أوشك أن أضع على رأس علل البشر في زمننا وفي كل زمان علة أسميها "العمى الطوعي"، لكيلا أقسو فأسميها "التواطؤ على العمى"، ولا أعني بأي من التسميتين إلا نزوعاً لا يكاد يسلم منه أحد إلى التعامي عن أي تفاصيل من شأنها أن تخدش نقاء صورة نحب أن نلصقها بشخص أو بشيء، أو أن تزعزع ما استقررنا عليه من أحكام، وذلك على الرغم من أن الصورة كثيراً ما تكون أوضح من أن تؤثر فيها تفصيلة، والحكم يكون قائماً على حيثيات صلبة يصعب أن تزعزعها محض تفصيلة مخالفة.
بقوة العمى الطوعي يختار كثيرون بملء إرادتهم ألا يعلموا، مثلاً، أن هتلر كان رساماً هاوياً، وأن له لوحات تسهل رؤيتها لمن يريد على شاشة هاتفه الذكي دونما جهد، ولا تجد غير القليلين يشيرون إلى أن الحجاج سفاح الأمويين وسيئ السمعة كان من حفظة القرآن الثقاة وممن أسهموا في تشجيع بعض الدراسات القرآنية، ولا تجد إلا حرصاً من كثيرين على طمس ما يتردد عن أساطين وأعلام كانوا فلاسفة أصلاء وسكيرين، أو شعراء كباراً ومثليين، أو روائيين أفذاذاً ومقامرين، أو أباطرة ركعت لهم شعوب ودانت لهم بلاد فيما كانوا يقضون لياليهم ركعاً سجداً لجوار وغلمان.
وفي تقديري فإن هذا ليس ناجماً فقط من تفاهة تلك التفصيلات أو عدم اتصالها بالموضوع، لكنه ناجم أيضاً من أننا في ما يبدو نطمئن إلى وجود الصور النمطية بقدر ما نزعم أننا نبغضها، ونتحرك على هداها كأنها النجوم الهادية.
هكذا ستجد أن الصفات الأكثر اقتراناً بجوزيف ستالين (1878 - 1953) مشتقة دائماً من الطغيان والدموية والقمع وما شابهها من الصفات التي فعل الرجل كل ما يجعله جديراً بها كل الجدارة، لكن ما أندر أن تجد ذكره مقروناً بصفات مشتقة من الثقافة وسعة الاطلاع والمعرفة، على الرغم من دلائل كثيرة تشير إلى أن هذا الجانب ربما كان قائماً بالفعل في شخصيته، وليس أقل هذه الدلائل أنه مات في مكتبة.
والمكتبة والكتب والقراءة والجانب الثقافي في شخصية الحاكم السوفياتي هي موضوع كتاب "مكتبة ستالين: الطاغية وكتبه" الصادر عن مطبعة جامعة ييل الأميركية في العام الحالي للمؤرخ والكاتب السياسي البريطاني جيفري روبرتس، المتخصص في الدراسات الروسية والسوفياتية والأستاذ الفخري للتاريخ بجامعة كوليدج كورك.
يحدد جيفري روبرتس في مستهل مقدمته غايته من الكتاب بأنها محاولة رصد "الحياة الفكرية والسيرة الذاتية لأحد أكثر الطغاة دموية في التاريخ، وذلك تحديداً من خلال مكتبته الشخصية"، وقد احتوت هذه المكتبة عند وفاة صاحبها على نحو 25 ألف كتاب، كان يمكن أن تبقى على حالها فتكون عوناً كبيراً للباحثين على فهم شخصية ستالين، لولا أن خططاً لتحويل بيت ستالين الريفي إلى متحف قد أرجئت بعيد وفاته إلى أجل غير مسمى.
