ليست هذه دراسة تفصيلية لواقع اكتشافات النفط والغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وإنما هي إضاءة على أمر آخر، فالثروات الطبيعية موجودة في كل الحوض، من مصر جنوباً إلى سواحل فلسطين ولبنان وسوريا شمالاً، ثم في العمق إلى قبرص وتركيا واليونان غرباً، والسؤال هنا، بل مجموعة الأسئلة هي: لماذا تمكنت جميع بلدان الحوض الشرقي من استكشاف واستغلال ثرواتها ما عدا فلسطين ولبنان وسوريا؟ ولماذا يستمر لبنان عاجزاً، وهو الأكثر حاجة وفقراً وعتمة، عن البدء باستخراج الغاز وربما النفط من مياهه الإقليمية ومنطقته الاقتصادية؟ ومثله فلسطين التي يتمتع ساحلها الغزاوي باحتياطات أكيدة؟ ومثلهما أيضاً سوريا الغنية براً بالنفط والغاز ويشكل ساحلها امتداداً لحقول وأحواض واعدة؟
قدرت الأمم المتحدة الاحتياطات الأولية من الغاز في "حوض الشام" بـ122 تريليون قدم مكعب، ومن الغاز بـ 1.7 مليار برميل قيمتها 524 مليار دولار بأسعار 2017. ومنذ خمس سنوات لم تتوقف الاكتشافات الجديدة لحقول إضافية، وبالتأكيد زادت قيمة الاحتياطات مع زيادة الكميات المتوقعة، والارتفاع الكبير في أسعار الطاقة، ومن المؤسف أن تبقى الاستفادة من كل ذلك محصورة في دول محددة، وأن تتحول إسرائيل في أقل من عشرين سنة إلى دولة مكتفية ذاتياً فيما تغرق فلسطين، وغزة تحديداً، إضافة إلى لبنان، في عتمة شاملة، وتستمر سوريا في حروبها وانقساماتها عاجزة عن الاستفادة من نفط وغاز كانا دائماً خارج الموازنة العامة وسراً من أسرار السلطة الحاكمة.
انطلقت ثورة الاكتشافات الغازية في نهاية التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة. وبعد عام 2000 حصل التحول الكبير. حتى عام 2015 كانت مصر تستورد نحو سبعة مليارات متر مكعب من الغاز، خلال سنوات رسمت حدودها مع قبرص (2014) والسعودية (2016) واليونان (2020)، وتريثت في ترسيم حدودها البحرية مع إسرائيل باعتبار أن هذا الأمر يعود للسلطة الفلسطينية وليس للدولة الإسرائيلية. بعد هذه الترسيمات انصرفت مصر إلى استغلال غازها فبلغ إنتاجها في 2021 ما يقارب 66.2 مليار متر مكعب، ذهب 62.9 منه إلى الاستهلاك الداخلي ليبلغ الفائض منه 3.3 مليار متر قابل للتصدير.
في الأثناء انصرفت إسرائيل إلى تطوير الإنتاج من حقول تم اكتشافها بعد عام 2000. لم تكن الدولة العبرية تحلم بما تحقق. كانت كهرباء إسرائيل تعتمد في 80 في المئة من الإنتاج على الفحم الحجري و20 في المئة المتبقية على البترول المستورد. الآن تقول إنها حققت اكتفاءً كهربائياً ذاتياً من الغاز الذي تنتجه (70 في المئة) و20 في المئة من الفحم و10 في المئة من الطاقة المتجددة، وهي تسعى، بحلول 2025 للاستغناء كلياً عن الفحم واستبداله بالغاز والطاقة الجديدة.
حلت إسرائيل عديداً من مشكلاتها بسبب الثروات المكتشفة، وأصبح بإمكانها توفير الطاقة من الغاز لمنشآت تحلية المياه، لتنهي بذلك الحاجة المديدة لمياه الري والشرب، وبدأت في إطار "منتدى غاز شرق المتوسط"، الذي أسسته مصر، وتضم إليها إسرائيل وفلسطين وقبرص واليونان وفرنسا وأميركا (مراقب)، في التحضير لإمداد أوروبا بالغاز مع اشتداد الحاجة إلى هذا المنتج نتيجة الحرب الأوكرانية.
