ليس مسار لبنان لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل سوى قصة فشل معلن ومطلوب من البداية، خوفاً من الاتفاق وما يتبعه من مزايدات سياسية، ولم يتبدل شيء في ظل الانهيار المالي والاقتصادي والحاجة الملحة إلى اتفاق يسمح باستثمار الثروة الغازية والنفطية الوطنية التي قدمتها لنا الـ "جيولوجيا" وسط لعنة الـ "أيديولوجيا" والـ "ديماغوجيا" والـ "كليبتولوجيا"، فلا المفاوض الرسمي هو صاحب القرار، بصرف النظر عن تباين المواقف بين رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي ورئاسة الحكومة وما قيل أخيراً حول التفاهم على موقف موحد، وهذا ما تعرفه إسرائيل الراغبة في زيادة حصتها على حساب لبنان، وما تعرفه أميركا المتحمسة لترتيب اتفاق من أجل اعتبارات عدة، والتي نطلب وساطتها وتطالبنا بألا نضيّع الفرصة كالعادة، ولا صاحب القرار الذي هو "حزب الله" تخلى عن منطق الحرب في التفاوض، ومنطق التهدئة عندما يبدو التفاوض في موقع حرج، فهو يؤدي دورين مختلفين ومتكاملين في الوقت نفسه، دور يوحي من خلاله أنه يقف خلف الموقف الرسمي ويقبل ما تقبله الدولة ويدافع عما تقول الدولة إنها حدود لبنان البحرية، ودور يؤكد عبره، لا فقط رفض الوساطة الأميركية، بل أيضاً مجرد ترسيم الحدود مع عدو مغتصب لا نعترف به، لا بل إن حسن نصرالله يتهم أميركا بأنها "تحاصر لبنان وتمنعه من استخراج ثروته الغازية" ويصف الوسيط الأخير آموس هوكشتاين بأنه "وسيط غير نزيه ولا عادل ويعمل لمصلحة العدو" ويطلق عليه لقب "فرانكشتاين".
والواقع أن لبنان ضيع سنوات طويلة منذ وساطة الدبلوماسي الأميركي فريديريك هوف، وأكمل دورة كاملة ليعود إلى نقطة البداية.
في عام 2011 أرسل إلى الأمم المتحدة مرسوماً أيام حكومة الرئيس نجيب ميقاتي يكرس "خط 23" كحد لثروته الغازية، لكن "خط هوف" القريب منه كان موقع رفض لخلاف على 860 كيلومتراً مربعاً.
تعدد الوسطاء الأميركيون وتعددت أشكال التفاوض، من "دبلوماسية المكوك" على طريقة هنري كيسنجر إلى التفاوض غير المباشر في الناقورة بوساطة أميركا وإشراف الأمم المتحدة، وكان أول اتفاق يتم إعلانه هو "اتفاق الإطار" الذي توصل إليه رئيس المجلس النيابي نبيه بري مع الوسطاء الأميركيين، ليتسلم بعده التفاوض رئيس الجمهورية بحسب المادة (52) من الدستور.
جرى الاعتراض أولاً على تعيين دبلوماسي أو موظف عام مدني ضمن وفد عسكري مفاوض، لكن إسرائيل شكلت وفداً من دبلوماسيين وضباط، ثم كانت المفاجأة في مطالبة الوفد اللبناني بالتفاوض انطلاقاً من خط جديد هو "خط 29"، وهنا توقفت المفاوضات غير المباشرة وعدنا إلى "دبلوماسية المكوك".
هوكشتاين قدّم للبنان في آخر زيارة له تصوراً مكتوباً للتسوية وتركه في بيروت على أمل أن يتلقى رداً خطياً عليه، وهذا لم يحدث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان الوقت يضيق، فإسرائيل تبدأ عملية الاستخراج من "حقل كاريش" ولبنان متأخر أكثر من 10 سنين عن قبرص وإسرائيل، ثم أعاد نصرالله صاحب القرار تذكير الجميع بأن "الأمر له"، غير أنه لم يغلق الباب أمام المفاوض الرسمي الذي يبدو أنه يأمل بأن تكون التسوية المفترضة بعد المطالبة بعودة هوكشتاين هي مقايضة بين "حقل قانا" كله للبنان، أي استعادة الـ 860 كيلومتراً مربعاً في مقابل "حقل كاريش" لإسرائيل، وبالطبع فإن نصرالله كرر القول بأنه على استعداد لمنع إسرائيل بالقوة من استخراج الغاز إن لم يحصل لبنان على حقوقه، ومع تأكيده بأنه لا يريد الحرب ولا يخافها، فإنه هدد إسرائيل بحرب لم تشهد مثلها سابقاً، إذ إن "ما تخسره في حرب أكبر بكثير مما يمكن أن يخسره لبنان، وأي حماقة تقدم عليها ستكون تداعياتها ليست فقط استراتيجية بل أيضاً وجودية". عال، لكن من سيعيد إعمار لبنان بعد الخراب؟
الدوران اللبناني مستمر، والأمل بأن تنتهي المزايدات والمصالح الفئوية والسياسات الصغيرة، لئلا نقف بيدين فارغتين نراقب سوانا يستثمر الثروة، فالقضية وطنية وليس من المعقول أن يصح فينا ما قاله عربي في الصحراء أيام الجاهلية "قطعت أرضاً طويلة لأكتشف ألا ماء ولا عشب ولا بشر".