لم تمض ثلاث سنوات على وفاة ستالين حتى انهال عليه النقد من أرفع مستويات السلطة في الاتحاد السوفياتي، ففي الاجتماع الـ20 للحزب الشيوعي سنة 1956 دان خروشوف سلفه حاكماً وإنساناً إدانة تكاد تضاهي الحرمان الكنسي، وإثر ذلك المؤتمر تفرقت دماء مكتبته بين المكتبات إلا القليل.
كانت المكتبة تضم كتباً في علم نفس الأطفال والرياضة والدين ومرض الزهري والتنويم المغنطيسي، وكذلك أعمالاً لتورجينيف ودوستويفسكي، وكتباً في نحو 40 فرعاً معرفياً وضع لها ستالين بنفسه نظام فهرسة خاصاً، وألزم أمين مكتبته باتباعه.
تفرقت الكتب والدوريات على مكتبات أخرى لكن ظل جزء منها في أرشيف الحزب الشيوعي، بخاصة مجموعة تبلغ قرابة 400 كتاب تقرر الاحتفاظ بها لأن الزعيم الراحل ترك فيها رائحته على هيئة تعليقات وحواش.
تقول آيمليا جنتلمان في استعراضها المنشور بـ "الغارديان" في فبراير (شباط) الماضي، إن جوزيف ستالين "كان يدون وهو يقرأ ملاحظات بقلم رصاص أحمر أو أزرق أو أخضر، ويخط خطوطاً أسفل المقاطع التي تهمه، أو يرقم النقاط التي يشعر أن لها أهمية، وفي بعض الأحيان كان صدره ينشرح فيكتب (نعم) أو (أوافق) أو (جيد) أو (فوراً) أو (هذا صحيح)، كما كان في بعض الأحيان يعبر عن ازدرائه فيكتب (ها ها) أو (ألغاز) أو (كلام فارغ) أو (زبالة) أو (كذاب) أو (أوغاد)، وكان يستبد به الضيق كلما صادف خطأ نحوياً أو إملائياً فيصحح الخطأ بقلمه الأحمر".
بقيت تلك الكتب الـ 400 محفوظة بعيداً من أيدي الباحثين والدارسين حتى ثمانينيات القرن الماضي حينما أدخل غورباتشوف تغييراته أو إصلاحاته إن شئتم على الاتحاد السوفياتي، ثم مع تفكك الإمبراطورية كلها بدأت الأرشيفات المحظورة تتاح، فأعيد اكتشاف تلك الخربشات التي تركها ستالين في كتبه وتبين على حد تعبير جيفري روبرتس أن ستالين "كان مثقفاً جاداً يقدر الأفكار بقدر تقديره للسلطة، وأنه كان مؤمناً صادق الإيمان بالكلمات، وأنه لم يكن يقرأ فقط ليعرف بل ليرهف وعيه الشيوعي".
والحق أن تقدير ستالين للثقافة والاطلاع أمر لا يحتمل التشكيك، لكن المشكلة تتعلق بتحويله هذه الممارسة النبيلة إلى أداة في يده كصاحب سلطة.
يقول روبرتس إن ستالين بوصفه مثقفاً بلشفياً كان "يؤمن شأن جميع الزعماء البلشفيين بأن القراءة غير قادرة فقط على تغيير أفكار الناس وضمائرهم، وإنما هي قادرة على تغيير الطبيعة البشرية ذاتها"، ولعل هذا الإيمان يتأكد بما يحكيه غاري سول مورسون في استعراض للكتاب نشرته أخيراً مجلة "ذي نيوكرايتريون" عن "اجتماع شهير مع الكتاب أقيم في شقة مسكيم غوركي سنة 1932، وفيه أوضح ستالين للحاضرين كيف ينبغي أن ينظروا إلى عملهم فقال، إنكم يا معشر الكتاب مهندسو الأرواح، وإنتاج الأرواح أهم من إنتاج الدبابات، فلنشرب نخب الكتاب، نخب مهندسي أرواح البشر".
