على أطراف البادية في ريف حماة، وسط سوريا، تشمخ قرية طينية بمظهر بهي تزينها قباب بنية اللون، تتعانق مع أشعة شمس حارة، يرخي الطين بكل ثقله على الأرض المقفرة، التي بلا حياة بعد طال المكان أعتى أشكال الحروب، وعلى الرغم من ذلك ظلت صامدة على نوائب الصراع الدائر، وبقية قبابها رافعة الرأس، ولم تطأطئ لعاتيات الزمن.
يحاول أهل قرية "الشيخ هلال" العائدون، على الرغم من عددهم القليل ممن عاشوا لوعة النزوح والهجرة القسرية، مداواة جراح ما زالت غير مندملة، ساعين لبث الحياة إلى أرضهم الطينية، وعودتها إلى سابق عهدها، في محاولة لا تخلو من صعوبات جمة، بعد أن لاقت نصيبها من دمار طال قبابها الفريدة بأنحاء البلاد.
القرية والمشروع الدفين
قرية "الشيخ هلال" واحدة من أبرز القرى السورية التي حافظت لليوم على تراثها المعماري الريفي الغارق بالقدم، تبعد 55 كيلومتراً شمال شرقي مدينة سلمية، وتمتاز بأنها مصنوعة بالكامل من الطين.
لقد تحولت قرية الطين قبل نشوب الحرب إلى قرية سياحية، وشهدت قفزة نوعية جعلتها ذائعة الصيت لدى الدول الأوروبية، حتى إن جمعيات ومراكز محلية ودولية شاركت بمسعى منها لنشر تجربة يطلق عليها "السياحة التضامنية" وبمشروع رائد، يعد الأول من نوعه في سوريا، ويهدف إلى توفير الإقامة للسائحين الأجانب مع السكان المحليين للقرية، والعيش معهم لأيام بكل تفاصيل حياتهم من مأكل ومشرب.
نالت فكرة السياحة التضامنية كثيراً من التشجيع، لكن المشروع الذي لم يكتب له الاستمرار بسبب أحداث عام 2011 أثبت حضوره، وأثرت تجربته إلى تطور فكري في حياة القطاع السياحي، مما دفع لوصول وفود سياحية من دون انقطاع.
القرية، الواقعة غرب البادية السورية، تجاور طريقاً مهماً واستراتيجياً جعله مرتعاً للنزاع الشرس بين كل القوى المتصارعة حتى دمرت التنظيمات المتشددة جزءاً من قبابها، في حرب للسيطرة على الطريق، الذي يربط سوريا الوسطى بمنطقة الجزيرة السورية ونهر الفرات، كما تقع القرية بمنطقة شبه جافة، ويعتمد سكانها في معيشتهم على زراعة الشعير والزراعة البعلية على أرض تمتد بمساحة تناهز ثلاثة آلاف هكتار.
أحد العائدين إلى القرية، المدرس توفيق سلهب، شاب طموح تسلم مدير مشروع السياحة التضامنية بالقرية، وكان لديه الشغف الكبير بأن تصل قريته إلى مراتب متقدمة عربياً وعالمياً، لا سيما بعد نجاح المشروع وعدم توقف المجموعات السياحية من التقاطر إليها، حيث وصل عدد الأجانب إلى ما يزيد على 500 سائح خلال فترة وجيزة جداً من انطلاق العمل.
أشار المدرس سلهب إلى سعيه للتقاعد المبكر وعودته إلى أرضه وداره المبنية من الطوب، حيث أعاد زرع الأشجار "أشجع الناس على للعودة، يمكننا بناء ما دمر، أحاول العمل لإعادة هذا الطين إلى مكانه الصحيح أنا وعدد من العائلات".
ويأمل الأهالي وجمعية أصدقاء سلمية الأهلية، التي تشرف بشكل مباشر على العمل، أن يتوفر الدعم الكافي وتتكاتف الجهود لإعادة توطين الناس بعد نزوحهم، لا سيما أن العدد انخفض إلى النصف حتى قبل الحرب.
وكان قرار صدر في عام 1995 بجعل منطقة البادية (منطقة استقرار خامسة) بمنع الزراعة بالبادية، ما عمل على تصاعد حركة النزوح، وانخفاض عدد السكان للنصف، حيث بقي 700 شخص فقط من أصل 1500 من تعداد القاطنين، وحينها دعمت وكالة التنمية السويسرية والجمعية الكاثوليكية لمكافحة الفقر والتنمية الفرنسية هذه التجربة ورعتها.
لقد عاشت القرية حينها تجربة فريدة بتوفير الإقامة للسياح بأماكن غير تقليدية مبتعدين عن الفنادق الفخمة، لقد بلغت هذه السياحة ذروتها بين عامي 2009 و2013 وما زالت متوقفة إلى اليوم، لكن اللافت أن السياحة الداخلية إلى هذه القرية ما زالت مستمرة.
الرجل السبعيني، الملقب أبو وليد سلهب، يحاول مع عائلته الصغيرة العائدة إلى القرية، استعادة ما فقده من نبض الطين، ويحكي قصص الناس، بينما الجدران تحلم بمعانقة أصحابها من جديد.
ويروي رحلة العودة الشاقة بعد هجرة طالت، بينما مشاعره تفيض بالحزن على واقع قريته المهجورة "عدنا ومعنا عشرات السكان، عدد من العائلات التي تتوزع بيوتها بين أرجاء الضيعة الطينية، أحاول إتمام ما تبقى لي من حياة هنا، يلزمنا كثيراً ونحتاج إلى مقومات الحياة وأهمها الكهرباء".
يعتمد قلة من الناس على آبار الماء الغائرة عبر حفرها مجدداً لإنعاش الأرض، لكن الأمر لا يكفي، فبعد استقرار تعيشه اليوم تحاول القرية نفض أسقفها المخروطية وجدرانها دائرية الشكل غبار الحرب عنها لتبقى تعانق ذرات الصحراء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أصدقاء القرية يعيدون لها الروح
في غضون ذلك، يرى رئيس مجلس جمعية أصدقاء سلمية، محمد الخطيب، أنه بعد الانخفاض الكبير في عدد السكان، حاول الجميع الانصراف لتربية الماشية والدجاج وطيور الزينة والأغنام وطيور الحبش وغيرها، ودرت دخلاً عوضاً عن الزراعة.
ويبتعد هذا النوع عن فكرة السياحة التقليدية، فالسياحة التضامنية تبني علاقة مع المجتمع المحلي الوافد إليها، ويروي عضو جمعية أصدقاء سلمية، سامر ضحاك، أحد المشرفين على مشاريع العمل، أن كثيراً من الفرص بتحسين سبل العيش كانت تتوفر، وأن العديد من النساء والرجال خضعوا لدورات تأهيلية وتثقيفية، والعمل على إنتاج زراعي وتضمن 13 مشروعاً تتعلق بهذا النوع من السياحة وبخدمة الزوار.
وأضاف ضحاك، "عدت هذه السنوات من أكثر الفترات المميزة والذهبية في انطلاق السياحة التضامنية، إذ افتتح في القرية الطينية وداخل هذه القباب محال للألبسة والأحذية ذات الطابع التراثي، والأغذية من الإنتاج الزراعي والحيواني يخدم القرية السياحية وغيرها من القرى، بعد انتشارها من أنجح المشاريع الصناعات الغذائية كإنتاج البيض البلدي مثلاً".
وتمتاز قباب الطوب بأنها باردة صيفاً، ودافئة شتاء ويبلغ عددها في القرية ما يقارب 400 قبة، بقي منها 100 فقط، واليوم تستغل 12 قبة عادة للعمل من جديد، ويعتمد إنشاؤها على القرميد الناشف، بعد تعرض الطين للتخمير وإضافة الملح والتبن له.