Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

...أخيرا فيلم جزائري تذكاري عن الأمير عبد القادر يحققه أحمد راشدي

حارب الفرنسيين فأسروه مكرّماً ودعاه إمبراطورهم إلى ابتكار "القومية العربية"

لوحة تذكارية لعبد القادر وسط الطبيعة (أ.ف.ب)

عندما يصدف أن تلتقي هذه الأيام بالمخرج الجزائري أحمد راشدي المعتبر أحد كبار مؤسسي السينما في بلده، لن يفاجئك فيه مرحه الدائم بل قدر على محياه من انشغال بال. المرح يبدو بالتأكيد نابعاً من طبيعته المبتسمة ولكن في هذه الأيام بالذات من كونه في طريقه لتحقيق واحد من أكبر أحلام حياته المهنية. ومن البديهي أن انشغال البال نابع من ضخامة مسؤولية هذا الحلم وتحقيقه بالذات. وما نتحدث عنه هنا هو طبعاً مشروع يشتغل عليه عن حياة الأمير عبد القادر الجزائري الذي دائماً ما اعتبره قدوة له فكراً ونشاطاً وتبحراً في العلم.

والحقيقة أن مجرد انصراف راشدي لتحقيق هذا المشروع أمر جديد ومباغت. فلأسباب عدة ليس هنا مكان تعدادها، لم يقيَّض للأمير المقاتل والسياسي والمتصوف أن يُحقق فيلم عن حياته قبل اليوم على رغم كثرة الأفلام "التاريخية" التي حققتها الجزائر منذ استقلالها. ومن هنا تبدو سعيدة مناسبة احتفال هذا البلد بالذكرى الستين للاستقلال، لينطلق مشروع راشدي المتجسد في فيلم ترصد له السلطات الجزائرية ميزانية ضخمة، ويقول صاحب "الأفيون والعصا" أنه سيجعل منه فيلم حياته وفيلم عودة الأمير إلى واجهة الأحداث.

اهتمام فرنسي

وإذ يقول السينمائي المخضرم هذا لا يسهى عن باله أن الفرنسيين قد بدوا على الدوام أكثر وفاء لذكرى عبد القادر، من أهل أمته العرب، إذ لا يكاد يمضي عقد من السنين إلا ويصدرون عنه كتباً ودراسات تستعيد ذكراه ومواقفه. غير أن هذا لا يمنع من إشارة راشدي إلى أن الفرنسيين التفتوا دائماً إلى وجه عبد القادر الذي يستهويهم أكثر من غيره: وجه المفكر المتصوف المتسامح، الذي صادقهم بعد قتال وحمى "أهلهم" المسيحيين في المشرق العربي الذي أقام فيه آخر سنوات حياته. وهذا الوجه هو الذي صوره المستشرق معتنق الإسلام ميشال شودكيفتش في كتاب أصدره قبل عقود واستعرض فيه الفكر التصوفي لدى عبد القادر وترجم كتابه "المواقف" الذي يكشف عن العلاقة الروحية التي قامت بين عبد القادر وابن عربي، العلاقة التي جعلت عبد القادر حين أرغم على سلوك سبيل المنفى، يختار دمشق "لأنها المدينة التي مات فيها محيي الدين ابن عربي بعد أن عاش آخر سنواته في أحضانها"، ولأنه كان يرغب في أن يدفن حين يموت في قبر إلى جانب المتصوف الأندلسي الكبير. ويقول راشدي أنه لئن كان يشتغل على مشروعه انطلاقاً من تلك الصورة فإنه ينطلق أيضاً فيه انطلاقاً من صورة أقل غيبية تطالعنا في كتاب أكثر حداثة عنوانه "عبد القادر" يستعرض فيه مؤلفه برونو إتيان أفكار عبد القادر الذي كان يلقب في فرنسا بـ"سلطان العرب". ولئن كان إتيان يهتم بالجزء الثاني من حياة عبد القادر، الجزء الذي يبدأ من أسره في مدينة "بو" في الجنوب الفرنسي ويتواصل مع إطلاق سراحه على يد نابليون الثالث، ويرسم صورة لعبد القادر بعد أن كرس ما تبقى من سنوات عمره للتصوف والزهد سائراً على خطوات ابن عربي، فإن ثمة كتاباً آخر صدر بعنوان مشابه يسد النقص ليغوص أكثر في الجزء النضالي من حياة هذا الوجه العربي الإسلامي الكبير، حياته حين قاد الجزائريين في حرب وطنية ضروس وفي جهاد متواصل ضد الفرنسيين الذين كانوا قد احتلوا الجزائر لتوهم.

