عاد ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بين لبنان وإسرائيل إلى الواجهة مجدداً، بعد دخول الباخرة اليونانية "إنيرجيان باور" المنطقة المتنازع عليها، استعداداً لاستخراج الغاز في حقل كاريش.
دخول الباخرة اليونانية أيقظ السلطة اللبنانية الغائبة عن الملف منذ توقف المفاوضات في الناقورة، وبعد آخر زيارة للوسيط الأميركي إلى لبنان آموس هوكشتين في فبراير (شباط) 2022. وفرض التطور الميداني استعجال لبنان الرسمي الطلب بعودة الوسيط للبحث في استكمال المفاوضات لترسيم الحدود البحرية والعمل على إنهائها في أسرع وقت، حتى يتمكن لبنان من الاستثمار في ثروته النفطية والغازية في المياه اللبنانية، والحفاظ على الاستقرار والأمن في المنطقة الحدودية، كما ذكر الرئيس ميشال عون أمام سفراء دول الشمال.
فهل تكون زيارة الوسيط الأميركي، إذا ما حصلت، الأخيرة هذه المرة؟ وهل يتمكن من إنجاز ما لم يتمكن من تحقيقه زملاء له عملوا على الوساطة بين لبنان وإسرائيل، طوال السنوات العشر الماضية؟
إهمال وتخبط لبناني منذ البداية
لم يبدأ لبنان رسمياً متابعة ملف ترسيم حدوده البحرية إلا في عام 2002 حين كلفت الحكومة اللبنانية آنذاك مركز "ساوثمسون" لعلوم المحيطات بالتعاون مع المكتب الهيدروغرافي البريطاني، بإعداد دراسة لترسيم حدود مياهه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وذلك بغية إجراء عملية مسح جيولوجي للتنقيب عن النفط والغاز.
وأدى غياب الخرائط البحرية الواضحة لمنطقة جنوب لبنان وشمال إسرائيل إلى ترسيم غير دقيق. وفي عملية تحديث للدراسة الأولى عمل المكتب البريطاني نفسه عام 2006 بطلب من الحكومة اللبنانية على دراسة جديدة لترسيم الحدود البحرية الجنوبية، وتمكن لبنان على أثرها من توقيع اتفاقية مع قبرص عام 2007 حول تعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بهدف التعاون في استثمار الثروات النفطية.
وبحسب موقع الجيش اللبناني، فإن الاتفاقية مع قبرص استندت إلى القوانين المرعية الإجراء في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وحددت المنطقة الخالصة بين لبنان وقبرص على أساس خط الوسط، إلا أن الدولة اللبنانية لم تبرم الاتفاقية مع قبرص التي وقعت اتفاقية أخرى مع إسرائيل عام 2011 حددت بموجبها المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما، من دون الأخذ بما اتفق عليه مع لبنان، وهو ما تسبب بخسارة بلد الأرز مساحة مائية تزيد على 860كلم2 من المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية التي تحتوي كميات كبيرة من النفط والغاز.
10 سنوات و4 وسطاء
10 سنوات من التفاوض المتقطع لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل انطلقت بوساطة أميركية عام 2012. أول الوسطاء كان فريدريك هوف الذي قدم اقتراحاً لحل النزاع البحري بين لبنان وإسرائيل، نص على تقاسم المنطقة المتنازع عليها، برسم خط عرف في حينه بخط "هوف"، يعطي لبنان نحو 500 كيلومتر مربع، وإسرائيل نحو 360 كيلومتراً مربعاً من أصل كامل مساحة الـ860 كيلومتراً مربعاً. رفض لبنان اقتراح هوف على اعتبار أن المساحة الكاملة هي من حقه، فحاول الموفد الأميركي إقناع لبنان باعتماد خط "هوف" كخط مؤقت وليس نهائياً، إلا أن لبنان رفض الاقتراح خشية تحول المؤقت إلى دائم.
