شكّل الغاز الطبيعي لأعوام طويلة ورقة ضغط روسية على أوروبا في كثير من الملفات، بحيث تستحوذ موسكو على 35٪ من إجمالي واردات أوروبا من هذه المادة الحيوية، وهي تسعى إلى زيادة حصتها إلى 40% بفعل تراجع الإنتاج الأوروبي وانخفاض كلفة استخراج الغاز الروسي. وتُعدّ ألمانيا أكبر مشترٍ للغاز الروسي، فيما تبتاع 11 دولة عضوة في الاتحاد الأوروبي أكثر من 75% من إجمالي واردات موسكو.
الغاز الأميركي
اليوم، تسعى الولايات المتحدة إلى إنهاء عقود من الهيمنة الروسية على تصدير الغاز إلى القارة الخضراء من خلال زيادة وارداتها من المادة إليها. وتشير الأرقام إلى تدفق نحو 24% من الغاز الطبيعي المسال الأميركي إلى أوروبا، مقارنة بـ 10% في العام 2017، مع توقعات المفوضية الأوروبية بتضاعف صادرات الولايات المتحدة إليها بحلول السنة 2022. وكان رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود جونكر، والرئيس دونالد ترمب، قد اتّفقا على تعزيز التعاون الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولا سيما في مجال الطاقة. ووعد جونكر باستيراد الاتحاد مزيداً من الغاز من أميركا. وترى أوروبا أنه إذا ما تم تسعير الغاز الأميركي على أساس تنافسي، فبإمكانه لعب دور متزايد في إمداد دول الاتحاد.
روسيا متمكّنة
الخبير في الشؤون الاستراتيجية، الدكتور مصطفى العاني، قال لـ"اندبندنت عربية" إن لروسيا ثقلاً في مجال تصدير الغاز في العالم وتمتلك شبكة من خطوط أنابيب الغاز عبر تركيا وأوكرانيا وبحر البلطيق. وبالتالي، فإن وسائل توريد الغاز تأسست بالفعل ولن يكون من السهل تقنياً على أوروبا إيجاد بديل عن هذا الغاز. ويضيف إن "دول القارة أيقنت أن موسكو مورّد للغاز يمكن الاعتماد عليه بمعزل عن مشكلة أوكرانيا ومشكلات أخرى قائمة بين الجانبين، وهو أمر مهم للغاية، بحيث يوجد فصل بين المواقف السياسية وتصدير الغاز". وتوقع أن تتمكن الولايات المتحدة من زيادة حصتها في السوق الأوروبية خلال السنوات المقبلة، لكنها لن تستطيع تجاوز نسبة الربع.
تنويع المصادر
ومع تدهور العلاقات الأوروبية الروسية بعد ضم موسكو لشبه جزيرة القرم في أوكرانيا ودعم أوروبا الانتفاضة المناهضة لروسيا في شرق أوكرانيا، وصولا إلى فرض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على موسكو، ستشعر أوروبا بارتياح كبير في التخلص من اعتمادها المتنامي على الغاز الروسي، وجميع الآثار الجيوسياسية التي ينطوي عليها هذا الاعتماد. فقد بلغ إنتاج روسيا من الغاز أرقاماً قياسية في العام الماضي (194 مليار متر مكعب) مع توقع أن يتجاوز 200 مليار متر مكعب هذه السنة. ويتوقع المراقبون أن تعمل موسكو على عرقلة دخول شركات الغاز الأميركية إلى القارة.
ويقول د. العاني إن "روسيا بقيادة فلاديمير بوتين تستعيد مكانتها في العالم اليوم، كدولة منافسة للولايات المتحدة على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية، وبالتالي، هنالك اتجاه أميركي إلى تحجيم هذا النفوذ ومنع موسكو من الوصول إلى مرحلة شبيهة بالحرب الباردة سابقا. وقضية الغاز هي جزء من صراع أكبر بين البلدين". ويضيف أن "أمن الطاقة لأوروبا يتحقق من خلال تعدّد المورّدين، فلا يمكن الاعتماد فقط على مورّد واحد يسيطر على نسبة 70% من السوق، وأوروبا تعمل اليوم على إيجاد خيارات أخرى من أجل تخفيف الاعتماد الكبير على روسيا".
