الحالة التاريخية والفكرية التي يمر بها المجتمع ككل".
وهذا ما فعلته ميسون صقر في كتابها "مقهى ريش – عيْنٌ على مصر" (دار نهضة مصر) الحاصل على جائزة الشيخ زايد في دورتها الأخيرة والذي يمكن أن نبدأ حوارنا مع ميسون صقر المقيمة في مصر بطرح هذا السؤال حوله: هل وصلتِ إلى ما يرضيكِ أم مازالت هناك أشياء كنت تودين الوصول إليها في هذا الكتاب؟ قالت: "أي كتاب مفتوح وقابل للزيادة إلى أن ترضى عنه. فحين انتهيت من الكتابة عن مقهى ريش، لاحظتُ أولاً عمق العلاقة التي تربط المقهى بمدينة القاهرة أو تربط الخاص بالعام الذي هو ضروري لتفسير العديد من الظواهر التي صاحبت حركة الزمن داخل المقهى. فاتخذتُ وضعية الطائر فى ارتفاعه ودنوه، فكلما ارتفعتُ رأيت المدينة على اتساعها، وكلما اقتربتُ لاحظتُ المقهى في عمقه؛ كأننا أمام حركة الكاميرا في انتقالاتها ما بين اللقطة من بعيد واللقطة من قريب".
سبق أن فازت ميسون صقر بجائزة كفافيس الدولية للشعر. وأُدرجت روايتاها "ريحانة" (2003)، و"في فمي لؤلؤة" (2016) في القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد. أما من ناحية حياتها المهنية، فقد سبق لها العمل في المجمّع الثقافي في أبوظبي في منصب رئيس قسم الثقافة والفنون والنشر، وعملت في وزارة الإعلام والثقافة في منصب مدير الإدارة الثقافية. وبحسب موقع جائزة الشيخ زايد: "ينتمي كتاب "مقهى الريش" إلى عالم الكتابة الأدبية المنفتحة على أشكال أدبية مختلفة، ولاسيما ما يعرف بسرد الأمكنة. إذ أن لمقهى ريش في مدينة القاهرة تاريخاً ثقافياً عريضاً وإرثاً إبداعياً واجتماعياً واسعاً. وقد قام الكتاب على جهد يجمع بين التاريخي والسردي مما يجعل الكتاب سيرة تاريخية موثقة من جهة، وإبداعية من جهة أخرى. كما أنه يقدم توثيقاً لحقبة مهمة من التاريخ الثقافي لمصر من خلال تتبعه لتحولات ثقافية واجتماعية في التاريخ المصري الحديث، والتوقف عند أبرز المثقفين والمبدعين المرتبطين بالمقهى وبتاريخ الحياة الفكرية في مصر".
الخيط الرفيع
تقول ميسون في حوارنا معها: "كما ارتبط مقهى ريش بالمدينة، فإنه ارتبط بالأحداث الكبرى، فرصدتُ تأثير الحربين العالميتين الأولى والثانية عليه، كما ارتبط برواده من صحافيين وشعراء ومفكرين وسياسيين. وقارنتُ بينه وبين مقهى غروبي القريب منه وهو لمالك سويسري ويغلب عليه الطابع الأوروبي، على العكس من ريش الذي كان يمتلكه في الأصل يوناني كان قريباً من الروح المصرية. وهكذا حاولتُ على مدار الكتاب أن أعثر على الخيط الرفيع بين الذي يربط المقهى بالمدينة والتاريخ والأشخاص".