القراءات المفضلة
كانت أحب القراءات إلى ستالين هي التاريخ، بخاصة تاريخ روسيا في ظل الحكم القيصري، وبمزيد من التخصيص حقبة إيفان الرهيب، والعظيمين بطرس وكاثرين، وقرأ كثيراً في التاريخ العسكري مختصاً بقدر كبير من الإعجاب بعض أبطال العهد القيصري من أمثال المخطط الاستراتيجي الجنرال ألكسندر سوفوروف الذي عاش في القرن الـ 18 ولم يعرف عنه أن خسر أي معركة، والمارشال ميخائيل كوتوزوف الذي انتصر على نابليون سنة 1812، لكن المثير للدهشة هو افتتانه ببسمارك واحترامه الكبير، بحسب ما تبين للمؤلف، لمعاصرين له من أمثال تشيرشل وروزفلت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد التاريخ كان اهتمامه كبيراً بالنظرية الماركسية، ويبدو أيضاً أنه قرأ كثيراً في الأدب الروسي والعالمي، وأنه اختص بوشكين بمكانة خاصة، وكذلك غوغول وزولا، وليس غريباً بالطبع أنه قرأ كتاب "الأمير" لمكيافيللي مرات، وأنه وضع خطوطاً تحت فقرات أساس في "كفاحي" لهتلر، لكن ظل كاتبه المفضل هو لينين. والغريب في نظر بعض من استعرضوا الكتاب في الصحافة الأميركية والبريطانية أن ستالين كان يقرأ لأعدائه من أمثال روزا لوكسمبورغ وليون تروتسكي، بل إن جيفري روبترتس يؤكد أن "ستالين في أولى سنوات ما بعد الثورة كان يقدر تروتسكي تقديراً كبيراً يفوق ما يتصوره أغلب الناس، فكان بعد ماركس وإنجلز ولينين من أكثر من تعلم منهم ستالين"، لكن هذا لا يمنعه حين يستاء من أفكار الرجل أن يعلق عليها في هامش الكتاب بقوله "أحمق".
ويقول روبرتس إن "ستالين كان سريعاً في إصدار الأحكام على المؤلفين لكنه كان يحترم كتبهم، وظهر هذا في اعتنائه بقراءتهم ووضع العلامات والتعليقات في كتبهم حتى من كان منهم عدواً له".
سيرة قرائية
على الرغم من أن الكتب الـ 400 المزودة بتعليقات ستالين هي جوهر هذا الكتاب وموضوع أطول فصوله، لكن كتاب "مكتبة ستالين" يوشك أن يكون سيرة لحياة ستالين القرائية، وتوشك تلك السيرة أن تكون هي نفسها سيرة حياته كلها، لكن ذلك الشمول يؤخذ على الكتاب، إذ يبدو غاري سول مورسون كمن خاب أمله في الكتاب الذي "للأسف لا يقدم اكتشافات مهمة، شخصية أو غير ذلك، إنما يتنقل على غير هدى من موضوع إلى موضوع مما لا يرتبط بالهوامش، فهل كان والد ستالين يضربه؟ وهل التهمة بتعاونه مع الشرطة السرية القيصرية صحيحة؟ وكيف برر للعالم معاهدته مع هتلر؟ من دون أن يقول جديداً في هذه المواضيع، ويبدو أن روبرتس كثيراً ما ينسى أن كتابه هذا دراسة لمكتبة ستالين وهوامش كتبه".