صورة قيد النسيان

مهما يكن فإن هذا الكتاب الذي يعيد إلى الأذهان صورة لعبد القادر يفضل الفرنسيون نسيانها، هو من تأليف ثلاثة باحثين منهم اثنان جزائريان: إسماعيل عولي ورمضان رجالة، والثالث فرنسي هو فيليب زومروف عاش في الجزائر سنوات طويلة من حياته. والحال أن هذا الكتاب الذي شاء له مؤلفوه أن يكون بسيط الأسلوب واضح الرؤيا، على أن يصل إلى أكبر عدد ممكن من القراء، يعتبر أول محاولة جدية للتأريخ حقاً لحياة عبد القادر الجزائري منذ الكتاب الشهير الذي وصفه الإنجليزي تشارلز – هنري تشرشل، وترجم إلى الفرنسية في الجزائر عام 1971، فكان إشارة إلى استعادة الجزائر لاهتمامها بعبد القادر، بعد أن كانت السلطات الجزائرية قد استعادت عام 1966 رفات الأمير ودفنتها في "المقبرة العالية". يومها، وعلى الرغم من أن الاحتفال كان بسيطاً لكيلا يستفز بعض الغلاة الجزائريين الذي كانوا يصرون على أن عبد القادر "لم يكن في نهاية الأمر سوى حليف الفرنسيين وصنيعتهم"، ألقى الرئيس الراحل بومدين خطاباً قال فيه: "إن عودة البطل إلى مسقط رأسه إنما هي رمز للعودة إلى الجذور". ومع ذلك فإن راشدي لا يخفي أنه إنما يعتمد في مشروعه السينمائي بشكل خاص على ذلك الكتاب الإنجليزي وربما لأنه يبدو بالنسبة إليه بعيداً من الأهواء الفرنسية وحتى الجزائرية التي تعمدت دائماً أن تصيغ للأمير صورة تناسبها.

حياة صاخبة لمفكر هادئ

في الأحوال كافة، يقول راشدي إنه يريد لفيلمه أن يأتي على شكل سيرة شبه متكاملة للبطل، تصوره في شتى مراحل تطور حياته تبدأ بولادته في قطنة وادي الحمام، قرب مسكرج، بين عامي 1807 و1808، وترسم صورة للوضع السياسي والأطماع الأوروبية في الجزائر، والوجود التركي المتحالف مع حكام ذلك الحين، بل تتجاوز هذا لتقدم صورة للوضع السياسي والعسكري في كل المنطقة المغربية، وصولاً إلى "الحادثة" التي أدت إلى اتخاذ فرنسا قرارها بغزو الجزائر (حادثة الإهانة التي وجهها الداي حسين للقنصل الفرنسي دوفال والتي اتخذتها الحكومة الفرنسية ذريعة لاحتلال هذا البلد). يومها بعد دخول الفرنسيين بعامين يعلن محيي الدين، والد عبد القادر، الجهاد ضدالمحتلين ويبدأ بمهاجمة الفرنسيين المرابطين في وهران، ثم يبدأ بنشر أتباعه يدرّسون الفتيان اللغة العربية والقرآن الكريم، معتبراً أن الجهاد لا يستقيم إلا "بمعرفة ديننا ولغة هذا الدين". وفي أواخر عام 1832 يعلن محيي الدين أنه قد فوض ابنه عبد القادر بقيادة الثورة، وكان له من العمر ثلاث وعشرون سنة فقط.