قلتُ لها: دائماً هناك – في مسيرتك – شىء غير مكتمل، فأنتِ إماراتية لكنك تعيشين في مصر، ومبدعة فاعلة في حركة الشعر المصري لكنك إماراتية، فكيف تنظرين إلى هذه الازدواجية؟ قالت: "لقد ذهبت إلى القاهرة للتعلم أولاً ثم اتصلتُ بعالمها الثقافي في إطاره الواسع. وكان أول ديوان لي "هكذا أسمي الأشياء" عام 1983 لكني توقفت لسنوات بسبب رفض والدي، الشاعر العمودي والتفعيلي، لقصيدة النثر، ثم نشرتُ طبعات خاصة من دواويني ووزعتُها على أصدقائي حيث فضلتُ ألا أطرح نفسي بشكل واسع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سألتها: رغم صداقاتك مع شعراء جماعة "إضاءة" الشعرية، فإنك لم تفكري في الانتماء إليهم، فهل كانت الرغبة في التحرر من القيود وراء ذلك؟ فأجابت: "لم أكن قريبة فحسب من جيل السبعينيات، بل اقتربتُ أيضا من جيلي الثمانينيات والتسعينيات، وتعرفتُ على كل من فتحي عبد الله وعلاء خالد وأحمد يماني وأحمد الشهاوي، وبالنسبة لـ "إضاءة"، فقد تعرفتُ على أعضائها وعائلات بعضهم بينما كانت معرفتى بجماعة "أصوات" المعاصرة لها، معرفة شعرية فقط. أنا بطبعي خجولة ولم أشأ أن أكون منافسة لأحد، ومما زاد من خجلي من الانتماء لـ "إضاءة" أن أعضاءها جميعاً شعراء وليس بينهم شاعرة، فظلت علاقتي بهم إنسانية وشعرية، ومنهم حسن طِلِب وحلمي سالم وجمال القصاص. وكان وليد منير أقربهم إلى ذائقتي. وقد أراحتني هذه العلاقة الحرة حتى أكون منفتحة على الجميع من دون حساسيات".
أسرة شعرية
وعن دعم الأسرة لموهبتها، تقول، "بالطبع كانت تدعمني، فأنا من أسرة شعرية. والدي شاعر عمودي وجرَّب التفعيلة، وكان يزور بيتنا في القاهرة كثير من الشعراء، أذكر منهم حسن الصيرفي. وكانت أمي تعطيني مفتاح مكتبة أبي لأرتبها، وكان ذلك سبباً في اطلاعى على الكثير من أمهات الكتب. وأذكر أن أول هدية قدمها لي والدي كانت حكايات "ألف ليلة وليلة". قلتُ: تكتبين قصيدة النثر بروح القصيدة التفعيلية من حيث حضور اللغة والمجاز ولم تتأثرى بما شاع، لفترة، حول قصيدة النثر كاللغة التداولية والتخفف من المجاز والولع بالتفاصيل، فهل كان ذلك مقصوداً؟ أخبرتنا بقولها، "نعم. كنت واعية بذلك وأقصده وقد ساعدتني ظروف كثيرة على ذلك. ومنها أن هذه الرؤية لم تكن شائعة في جيل السبعينيات، ومنها اطلاعي المبكر على عيون الشعر العربي. هذا جعلني أشعر بوجود علاقة وطيدة بين الشعر القديم والجديد بغض النظر عن الأشكال. فجوهر الشعر واحد، ولهذا لم أتخل عن اللغة والمجاز والصورة الشعرية حتى لا تتحول القصيدة إلى كلام عادي. وأنت ناقد وتعرف أن للنقد أصولاً يجب مراعاتها، وكذلك الشعر. فاندياح اللغة واعتيادية الصورة أو سطحيتها لايصنعان شعراً". قلتُ: "البيت" – بتفاصيله الصغيرة وأشيائه الحميمة – هو عنوان أحد دواوينك، فهل يعني ذلك الرغبة في التوحد وتأمل الذات بعيداً عن صخب العالم؟ قالت: "مفردة البيت لها معان كثيرة، منها بيت القصيد وطبعا البيت الذي نسكنه، وكان من الطبيعي أن أتوقف أمام تفاصيله وأقوم بوضعها في سياق شعري؛ لأنني تنقلتُ بين بيوت كثيرة. فالبيت هو المأوى الذي ترتاح فيه الذات وتسكن إليه وتحاول الارتقاء بأشيائه من عالمه المادي المباشر إلى عالم القصيدة. وهذه الحميمية التى تشير إليها أشبه بعلاقة الجزء بالكل أو علاقة السطر الشعري بالقصيدة ككل".
