أنهى المجلس النيابي اللبناني تنظيم بيته الداخلي بإنجازه انتخاب اللجان النيابية المتخصصة، مساء الجمعة 10 يونيو (حزيران)، بعد انتخاب رئيسه نبيه بري ونائبه المنتمي إلى "التيار الوطني الحر" إلياس بوصعب، وهيئة مكتبه ليصبح أمام الاستحقاقات التالية التي على عاتقه، بدءاً باختيار رئيس الحكومة الجديدة، مروراً بإقرار الإصلاحات المالية الاقتصادية البنيوية المحالة إليه، وصولاً إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية آخر الصيف ومطلع الخريف.
لكن إقرار القوانين الإصلاحية هي الأكثر إلحاحاً، لأنها شرط لعرض اتفاق لبنان مع صندوق النقد الدولي، الذي تم التوصل إليه في 7 أبريل (نيسان) الماضي، على مجلس إدارته التنفيذي ليصبح نافذاً، ويحصل لبنان بموجبه على المساعدات المالية الموعودة، أي 750 مليون دولار أميركي في السنة على مدى 4 سنوات، والتي يحتاج إليها في شكل عاجل لوقف مسار الانهيار في اقتصاده وماليته العامة.
وأبرز هذه القوانين: تعديل قانون السرية المصرفية، وموازنة العام الحالي، والكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف وإحياء القطاع المصرفي. وأمام البرلمان مهمة أشبه بالمعضلة في ظل التعقيدات السياسية التي تتحكم بالمسرح السياسي في لبنان، هي تسمية رئيس للحكومة وسط تباعد المواقف حول الشخصية التي يمكن أن تكون بديلاً لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.
التغييريون في مواجهة الواقع الطائفي للبرلمان
واجه البرلمان الجديد، الذي اختلف تكوينه بعد صدور النتائج الرسمية للانتخابات العامة، في 17 مايو (أيار) الماضي، واقعاً جديداً في تركيبته بدخول 13 نائباً من "التغييريين"، الثائرين منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019 على الطبقة السياسية والسلطة الحاكمة، يضاف إليهم بعض المستقلين المتعاطفين معهم، من أصل العدد الإجمالي الذي يبلغ 128 نائباً.
ومع أن هذا التغيير في تركيبة البرلمان أفقد "حزب الله" وحلفاءه الأكثرية، فإن ترتيب ما سمي "المطبخ التشريعي" بانتخاب الهيئات القيادية في البرلمان لم يعكس تعديلاً جوهرياً في ميزان القوى، إذ إن القوى السياسية التقليدية المتنافسة والمتناحرة بين حليف للحزب وخصم له، سعت إلى تسويات بينها لتقاسم المناصب، فيما نجح "حزب الله" في ضمان انتخاب حليفه لنيابة رئاسة البرلمان.
وإذا كان من استنتاجات لها تداعياتها المحتملة على الاستحقاقات التي على البرلمان مواجهتها في المرحلة المقبلة، فإن التسويات بين الأحزاب التقليدية، على الرغم من تناقضاتها، حالت من دون تبوء "التغييريين" مواقع مهمة في "المطبخ التشريعي"، وفي اللجان النيابية التي تدرس مشاريع واقتراحات القوانين. واصطدم هؤلاء بواقع المجلس النيابي الطائفي، حيث تفرض الأعراف توزيعاً مدروساً للنواب على لجانه النيابية، فتولت هي رئاستها، واستبعدت النواب الجدد.
فرض الانتخابات بدلاً من التوافق
إلا أن "التغييريين"، الذين يمثلون زهاء 10 في المئة من البرلمان، تمكنوا من فرض حصول انتخابات لأعضاء اللجان ورؤسائها ومقرريها، الذين درجت العادة في السنوات الماضية على تقاسمها بالتوافق من دون التصويت لاختيارهم، على الرغم من أن مرشحي التغييرين لعضوية بعضها سقطوا في وجه منافسيهم الحزبيين، الذين يمثلون الأكثرية.
وأدّت التسويات في هذه الانتخابات إلى امتناع قوى من الأحزاب المتعاطفة مع الثورة، مثل حزب "القوات اللبنانية"، وحزب "الكتائب"، ومستقلين أمثال النواب نعمة فرام وميشال معوض وميشال الضاهر وأسامة سعد وعبد الرحمن البزري، عن التصويت للتغييريين، بل لممثلي الأحزاب الأخرى، من أجل تبادل الأصوات معها للوصول بدورهم إلى هذه اللجان.
بعض النواب القدامى أخذ على التغييريين أنهم يتصرفون بسذاجة لرفضهم تسويات في العملية الانتخابية، فيما هؤلاء أرادوا تسجيل مواقفهم المبدئية حيال رموز الطبقة الحاكمة، فإن الخلاصة من وراء هذا التمرين للتصويت النيابي هي التساؤل عن انعكاس ذلك على الاستحقاقات المقبلة، بدءاً بتسمية رئيس الحكومة الجديدة، وإمكانية تقاطع خيارات هؤلاء على شخصية تحصل على الأكثرية.