ثلاثة أطراف فاتها سباق الغاز في هذه السنوات القليلة، لبنان وفلسطين وسوريا. كان لبنان قادراً بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوبه في عام 2000 على التحرك بسرعة والبدء ببناء دولته وتنمية اقتصاده واستغلال ثرواته، لكنه لم يهدأ منذ ذلك التاريخ. بقي النظام السوري يعتبره (مع إيران) منصة للتصادم والمساومة مع إسرائيل، وسرعان ما نقله أعداء استقلاله ونهوضه إلى مرحلة التوتر المستدام، فكان اغتيال رفيق الحريري وسلسلة التصفيات الأخرى لرموزه ثم حرب يوليو (تموز) 2006، فمسلسل الاجتياحات العسكرية والسياسية الداخلية الذي جعل من البلاد منصة إيرانية ضد إسرائيل (حسب الشعارات الرسمية) وضد الدول العربية وغالبية دول العالم.
بات لبنان ساحة للميليشيات والفاسدين والسياسيين المتسلقين، الذين قادوه إلى أزمة هي الأقسى على مستوى العالم منذ 1850 (تقرير البنك الدولي)، وأدخلوا الغاز والثروات والاحتياطات وصولاً إلى ودائع المصارف في حساباتهم الشخصية الجهنمية، ما جعل تلك الثروة باقية في آبارها وجلد دب يستعاد التلويح به في مناكفات وسجالات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شيء مشابه حصل في غزة، هذا الجزء من الدولة الفلسطينية المفترضة، والنقطة الأولى التي اكتشف فيها الغاز على الساحل الشرقي للمتوسط. كانت اتفاقات أوسلو أعطت السلطة الفلسطينية ولاية بحرية على مياهها الإقليمية عام 1995، وفي عام 1999 وقعت السلطة عقداً للتنقيب لمدة 25 عاماً مع "مجموعة الغاز البريطانية"، وفي العام نفسه اكتشف الحقل الكبير "غزة مارين" داخل المياه الإقليمية الفلسطينية. لم تكن إسرائيل مرتاحة إلى احتمال تمتع الفلسطينيين بثروتهم الجديدة، لكن، كما في لبنان، وفر لها فساد الحكام ومحاصصاتهم، وسياسات الفصائل المرتبطة بالخارج، الظروف المناسبة للتهرب من المسؤولية ووضع اليد على مساحات التنقيب ثم استغلالها.
ومثلما أدخل اغتيال الحريري وبعده حرب تموز، ثم اجتياح بيروت على يد حلفاء إيران ووضع اليد على السلطة في لبنان، البلاد في حالة من عدم اليقين، كان انقلاب "حماس" في غزة وإقامتها الإمارة الإخوانية المدعومة من إيران والإخوان المسلمين 2007، مدخلاً لتراجع هيبة السلطة والقرار الفلسطيني، وإدراج غاز فلسطين في خانة التأجيل والاستغلال الإسرائيلي.
سوريا أيضاً لديها ما يجمعها بسيناريو غزة ولبنان. هي أيضاً تحاول التوسع في المنطقة الاقتصادية اللبنانية، فيما يضع الأميركيون يدهم على غالبية إنتاجها النفطي شرق الفرات. على مدى العقد الأول من القرن الحالي كان النظام السوري منشغلاً بتوطيد الوراثة واحتمالات السيطرة على لبنان. نفطه وغازه البريان لم يدخلا الموازنة الرسمية قط، ثم انخرط في مواجهة انتفاضة شعبه لتنقسم سوريا إلى مناطق نفوذ، وفي استفاقة متأخرة اتفق منذ أقل من خمس سنوات، مع شركات روسية، للتنقيب عن الغاز قبالة سواحل طرطوس وبانياس، ولم تظهر النتائج حتى الآن.
الساحل الغربي للمتوسط من سوريا إلى لبنان وغزة تنيره فقط الشبكة السياسية لـ"الممانعة" الإيرانية وحلفائها، أما النور الحقيقي فممنوع، والعتمة هي الظاهرة الأكثر شمولاً على شاطئ الغاز والثروات.
في عقدي التنقيب والإنتاج كانت دول في الحوض نفسه تحقق الثروة والاكتفاء، وأخرى ابتليت بمرض العصبية المذهبية والفساد والاستتباع، تسقط إلى أعمق من آبارها، ولا تعرف ساعةً للنهوض.