توظيف الألوان
سألتُها عن ممارستها الفن التشكيلى وهل أثرت في شعرها وتحديداً في ديوانها "جمالي في الصور" القائم على توظيف الألوان في تشكيل القصيدة؟ ردت بقولها: "حاولتُ أن أكتب في كل شىء حتى أصنع توازناً داخل نفسي. فالحداثة في تصوري هي مسلك حياتي وليست مجرد كتابة. أنا لا أستطيع أن أكتب عن الحرية دون أن أكون حرة. والحرية التي أقصدها لا تعني الانفلات من القيم التي نشأنا عليها. والرسم الذي بدأتُ به يختلف عن الشعر؛ لأنه عامل أساسي في حركة الجسد حول اللوحة. على العكس من القصيدة التي تكون اللغة غايتها. واللون في الرسم مثل المفردة في الشعر، وقد ترك أثره في الكثير من قصائدي. فعندما أقول إن الستارة حمراء، فلهذا دلالته والقصيدة هي التي ترشح الدلالة المقصودة. والأدب والفن بأنواعهما يبدوان لي مثل الأواني المستطرقة".
قلتُ: هل هذا ما يفسر فكرة التعدد في مجالات إبداعك؟ فأجابت: "الأهم أنه يفسر مسألة أن تجرب فكرتك في أكثرمن وسيلة، أن تفكر بوسائل مختلفة لتبحث عن خصوصيتك. وقد تأثرت في الشعر والرسم بأبي وأخي، ثم انتقلتُ إلى الرواية؛ لأنها تأخذني إلى مناطق أوسع من القصيدة. وكنت في حاجة إلى ذلك للحديث الطويل عن بعض قضايا المجتمع الإماراتي. نعم أحب فكرة أنني شاعرة لكنني لا أكتفى بذلك، لأن حياتنا نفسها غير مستقرة ولا بد من التجريب والتفاعل بين كل الفنون. أرى نفسى كأننى معول وأمامي حجر كبير حاولتُ أن أصنع منه أشكالاً متعددة وإذا لم أنجح يكفيني أنني جربت".
السيرة الذاتية
قلتُ: لقد علَّق جابر عصفور على رواية "ريحانة" بقوله إنها تقع في دائرة روايات السيرة الذاتية أو حتى روايات النشأة التي تبحث في الجذور، فإلى أي مدى يصدق هذا الرأي على تلك الرواية؟ قالت: "من الطبيعي في الرواية الأولى أن أبحث عن الجذور. هذه الرواية تدور حول محورين هما: ظاهرة الاستعمار وظاهرة العبودية من خلال تتبع سيرة شخص. وقد فرقتُ بين العبودية العربية والعبودية في المجتمع الأميركي، ورأيت أن التحرر من العبودية في أميركا، كان مفيداً لهم وحدهم، هذا بالإضافة إلى القضايا الأخرى مثل صعود تيارات الإسلام السياسي".
وسألتها أخيراً: لماذا لم تكتبي سيرة ذاتية خالصة لا سيما أن رحلتك الحياتية ثرية وكثيرة التفاصيل؟ هل لأن سيرتك موزَّعة بين أعمالك؟ قالت: "سيرتي داخل الكتب والسيرة المباشرة قد تكون موجعة. لذلك نجد جوانب منها في "جمالي في الصور"، و"الآخر في عتمته"، و"جريان في مادة الجسد". كما استفدتُ منها في الروايتين. المهم هو أنني أدخلتها في سياق فني وابتعدتُ عن السياق المباشر".