ما إن نشرت قصة الكاتب والطبيب الإنجليزي جون ويليام بوليدوري "مصاص الدماء" عام 1819، حتى اندفعت الشخصية الأسطورية من قمقمها المختوم بالرصاص، لتبث الرعب في أوصال البشر، بعينين تقدحان شرراً، ووجه ثلجي شديد الشحوب كوجوه الموتى. أو بالأحرى وجوه الكائنات الشريرة العائدة من الموت، وضحايا الانتحار، والسحرة، وروح حاقدة لجثة متعطشة للانتقام. وهو ما تسبب في انتشار هستيريا جماعية، وحتى الإعدام العلني لمن تم الارتياب بهم أنهم مصاصو دماء.
لكنّ الفضل في ولادة نوع فريد من مصاصي الدماء، يعود إلى الكاتب الإيرلندي برام ستوكر الذي تصادف هذا العام، الذكرى الـ 125 لصدور روايته "دراكولا"؛ أشهر مثال كلاسيكي لقصص الرعب التي ازدهرت في انجلترا منذ عام 1762، ومن رحمها خرج الكونت دراكولا، طامحاً في الأبدية، فإذا به يصبح أحد أكثر الشخصيات شهرة وخلوداً في الأدب الغربي حتى يومنا هذا.
كيف تهزم شيطاناً؟
لم تكن فكرة مصاص الدماء من ابتكار سكوتر المحتفَى بروايته في مايو (أيار) من كل عام، تكفي التفاتة طويلة للوراء حتى نشتبك بكائنات خارقة تستنزف الدم، أو تقتات على لحم الأحياء في ثقافات الشعوب كافة. غير أن ما فات تلك العصور السحيقة هو صك المصطلح، ومن ثم نسبت تلك الأعمال الشريرة كشرب الدم، والتغذي على البشر، والتحكم في العقول، وتأجيج الشهوة الجنسية، إلى الشياطين، أو الأرواح، واعتبر الشيطان مرادفاً لمصاص دماء.
وبمنطق القياس، استرفد المذعورون الوسائل نفسها المتبعة في ردع الشيطان لهزيمة مصاص الدم، كالثوم، والورد البري، ونبات الزعرور، ورش بذور الخردل على سطح منازلهم، كما استعانوا بالصلبان، والمسبحات الوردية والماء المقدس، والاحتماء بالأماكن المقدسة مثل: الكنائس، أو المعابد، أو عبور المياه الجارية، فليس بوسع أقدامهم الدنسة أن تطأها مطلقاً.
وعلى الرغم من وجود مخلوقات تشبه مصاصي الدماء في الحضارات القديمة، فقد انبثق الفولكلور لهذا الكيان، في أوائل القرن الثامن عشر تقريباً في جنوب شرقي أوروبا، مع تدوين التقاليد الشفهية للعديد من المجموعات العرقية لتلك المنطقة ونشرها. وعلى عادته، راح الأدب يضخم كاريزما الشخصية. في عام 1797 نشر الكاتب المسرحي الألماني، غوته، "عروس كورينث"، وهي قصيدة عن امرأة تمص دم ضحاياها، كذلك الشاعر الإنجليزي كوليريدج في قصته "كريستابيل" التي تقشعر لها الأبدان، وجيمس مالكولم في "فارني مصاص الدماء" منتصف الفترة الفيكتورية، وهناك روائي إيرلندي آخر هو شيريدان لو فانو، بروايته عن مصاصة الدماء المثلية، كاميلا.
الشيطان في اللغة الرومانية
من هذه القصص وغيرها، استوحى ستوكر نموذج بطله، وأنجز أكثر من مئة صفحة من الهوامش اعتماداً على الفولكلور والتاريخ في ترانسلفانيا، فضلاً عن بحث معمق حول الطاغية الروماني المتعطش للدماء، فلاد الثالث من عائلة دراكول. وهو ما انقسمت الآراء بشأنه: هل الشخصية مستوحاة من فلاد المخوزق أمير والاشيا، أم من الكونتيسة إليزابيث باتوري؟
إلى الآن لم يحسم الجدل لا سيما وأن ملاحظات المؤلف لا ترجح أياً من الشخصيتين. إلا أن اسم دراكولا كان قد توصل إليه في مكتبة ويتبي العامة أثناء قضاء إجازته هناك، واختاره لأنه اعتقد أنه يعني الشيطان في اللغة الرومانية.
اتخذت الرواية من الرسائل، واليوميات، والمقالات الصحافية، وسائل لدفع السرد. وبعد مقدمة الكاتب عن صحة الأحداث الواردة في روايته، وأنه "لأسباب واضحة" قام بتغيير أسماء الأماكن والأشخاص، استهل كتابه برحلة عمل غرائبية يخوضها المحامي جوناثان هاركر إلى قلعة الكونت دراكولا في ترانسيلفانيا، لمساعدته في شراء مكان إقامة دائم في إنجلترا. ومنذ اللقاء الأول، وعلى مدى بضعة أيام برفقة الكونت، يسترعيه الكثير من الأحداث المريبة في القلعة، منها عدم وجود أية مرآة، ولا خدم، واختفاء الكونت في النهار، وعدم نومه في غرفته، وعزوفه عن تناول أي طعام أو شراب، فعلام يقتات إذن!