والحقيقة أن الكتاب منذ سطوره الأولى يعد بما هو أكثر من دراسة الهوامش، فغايته هي رصد "الحياة الفكرية والسيرة الذاتية من خلال المكتبة الشخصية"، فليست المكتبة والكتب هي الغاية وإنما الشخص، وهكذا حينما يخصص الكاتب فصلاً عنوانه "القراءة والكتابة والثورة"، فإنه لا يحيله إلى فهرست بعناوين كتب البدايات وإنما يرصد فيه ملامح التكوين في حياة ستالين، بخاصة في فترة العمل السري الثوري، لافتاً النظر بطبيعة الحال إلى أوائل قراءاته منذ صباه، وقراءاته الدراسية أيضاً، وأنه قرأ الإنجيل على الرغم من أنفه، وإن انعدمت الأدلة على أن ذلك ترك أي أثر عميق في نفسه، مؤكداً أنه استبدل بالدين إيماناً بالعلمانية وبالماركسية، وأنه كان يعادي الكنيسة مثل أي بلشفي، وأنه اتبع حينما تولى السلطة سياسة قمع قاسية مناهضة للدين، ولم يصالح الكنيسة الأرثوذكسية إلا لاعتبارات طارئة خلال الحرب العالمية الثانية. ويشير أيضاً إلى حلمه في صباه وشبابه بأن يلتحق بالجامعة ليصبح معلماً لولا أن القمع القيصري قاده إلى حياة العمل السياسي، ثم تتابعت فصول الكتاب راصدة تطور مكتبته ومراحل حياته، فكأن المكتبة مرآة أو سجل أو كأن منحنى وجودها هو ذاته منحنى حياة ستالين.
لكن لعل المثقفين منّا وأصحاب المكتبات الخاصة أعرف الناس بأنه من الخطأ الجسيم أن تبنى تصورات حول شخص من محض امتلاكه مكتبة، أو من تأمل كعوب ما لديه من كتب، فكم من كتب يموت مقتنوها من دون أن تمسها أيديهم بعد وضعها على الأرفف، وكم من كتب تقرأ ليستعان بقراءتها على القمع مثلما يستعان بقراءتها على مقاومة القمع، وكم من واحد منا قد يقتني نسخة من المصحف ليتعبد بها أو ليستمتع بلغتها أو لينقد أفكارها، فليس وجود كتاب في ذاته بالقاعدة الصلبة لاستخلاص أي نتيجة ذات شأن عن مقتنيه، إذ ما الذي يضمن لباحث حقاً يستعرض مكتبة شخصية أن شيئاً مما قرئ في هذه المكتبة قد انتقل من أسر الذاكرة وسجن العقل فذاب في سلوك صاحبه، وبات يسري في كيانه فيظهر حتى في صمته بمثل القوة التي يظهر بها في كلامه؟ ثم إن المثقفين منا يعلمون أيضاً أن كثيراً مما قرأوه وترك الأثر الأكبر في أنفسهم قد لا يكون موجوداً أصلاً في مكتباتهم الشخصية، وستالين نفسه كما يؤكد الكتاب ليس استثناء من ذلك.
لقد كانت لدى الرجل في مكتبة بيته الريفية التي شهدت موته آلاف مؤلفة من الكتب، فضلاً عن آلاف أخرى في مبنى ملحق بالبيت، لكنه أيضاً كان كثير الاستعارة، وقد بلغت الحماقة بالشاعر ديميان بيندي أنه أعرب عن مقته لإعارة الكتب إلى ستالين لأنه كان يعيدها ملوثة ببصمات من الشحم، فكانت واقعة شكواه تلك هي آخر مرة شوهد فيها الشاعر في شقته الفارهة، بحسب ما يروي غاري سول مورسون.
ثلاث ليال لقراءة رواية
لعل القراء منا إذن، وأصحاب المكتبات الشخصية، هم أرجح الناس تشكيكاً في كتاب يحاول أن يتعرف على ستالين من مكتبته، أو يشهد له اعتماداً على اقتنائه آلاف الكتب أنه كان قارئاً، ناهيكم عنه مثقفاً، ومع ذلك ربما لا يكون هذا الشك في محله، فغاري سول مورسون يحكي واقعة أراها بالغة الدلالة وأبطالها هم شولوخوف وغوركي فضلاً عن ستالين.