استبعاد ميقاتي
اختيار رئيس الحكومة يخضع لتعارض توجهات القوى التقليدية نفسها، بحيث تميل التوقعات إلى تشتت أصوات النواب قياساً إلى التسويات التي شهدتها انتخابات المطبخ التشريعي. والمواقف المعلنة تؤشر إلى تقاطع الأضداد في الانحياز إلى اسم ما، أو رفضه.
ويلتقي تكتل نواب "التيار الوطني الحر" مع كتلة نواب "القوات اللبنانية" وكتلة النواب "التغييريين" وبعض المستقلين، كل لسببه، على استبعاد تأييد ترشيح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي يبدو الأوفر حظاً في هذه المرحلة.
"التيار" يرفضه لعدم انسجامه مع مطالب رئيسة يرفعها، أبرزها: إقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لتعيين بديل منه من الموالين للفريق الرئاسي الحاكم (وهو مطلب لا يتردد الرئيس ميشال عون في القول إنه سينفذه قبل مغادرته الرئاسة في الخريف المقبل)، وإقالة قائد الجيش العماد جوزيف عون كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية لاستبعاده، وإجراء التعيينات الإدارية والتشكيلات الدبلوماسية والقضائية التي طلبها باسيل من ميقاتي منذ أشهر ويتهمه المقربون من باسيل بأنه "راوغ طوال عهد حكومته من أجل تجنب إقرارها في مجلس الوزراء بحجج شتى، بعد أن أبدى عدم ممانعة في الاستجابة لها".
والحجة الرئيسة لميقاتي في رفضها هي عدم جواز إلزام العهد الرئاسي المقبل بتعيينات في مراكز حساسة قبل أربعة أشهر من نهاية عهد عون. وتعتقد مصادر مقربة من ميقاتي أن باسيل يريد من هذه التعيينات ضمان حكم لبنان إدارياً في العهد الرئاسي المقبل على قاعدة أن النفوذ في السلطة السياسية يأتي من التحكم بالسلطة الإدارية.
كما أن ميقاتي أعلن رفضه المسبق لتوقيع مرسوم كان الرئيس عون ينوي إصداره بمنح الجنسية اللبنانية لعدد من رجال الأعمال السوريين والعراقيين. ولم يُخفِ ميقاتي خشيته في تصريح علني من تكرار ما ورد في تقارير إعلامية عن أن "رائحة سمسارات وعمولات" تفوح من مرسوم التجنيس هذا.
أما حزب "القوات" فقد حدد رئيسه سمير جعجع "مواصفات" لرئيس الحكومة المقبل، في ظل عدم استبعاد نوابه فكرة عدم الاشتراك في الحكومة. وبدا أنها شروط على ميقاتي، منها أن يضع "نظاماً داخلياً لعمل مجلس الوزراء كنظام المجلس النيابي، بحيث لا يتمكن أي وزير من تعطيل قرار أو مرسوم على غرار ما يفعل وزير المال يوسف خليل اليوم في ملف التشكيلات القضائية، وأن يتعهد عدم تخصيص أي حقيبة لأي حزب أو طائفة، والأهم في هذه المرحلة حقيبة الطاقة، كأن يتعهد بتشكيل حكومة متجانسة ويفصل النيابة عن الوزارة، ويتمتع بالهوية السيادية، فيعمل على إعادة القرار الاستراتيجي إلى الحكومة ويلزم كل الأطراف بعدم تجاوز سقف هذا القرار، ويحصر القرار الأمني والعسكري بالجيش اللبناني". كما أن جعجع سبق أن أعلن رفضه صيغة حكومة وحدة وطنية، داعياً إلى تركيبة من الأكثرية الجديدة، بينما يطالب "الثنائي الشيعي" وفقاً لمبدأ "الشراكة الوطنية"، كما يصفها "حزب الله"، الذي يعتبر أن الانتخابات لم تفرز أكثرية.
والنواب التغييريون يرون مجيء رئيس للحكومة مستقل عن المنظومة السياسية، التي يتهمونها بالفساد، ويطالبون برئيس من الاختصاصيين لحكومة اختصاصيين أيضاً. ويلتقي معهم في هذا الموقف نواب حزب "الكتائب" الأربع. ويفضل النواب الجدد شخصية قريبة من أفكارهم سبق للثوار أن اقترحوها مثل القاضي في محكمة العدل الدولية سفير لبنان السابق في الأمم المتحدة الدكتور نواف سلام، فإن الأخير أبلغ هؤلاء بعيد الانتخابات عدم نيته قبول المهمة في ظل التعقيدات السياسية الراهنة التي ستفرض نفسها لمناسبة معركة رئاسة الجمهورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الكتل التي تفضل ميقاتي
في المقابل، ترى كتل أخرى وازنة أيضاً، أن عمر الحكومة المقبلة قد لا يتعدى الأربعة أشهر ونصف الشهر، لأنها ستعتبر دستورياً مستقيلة لمجرد انتخاب رئيس للجمهورية، بالتالي لا مانع من تقطيع المرحلة بتسمية ميقاتي، لأن حكومته بدأت خطوات الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي من جهة، ولأنه يحظى بقبول فرنسي وعدم ممانعة أميركية لإدارة الأزمة المالية الاقتصادية المستفحلة في فترة انتقالية. وهذه الكتل، التي لم تكشف خياراتها علناً بعد، هي: "حزب الله" وحركة "أمل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" وبعض المستقلين من النواب السنة.