شبكة متكاملة
وتدير شركة الغاز الحكومية الروسية العملاقة "غازبروم" خط أنابيب "بلو ستريم"، الذي يتولى قرابة 16% من صادرات الغاز من موسكو إلى أوروبا عبر تركيا وبلغاريا. وتعتزم موسكو إنشاء خط أنابيب ثانٍ "تورك ستريم" قبل نهاية السنة، بطول ألفي كيلومتر، لنقل الغاز عبر بيلاروسيا وبولندا إلى ألمانيا، إلى جانب خط أنابيب "نور ستريم"، الذي ينقل الغاز الطبيعي من غرب آسيا إلى الشبكة الأوروبية عبر خط مزدوج طوله 1.224 كيلومتر عبر بحر البلطيق.
ويمتلك كل أنبوب القدرة على نقل نحو 27.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويا، وكذلك النسخة الموسعة من مشروع خط أنابيب "نور ستريم 2"، الذي سيربط روسيا بأوروبا عبر بحر البلطيق (يُنظر إلى خط الأنابيب الموسع كطريقة لتجاوز بلدان المرور العابر مثل أوكرانيا). وستجعل جميع خطوط الغاز الروسية تلك أوروبا أكثر اعتماداً على الغاز الروسي، وفي الوقت نفسه تعمق "الإسفين" بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن استخدام روسيا للبنية التحتية للطاقة كسلاح سياسي. وستكون خطوط الأنابيب تلك أكثر من كافية لتحل محل الصادرات التي تصل إلى أوروبا عبر أوكرانيا والتي بقيت لأعوام طويلة القناة الرئيسة لنقل الغاز الروسي إلى الدول الأوروبية.
حرب أسعار
أحد رؤساء كبرى شركات النفط والغاز في أوروبا، فضّل عدم الكشف عن اسمه، قال إن الأساس في توريد الغاز تقوده قدرة المصدّر وأسعار السوق. ورأى أن "على الغاز الطبيعي المسال الأميركي أن ينافس أسعار الغاز الأوروبية القائمة على التسعير، إذا ما أرادت واشنطن أن تجعل لها موطىء قدم في سوق الغاز في القارة"، وأوضح أن "روسيا لن يكون بإمكانها عمل أي شيء تجاه هذا التوجّه من الولايات المتحدة لرفع حصتها في سوق الغاز الأوروبية"، لكنه أشار إلى أن "موسكو هي التي تقرر كميات الغاز التي ترغب في تصديرها، والأسعار التي ستسوق بها منتجها من الغاز الطبيعي المسال. وقد تلجأ إلى خفض أسعارها لإبقاء الولايات المتحدة خارج السوق".
عقود طويلة الأجل
وأضاف أن "الاهتمام الروسي منصبّ على توريد الغاز على المدى البعيد. فالعقود طويلة الأجل شكلت أساساً في توريد الغاز الروسي إلى دول أوروبا. وفي المقابل، تشهد اليوم أسعار الغاز الطبيعي المسال تقلبات فيما يتعلق بنمو الطلب. فأوروبا تعدّ سوقاً تنافسية مفتوحة، محكومة بالتشريعات"، ورأى أن "المنافسة الأميركية الروسية ستؤدي إلى تراجع أسعار الغاز الطبيعي المسال في الأسواق العالمية"، وأضاف أن "حجم صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا ضخم جدا، لكن مع دخول شركات الغاز الأميركية، سيتاح لها تنويع مصادرها"، ونصح بإنشاء محطات للغاز في أوروبا للاستفادة من الغاز الطبيعي المسال، موضحاً أن ألمانيا كانت قد أعلنت أخيراً عن التزامها بناء محطات من هذا النوع.