يهرب هاركر من القلعة حين يستنبط السر، ويقع فريسة ظلال الرهبة الممتدة على جدران غرفته لدرجة لا يستطيع معها التمييز بين الحلم والواقع، بينما يحس بجسده العاري نهباً لبراثن الرغبة من ثلاثة نساء شرهات يلعقنه بشبق مثير للاشمئزاز!
في الأثناء يكون الكونت قد وصل إلى بغيته بحثاً عن طرائد سمينة في إنجلترا بعد أن افترس طاقم السفينة التي تقله مع صناديقه الخمسين، بما تحويه من تربة موطنه القادرة وحدها على حفظ جسده، إلى حيث البلد الذي ينوي التطفل على دمه.
العربة الجامحة
استقبل كثير من النقاد "دراكولا" بشكل إيجابي منوهين باستخدام ستوكر الفعال للرعب. وفي المقابل، اعتبرها البعض مخيفة للغاية. وشاعت المقارنات بالأعمال الأخرى في الأدب القوطي، بما في ذلك التشابه الهيكلي مع رواية ويلكي كولينز "ذات الرداء الأبيض" (1859).
الجنسانية والإغواء، هما من أكثر موضوعات الرواية التي نوقشت بشكل متكرر، لا سيما في ما يتعلق بفساد المرأة الإنجليزية. ترى إيلين شوالتر أن لوسي ومينا تمثلان جانبين مختلفين من المرأة العصرية. فبينما تمثل لوسي الجرأة الجنسية وإطلاق العنان للشهوة، كما يتضح في سؤالها: لماذا لا يمكن للمرأة أن تتزوج من ثلاثة رجال إذا كانوا جميعاً يريدونها؟، تقف مينا على الطرف النقيض لتمثل "الطموحات الفكرية" للمرأة نفسها. من بين مصاصي الدماء الخمسة في الرواية، هناك أربع نساء، جميعهن عدوانيات، "مهتاجات جنسياً"، يفجرن الشهوة أينما حللن، بينما تمثل مينا هاركر النقيض لهن جميعاً، وتلعب دوراً مهماً في هزيمة دراكولا، بكل ما يمثله من إغواء. من ناحية أخرى، تقول جوديث واسرمان أن الكفاح من أجل هزيمة دراكولا هو في الحقيقة معركة للسيطرة على أجساد النساء.
لكن دراكولا كثيراً ما يُقرأ، وتحديداً هجرة الكونت إلى إنجلترا الفيكتورية، كرمز لأدب الغزو، وتصاعد المخاوف بشأن التلوث العنصري. البعض يربط تصوير الرواية لمصاص الدماء بهجرة يهود أوروبا الشرقية إلى إنجلترا بين عامي 1881 و 1900، حين زاد عدد اليهود الذين يعيشون في إنجلترا ستة أضعاف بسبب المذابح والقوانين المعادية للسامية في أماكن أخرى. يفند الناقد جاك هالبرستام قائمة بالوشائج التي تربط دراكولا بالمفاهيم المعادية للسامية للشعب اليهودي: مظهره، ثروته، سفك الدماء الطفيلي، و"عدم ولائه" لدولة واحدة. ويستشهد من السرد بقول عامل إنجليزي إن الرائحة الكريهة لمنزل الكونت دراكولا في لندن تشبه "رائحة يهودية"، لأجساد هؤلاء الذين كثيراً ما وصفهم الأدب الفيكتوري بالطفيليات.
عزيزي دراكولا، هل يمكنني رؤية أنيابك؟
تشهد بلدة ويتبي شمال يوركشاير، كل سنة في مايو (أيار) تجمع عدد غير مسبوق من محبي السيد دراكولا من أنحاء العالم، احتفالاً برواية أسست صناعة كاملة في ثقافة مصاصي الدماء. حدث كهذا، استغرق من منظميه شهوراً، لا سيما وهم يستهدفون هذا العام تحديداً، تحطيم الرقم القياسي المسجل في عام 2011 في مدينة ملاهي في دوسويل، فيرجينيا. كان التوتر يتصاعد مع اقتراب موعد الاحتفال، لأن المحاولات السابقة فشلت في تحطيم الرقم القياسي لأسباب تافهة مثل الأحذية الخاطئة، لذلك حاول المنظمون جعل الأمر بسيطاً قدر الإمكان: حذاء أسود، بنطال أسود أو تنورة، رداء أسود، قميص، صدرية فضلاً عن أهم شيء في بطلنا الأسطوري؛ الأنياب البارزة.