بقي الملف معلقاً حتى فبراير من العام نفسه، بعد توقيع لبنان عقداً مع ائتلاف شركات دولية هي "توتال" الفرنسية و"إيني" الإيطالية و"نوفاتيك" الروسية للتنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحله وفي مياهه الإقليمية في البلوك 4 و9، ما اعتبرته تل أبيب "استفزازاً"، وعندها دخلت أميركا بالوساطة مجدداً بين البلدين في عام 2018، من خلال مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفلد، الذي أعاد اقتراحات "هوف" لرسم الحدود البحرية بين الطرفين، غير أن لبنان رفض المقترح، وأصدر رئيس مجلس النواب نبيه بري بياناً تضمن رفضاً غير مباشر للوساطة الأميركية من خلال إصراره على ترسيم الحدود عبر اللجنة الثلاثية المنبثقة من تفاهم أبريل (نيسان) 1996 التي تضم لبنان وإسرائيل والأمم المتحدة.
عاد ملف ترسيم الحدود إلى الواجهة مجدداً خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى بيروت عام 2019 حيث التقى الرؤساء ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري، وتناقش معهم في مواضيع عدة، كان من بينها ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية. وبعد أشهر قليلة على زيارة بومبيو زار ساترفيلد بيروت مرتين في غضون أيام، والتقى كلاً من الحريري وبري ووزير الخارجية اللبناني جبران باسيل آنذاك، وأبلغهم قبل مغادرته إمكانية إجراء مفاوضات غير مباشرة، تشمل الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل. استمر ساترفيلد بوساطته بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي إلى أن تم تعيين دايفد شنكر خلفاً له في أيلول عام 2019.
انتظر شنكر مرور عام على تكليفه قبل أن يجري زيارته الأولى إلى لبنان، التي حصلت على خلفية انفجار مرفأ بيروت في 3 أغسطس (آب) 2020، حيث لم يلتق أياً من الرؤساء، مع أن زيارته وضعت سابقاً في إطار استكمال المناقشات حيال ترسيم الحدود مع إسرائيل. وكانت إدارة ترمب حينها تسعى إلى عقد اتفاقيات عربية- إسرائيلية بشكل عام، وتكشف مصادر مقربة من شنكر أن السعي كان للتوصل إلى اتفاق على الحدود البرية أيضاً بين لبنان وإسرائيل.
ومع ازدياد اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بنفط الشرق الأوسط وغازه، بهدف الاستغناء عن الغاز الروسي، ركزت على ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. وأعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 التوصل إلى اتفاق إطار لإطلاق المفاوضات مع إسرائيل لترسيم الحدود براً وبحراً. وقال إن "واشنطن تعتزم بذل قصارى جهودها من أجل إدارة المفاوضات واختتامها بنجاح في أسرع وقت ممكن".
إيجابية بري ورضوخه للدور الأميركي سبقه قبل أشهر معدودة قرار الخزانة الأميركية فرض عقوبات على معاونه السياسي النائب علي حسن خليل ومعه الوزير السابق يوسف فنيانوس بتهمة دعم "حزب الله" والضلوع في فساد. وعليه عقدت في أكتوبر 2020 الجولة الأولى من المفاوضات غير المباشرة في مقر الأمم المتحدة في الناقورة وبوساطة أميركية، وجرت جولة ثانية وصفتها خارجية واشنطن بالمثمرة، تلتها جولتان ثالثة ورابعة انتهت بالاتفاق على عقد جلسة خامسة في مطلع ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه.
هوكشتين آخر الوسطاء
مع إصرار رئيس الجمهورية على سحب ملف التفاوض من بري وتكليف قيادة الجيش بتشكيل وفد عسكري تقني للتفاوض، وبعد أن أعادت قيادة الجيش دراسة الخرائط وناقضت اتفاق الإطار الذي وضعه بري مع الأميركيين، معتمدة الخط 29 بدلاً من الخط 23، تراجعت الوساطة الأميركية إلى أن عين الرئيس جو بايدن في أكتوبر 2021 وسيطاً جديداً لملف ترسيم الحدود هو آموس هوكشتين الضليع في مجال الطاقة، ما اعتبر قراراً أميركياً ببذل جهد إضافي لاستئناف المفاوضات والتوصل إلى تسوية مقبولة من الطرفين لكن شرط ألا تنطلق من الخط 29.
ترافق ذلك مع دخول رئيس التيار الوطني الحر على الخط، محاولاً إقناع الجانب الأميركي بقدرته على العودة إلى الخط 23، محاولاً اللعب على وتر العتب الأميركي على منافسه لرئاسة الجمهورية قائد الجيش جوزيف عون، لكن الانقسام اللبناني الداخلي وعدم وحدة الموقف وصعوبة التراجع عن الخط 29 بعد أن كان رئيس الجمهورية بنفسه أمر الوفد المفاوض بالذهاب به إلى المفاوضات، جعل من مهمة الوسيط الجديد شبه مستحيلة، في وقت أبقى رئيس التيار جبران باسيل الباب مفتوحاً من خلال رفض رئيس الجمهورية التوقيع على تعديل المرسوم 6433 المناقض للخط 23.
ووسط هذه الأجواء الشائكة، بدأ الوسيط الأميركي هوكشتين مهمته التي تخللها جولات من المفاوضات في الناقورة قبل أن تتوقف لإصرار كل فريق على موقفه من احتساب المنطقة المتنازع عليها. تلقى لبنان بعدها رسائل أميركية وإسرائيلية اعتبرت أن خروجه عن الاتفاق في شأن المساحة المتفق على تقاسمها وفق خط فريدريك هوف سيؤدي إلى نهاية الاتصالات. وعاد هوكشتين إلى بيروت حاملاً اقتراحاً جديداً اعتمد على خط متعرج يمنح حقل كاريش بالكامل لإسرائيل وحقل قانا بالكامل للبنان. غادر بعدها الوسيط الأميركي منتظراً الرد اللبناني الذي لم يأت، فيما اكتفى الرؤساء الثلاثة عون وبري وميقاتي عقب اجتماع عقد بعد 40 يوماً على زيارة هوكشتين، بإصدار بيان ضبابي عبر الإعلان عن التمسك بالعودة إلى اتفاق الإطار الذي لا يحدد أي خطوط أو مناطق متنازع عليها، بل ينطلق من قانون البحار والمواثيق الدولية، وقرر الرؤساء دعوة الولايات المتحدة الأميركية إلى الاستمرار في جهودها لاستكمال المفاوضات لترسيم الحدود البحرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقفت الوساطة الأميركية عند هذه النقطة حتى دخلت الباخرة اليونانية إلى حقل كاريش وأعلن عن بدء استخراجها للغاز لصالح إسرائيل، ما دفع بالرؤساء الثلاثة إلى الاستنجاد مجدداً بالوسيط الأميركي ودعوته إلى زيارة لبنان لاستئناف المفاوضات، وعلى قاعدة أن الخط 29 كان تفاوضياً فقط كما أعلن رئيس الحكومة.
تهديدات نصر الله
استباقاً لزيارة آموس هوكشتين المتوقعة، ليل الأحد، بدا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في موقف بالغ الدلالة كمن يوجه رسالة تطمينية إلى الوسيط الأميركي بقوله "أصلاً الخط 29 كان خطاً تفاوضياً"، رافضاً الدخول في أي عمل ارتجالي يعرض لبنان للمخاطر.
في الاتجاه المعاكس، وضع الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله المسدس على الطاولة قبل وصول الوسيط الأميركي، كما علق النائب مروان حمادة. فنصر الله الذي أعطى الضوء الأخضر للدولة اللبنانية باستئناف المفاوضات ضمن مهلة لا تتجاوز الشهرين، وهي الفترة التي تحتاج إليها إسرائيل لبدء استخراج الغاز من حقل كاريش، أبدى أيضاً استعداده للمواجهة ومنعها من استخراج الغاز إذا فشلت المفاوضات.
وفي إطلالة تلفزيونية حملت في توقيتها رسالة بالغة الأهمية بحيث جرت الخميس في تمام الساعة 8:35 دقيقة، وهو الوقت الذي أطلق فيه "حزب الله" أول صاروخ على البارجة الإسرائيلية في حرب يوليو (تموز) 2006 قال نصر الله، "المقاومة قادرة على منع العدو من استخراج الغاز والنفط من حقل كاريش المتنازع عليه، وأي حماقة يقدم عليها العدو ستكون تداعياتها ليس فقط استراتيجية بل وجودية". وأكد نصر الله أن "لبنان يملك في هذه المواجهة الحق والدافع، فلديه استحقاقات خطيرة جداً ويملك القوة تحت عنوان الجيش والمقاومة".