حدث مرة أن واجه الروائي الروسي ميخائيل شولوخوف مشكلات في الحصول على إجازة للجزء الثالث من رائعته "الدون الهادئ"، فاستجار بمكسيم غوركي الذي كان صاحب سلطة هائلة في الوسط الثقافي السوفياتي، فدعاه غوركي إلى قصره الذي حصل عليه هدية من ستالين، فلما وصل شولوخوف إلى القصر اكتشف أن غوركي ينتظره وبصحبته ضيف آخر هو ستالين شخصياً.
حقق ستالين بنفسه مع شولوخوف في الفقرات التي تنطوي على إشكالات أيديولوجية، لكنه وافق في النهاية على نشر الرواية مشترطاً على شولوخوف أن يكتب رواية أخرى في تمجيد السياسات السوفياتية الزراعية، وأتاح له إمكان الاتصال بسكرتيره الشخصي إذا ما دعاه شيء إلى ذلك، ولما كتب شولوخوف رواية السياسات الزراعية التزاماً منه بالصفقة، واجهت هذه الرواية أيضاً تعنتاً من المسؤولين بسبب بعض المقاطع، فلجأ الروائي إلى الديكتاتور وقضى ستالين ثلاث ليال يقرأ المخطوطة ثم استدعى شولوخوف بعد ذلك لمقابلته.
وجد شولوخوف في انتظاره، فضلاً عن ستالين، رئيس تحرير جريدة الحزب الشيوعي برافادا، ووزير الاقتصاد والمفوض الشعبي للجيش والبحرية، وفي حضورهم جميعاً أجاز ستالين الرواية، لكنه اقترح لها عنواناً آخر.
ربما تكون هذه الليالي الثلاث أدل من آلاف الكتب في مكتبة ستالين على شخصية الرجل، فأي حاكم هذا الذي يضحي بثلاث ليال لقراءة مخطوطة كان يمكن أن يعهد بها إلى معاون له أو يحيلها ومؤلفها جميعاً إلى الوزارة المتخصصة موصياً بشيء من الاهتمام؟
هذه الليالي لا تشير فقط إلى رجل يعرف قيمة الكلمة المكتوبة وتأثيرها ويحرص على أن يراقبها بنفسه، لكنها في ظني تشير إلى رجل يستمتع بالقراءة ويلفق المبررات تلفيقاً لكي يفرغ لها نفسه من شؤون الحكم.
وقد تكفيني هذه الليالي الثلاث وحدها للدلالة على شغف ستالين بالقراءة، لكنها لا تكفي وحدها لنفي قول تروتسكي في حقه إنه كان ضحلاً ثقافياً، فالثقافة شأن آخر، كما أن هذه الليالي الثلاث أقرب إلى التصديق من جملة استهلت بها جنتلمان مقالتها عن الكتاب واضطررت بصدق إلى إعادة قراءتها مرات لأتأكد أني فهمت المكتوب أمامي حقاً، فقد ذكرت أن ستالين فرض على نفسه حصة قراءة يومية تتراوح بين 300 و500 صفحة!
ما أريد قوله هو أن واقعة الليالي الثلاث تمثل عندي موقفاً وسطاً بين من يقولون إن ستالين كان أقرب إلى بلطجي شبه أمّي، ومن يتطرفون فيقولون إنه كان مثقفاً رفيع الثقافة، فهي دليل على أنه كان قارئاً محباً للقراءة، وليس هذا ببعيد الاحتمال، فمن قال إن القراءة تعصم من الزلل؟
خربشات الكتب
على الرغم من أن جيفري روبرتس يكاد يؤسس كتابه على التعليقات التي تركها ستالين في حواشي كتبه، فإنه يحذر من المغالاة في تقدير أهميتها أو التأويل المفرط لها، فينبه مثلاً إلى ضرورة عدم استنتاج كثير من قرار ستالين بأن يخط خطاً تحت سطر منسوب إلى جنكيز خان يقول فيه "إن وفاة المهزوم ضرورة من أجل صفاء بال المنتصر"، كما ينصحنا أيضاً بألا نقيم وزناً كبيراً لكلمة "المعلم" التي كتبها ستالين على غلاف مسرحية عن "إيفان الرهيب"، وألا نظن بأن الطاغية المتقدم كان قدوة للطاغية المتأخر.