أكثر من 3000 شخص سجلوا اهتمامهم بالحدث، لكن تسجيل الاهتمام والحضور أمران مختلفان. يقر مارك ويليامسون رئيس الدير بأنه لم يكن يستطيع أن يحزر بالفعل عدد الأشخاص الذين سيحضرون. لكن المهتمين حضروا، بما في ذلك العديد ممن سمعوا عنه في اللحظات الأخيرة. كانت هناك متطلبات للدخول، تبدأ بسؤال الضيف عند المدخل: "لطفاً، هل يمكنني رؤية أنيابك".
تقول كيت روبسون، 24 سنة، في زي مصاص دماء كامل: "هذه الملابس من خزانة ملابسي". كيت من كوكفيلد في مقاطعة دورهام كانت بصحبة أشقائها كريستين، 29 سنة، ونيك، 27 سنة، وويليام، 23 سنة. كريستين هي من حثتهم على الحضور لأنها أحبت طريقة برام ستوكر كثيراً. "النثر مختلف تماماً عن أي شيء يكتب الآن، لديه طريقة مختلفة لرؤية العالم". بينما حضر أشقاؤها فحسب، لإشباع تلك الرغبة المخيفة المختبئة تحت الجلد، إرعاب البشر! على رأس قائمة الانتظار وقف المصور المتقاعد كريس مارتن من بير في ديفون، في ملابس دراكولا التي يجربها للمرة الأولى. قضى مارتن أسبوعاً كاملاً ليتعلم كيف يضع مكياجه بمنتهى الإخلاص، ليصبح صورة طبق الأصل من كاره النور، وعاشق الظلام، المبتلى بالخلود، دراكولا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يصف ويليامسون الحدث بأنه حقاً حدث تافه، لكنهم أخذوه على محمل الجد. نطق تلك العبارة وهو يرتدي زياً وبدلة رائعة من العصر الفيكتوري صنعت في أربعينيات القرن التاسع عشر. وأوضح: "أعيش مع مؤرخ أزياء". زميله، جو سافاج، كبير مديري الترجمة الفورية في هيئة التراث الإنجليزي المشرفة على الحفل، بدا رائعاً بدوره، على الرغم من عدم تمكنه من العثور على زي مناسب في دولابه، لولا أن أنقذته ابنته بتفكيك فستانها الجميل الذي يجعلها في الحفلات الموسيقية كالفراشة، وأعادت تحويله تحت وخز إبرتها المتواصل إلى مصاص دماء، كاشفة من دون أن تدرك، جانباً جوهرياً عن حقيقة الكونت المتحول. يقول سافاج: "أخشى أن أبدو مثل خفاش سمين في منتصف العمر وليس مصاص دماء لطيف".
في التاسعة مساءً وقفت الجموع، أطفالاً وشباباً ومسنين، مجللين في زي النبيل الدموي، في انتظار النتيجة. وسرعان ما كشفت الأفواه بصيحات الانتصار عن أنياب مدببة، لم تضع جهودها عبثاً. لقد تمكنوا من تحطيم الرقم القياسي بتجمع 1369 مصاص دماء في مكانٍ واحد؛ ويتبي آبي، ملاذ روح الشيطان ومسرح أحداث رواية ستوكر، هناك بين أطلال الدير، والسياح الأبرياء، والمرفأ الجميل، وحكايات المحليين المطعمة بملح الساحل، وتمكنوا من دخول موسوعة غينيس من باب واسع.
اقتباسات بصرية
اقتبست فكرة دراكولا تقريباً عبر جميع أشكال الوسائط بأعداد كبيرة، ويمكن القول إن الأفلام اقتبستها والبرامج وألعاب الفيديو والرسوم المتحركة أكثر من 700 مرة، إضافة إلى ما يقارب 1000 اقتباس في الكتب المصورة وعلى خشبة المسرح.
ستوكر نفسه كتب أول معالجة مسرحية وعرضت على مسرح ليسيوم في 18 مايو 1897 تحت عنوان "دراكولا، أو الذي لا يموت"، قبل وقت قصير من نشر الرواية. وظهر الكونت للمرة الأولى في الفيلم الهنغاري الصامت "موت دراكولا" لكارولي لاجثي عام 1921. وبمرور الوقت تغيرت التمثيلات المرئية للكونت بشكل ملحوظ عن العروض المسرحية المبكرة في لندن ونيويورك، وعما قام به الممثل المجري الأميركي بيلا لوغوسي في فيلم "دراكولا" عام 1931، وكريستوفر لي في فيلم عام 1958، وهما مبنيان على الإصدارات السابقة. وقد اقترحت معالجة فرانسيس فورد كوبولا "دراكولا" 1992 بملابس إيكو إيشيوكا، مظهراً جديداً للشخصية، بلكنة رومانية وشعر طويل، وروح تفضل راحة الموت على شقاء الخلود.