كما أن بعض الدول العربية المتابعة للشأن اللبناني تنضم ضمناً إلى وجهة النظر هذه من باب غياب البدائل في هذه المرحلة، ولأن موقفه بالتجاوب مع مطالب دول الخليج العربي التضامن معها في مواجهة عدائية "حزب الله" لها يسجل لمصلحته على الرغم من نفوذ الحزب في التركيبة الحاكمة، قياساً إلى مواقف الرئيس عون المنحازة إلى الحزب واستمرار احتفاظه بسلاحه.
ويلفت العارفون بحظوظ ميقاتي إلى أنه يحظى بتغطية سنية من زعيم تيار "المستقبل" رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، الذي لم ينقطع تواصله معه على الرغم من تعليق الأخير عمله السياسي التقليدي وعزوفه عن خوض الانتخابات النيابية، فضلاً عن علاقته برئيسي الحكومة السابقين فؤاد السنيورة وتمام سلام.
والتغطية السنية لميقاتي يعتبرها "حزب الله" مواتية له حتى لا يتهم بأنه رجح شخصية مجردة من دعم طائفته، لا سيما أنه ارتاح إلى إدارته للخلاف حول موقف الدول العربية من لبنان بعد اتهام الحزب بالهيمنة على قرارات الحكومة. غير أن تسمية ميقاتي ستكون بأكثرية ضئيلة في هذه الحال.
أسماء استحضرها باسيل
سعي الفريق الرئاسي المقرب من عون وباسيل لاستبدال ميقاتي كان حثيثاً في الأسابيع الأخيرة. ومن الأسماء التي طرحها أربعة مرشحين هم: الخبير الاقتصادي صالح نصولي، الذي عمل منذ عقود في الخارج، وكان مسؤولاً في صندوق النقد الدولي. وزار لبنان بناءً على طلب باسيل، والتقى رئيس الجمهورية والبرلمان بتشجيع من باسيل.
كما طرح الفريق الخبير الاقتصادي الذي عمل أيضاً في صندوق النقد والأكاديمي عامر بساط، وكذلك رجل الأعمال جواد عدرة، وأخيراً النائب الجديد عن صيدا الدكتور عبد الرحمن البزري. وباستثناء الأخير فإن المرشحين الثلاثة الآخرين من المغمورين في السياسة اللبنانية، لكن أسماءهم طرحت على ميقاتي نفسه، الذي ناقش الأمر مع بري، وعلى "حزب الله" عبر اجتماعات باسيل مع مسؤول التنسيق والارتباط فيه وفيق صفا. أما الأسماء الأخرى مثل النائب الجديد اللواء أشرف ريفي، ووزير الاقتصاد الحالي أمين سلام، ووزير الداخلية بسام المولوي، فاقتصر ذكرها على وسائل الإعلام، من دون التداول بها في غرف القرار.
إزاء هذه التسريبات يكتفي ميقاتي بالتمني "أن يسرع المجلس النيابي في اختيار من يراه مناسباً، وأن يكون التشكيل الحكومي سريعاً من دون شروط وتعقيدات يضعها أي فريق في وجه الرئيس المكلف". ويقول أحد مستشاريه البارزين، إن تسريب أسماء مرشحين لرئاسة الحكومة هدفه أن يستجيب ميقاتي لمطالب الفريق الرئاسي خلال ما تبقى من ولاية الرئيس عون، أو الإتيان بشخصية مطواعة لما يريده باسيل وفريقه من الحكومة المقبلة.
وفي اعتقاد أحد السياسيين المخضرمين، الذي يقفون على الحياد في هذا الخضم، أن أقصى ما يمكن التطلع إليه في ظل التناقضات المحتدمة، هو أن تتم تسمية ميقاتي لتشكيل الحكومة من دون أن يتمكن من تأليفها فيبقى مكلفاً ويصرف الأعمال حتى نهاية ولاية الرئيس عون، لعل الانتخابات الرئاسية تأتي بالمخارج الممكنة. ولهذا حديث آخر، وسيكون على حكومة تصريف الأعمال عبء اتخاذ إجراءات إدارة الأزمة المالية الاقتصادية على الرغم من أنها ليست كاملة الصلاحية. وهو ما سيعرضها للحملات.