لكن من ذا الذي يقاوم الاستنتاج من الخط المرسوم تحت ذلك السطر، بل وبناء الحجج عليه، ومن يقاوم ألا يستشهد بالكلمة الموضوعة على ذلك الغلاف، إذا كان ناصحنا نفسه، وهو المؤرخ وليس نحن، لم يستطع مقاومة غواية تضمين كتابه هاتين الإشارتين؟
إلى أي مدى بالفعل يمكن أن نستنتج من خربشات ستالين في كتبه؟ وأي وزن حقاً تمثله هذه التعليقات؟
يعلم رواد المكتبات العامة أن من القراء من يتركون آثاراً لهم في الكتب، كأنهم يخلدون أنفسهم فيها، فمن القراء من يضيقون بذلك، بل إن منهم من يعده تشويهاً للكتاب وعدواناً على حق قارئه التالي، وهناك من لا يضيقون، وأنا منهم، بهذه العادة السيئة وإن اعترفت أنها سيئة، بل إنني لا تخطر لي مزايا كثيرة للاختلاف إلى المكتبات العامة في زماننا هذا، عدا ميزة قراءة هذه الكتب المقروءة التي انتهك بكارتها قراء سابقون وتركوا فيها خربشاتهم، سواء أكانت خطوطاً تحت جمل أم تعليقات في الهوامش أم رسائل مكتملة في بطون الأغلفة أم ورقاً مطوياً بعناية ومنسياً أو ربما موضوعاً عن عمد بين صفحاتها.
هذه الخربشات أراها أقرب إلى رسائل الزجاجات، لكنها تلقى في الزمن بدلاً من البحر، ولأنها لا تحمل توقيع أصحابها فإنها تحمل كثيراً منهم، وتوشك بعون الخيال أن ترسم صوراً دقيقة لهم، فهذه الخربشات في الكتب تكاد تكون وسيلة الاتصال بين أعضاء في أخوية عابرة للزمن.
لكن هل كان ستالين عضواً في هذه الأخوية عديمة الأغراض؟ هل كان مخلصاً في اشتراكه ببريد مراسلات الكتب العابر للعصور؟ أستبعد هذا، فلربما لا يكتب ستالين اسمه في هوامش الكتب أسفل ملاحظاته، لكنه يعلم علم اليقين أننا مهما يكن ما نقرأه في هذه الهوامش فإننا لن نقرأ إلا اسمه، ولا أحسبني قابلاً للاقتناع بأن قلم الرصاص الأحمر الذي كان يمسكه ستالين كان محض قلم بيد قارئ يعين لنفسه المواضع التي ينبغي أن يقف عندها في زيارته التالية للكتاب، ولعل ذلك كان أحد أغراضه بالتأكيد، لكنه أيضاً كان قلماً في يد ستالين الذي ربما لم يخالجه الشك للحظة في أن باحثين ومؤرخين وصحافيين سينكبون على هذه الكتب انكباباً لينقلوا كل كلمة في كل تعليق في كل كتاب، ويتأملوا كل سطر تمهلت عنده أصابع الزعيم، محاولين أن يستنتجوا منها شيئاً عن عقله ومزاجه وتفضيلاته، لكن الأسوأ من ذلك أنني لا يمكن أن أصدق أن هذه التعليقات بريئة من الافتعال، وحسبي أن أتأمل كل واحد فيها فأسأل نفسي ما الوهم الذي أراد ستالين أن يروجه عن شخصه في المستقبل وهو يدون هذا التعليق؟
غير أنني لا أستبعد أن يكون هذا الشك أيضاً في غير محله، فوارد تماماً أن يكون ستالين شخصاً لا يعنيه المستقبل ولا الخلود، ولا يقيم وزناً لنكرات زمننا مثلما لم يقم وزناً لنكرات زمنه.