زعيم الثورة

وهكذا صار عبد القادر منذ ذلك الحين زعيماً للثورة، وبدأ يتحرك مقارعاً الفرنسيين، يحتل تلمسان ثم يخسر مستغانم، فيحتل غيرها ثم يجد نفسه مضطراً لمحاربة جزائريين آخرين يوالون الفرنسيين، ثم يجد أن من مصلحته التحالف مع هؤلاء ضد أعدائه المحليين فيفعل، لكنه يعود ويقارع الفرنسيين مرة أخرى ويبقى الوضع على هذا النحو حتى يتمكن الجنرال بوجو من إلحاق هزيمة كبيرة بعبد القادر على ضفاف نهر سكاك. وبعد عام يوقع عبد القادر هدنة مع الفرنسيين يصادق عليها لوي فيليب ويعود بموجبها عبد القادر إلى تلمسان بعد أن يبارحها الفرنسيون. لكنه بعد ذلك يخسر قسنطينة ثم يضطر لخوض القتال ضد القبائل البربرية كما ضد مسلحي جماعة التيجانية خسارة وصلت إلى ذروتها مع احتلال الفرنسيين لصيدا (الجزائرية) وإحراقها في 22 تشرين الأول (أكتوبر) 1841. وتتوالى هزائم عبد القادر حتى يضطر للجوء إلى المغرب في آخر تموز (يوليو) 1843، وهو سوف يعود إلى الجزائر مرات عدة ثم يبارحها مرات عدة خلال السنوات التالية، مجاهداً حيناً، ومحاولاً تأليب القبائل أحياناً. ولسوف ينتهي هذا كله باستسلام عبد القادر، بعد أن كان الفرنسيون قد أبلغوه أنه في حال استسلامه سوف ينفى إلى المشرق إلى عكا أو الاسكندرية لو يشاء. وبهذا تنطوي صفحة وتبدأ صفحة أخرى في حياة عبد القادر.

من السجن إلى التكريم

ولئن كانت الصفحة الأولى قد حفلت بشتى ضروب النضال والقتال والخيانات والمساومة، فإن الصفحة التالية كانت أكثر هدوءاً، وهي التي نقلت عبد القادر من مصاف المناضل – المقاتل "الخارج على القانون" بحسب التعبير الفرنسي، إلى مصاف المفكرين ورجال التنوير الكبار. وربما من المهم أن نذكر هنا أن تلك المرحلة، ترينا عبد القادر وقد بقي ستة أشهر في سجن "بو" في الجنوب الفرنسي، قبل أن ينقل إلى "قصر إمبواز" حيث التقاه الإمبراطور لوي نابوليون، خلال عودته من بوردو، ليبلغه شخصياً بأنه لم يعد سجيناً وأنه أطلق سراحه. وخلال هذا اللقاء، اجتمع الإمبراطور بالثائر ساعات طويلة تناقشا خلالها في العديد من الشؤون السياسية والفكرية – ويروي المؤرخون أن تلك الحوارات كانت هي التي شهدت للمرة الأولى حديثاً عن ضرورة قيام اتحاد عربي بزعامة عبد القادر "يخلص العرب من الأتراك". ويرى أولئك المؤرخون أن الإمبراطور الفرنسي كان هو الذي حض الأمير عبد القادر على ابتكار ما أسماه "النزعة القومية العربية" كوسيلة ناجعة لتوحيد العرب وقيادتهم نحو تحقيق استقلالهم بعيداً من النزعة الإسلامية السياسية التي تجعل العالم يرى في حراك عبد القادر وقومه مساندة للفكرة العثمانية!! غير أن هذه حكاية أخرى، المهم هنا هو أن عبد القادر توجه مع جماعته إثر ذلك اللقاء إلى مرسيليا ومنها إلى الآستانة. وهو سيتوجه إلى دمشق التي سيمضي فيها 28 عاماً هي الفترة الأكثر صفاء وهدوءاً في حياته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أحداث تفيض عن أي فيلم

على هذه الوتيرة عاش عبد القادر في دمشق وكان بوده أن يعيش هكذا إلى الأبد، أي حتى وفاته. غير أن دمشق ومنطقة الشام كلها عرفت في تلك السنوات قلاقل كثيرة وفتناً طائفية. كان عبد القادر يسهم في وأد فتنها مؤمناً الحماية للأقليات الدينية وحتى العرقية، حيث كان يكفي المسيحي أو اليهودي أن يلجأ إلى الأمير حتى يسلم بروحه وأمواله وأهله. والسؤال الآن هو التالي: هل سيتسع فيلم أحمد راشدي العتيد لكل هذه الأحداث؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة