انشغلت حركة حماس طوال الفترة الأخيرة بإظهار قادتها إعلامياً وسياسياً، حيث ظهر إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، ومحمد السنوار، رئيس الحركة في قطاع غزة، كما ظهر خالد مشعل، رئيس الحركة في الأقاليم الخارجية، ومسؤولون آخرون، من خلال إطلاق تصريحات متعددة، والواضح أن هناك رسالة تريد الحركة تأكيدها في الساحة السياسية، والرسالة ليست فقط للخارج، وإنما أيضاً للداخل، في إطار لعبة التوازنات السياسية والفصائلية المعقدة، وفي توقيت بالغ الأهمية، وهو ما يؤكد أن الساحة الفلسطينية مليئة بكثير من التطورات المهمة.
ظهور لافت
ظهور قادة "حماس" بهذه الصورة اللافتة لا يمكن التعامل معه على أنه حدث عادي، بخاصة أن ظهور محمد السنوار فضائياً، وفي توقيت له دلالاته، يشير إلى أن الرجل حريص على نقل رسالة بأنه الرجل القوي القادر على إظهار قدرة الردع في مواجهة إسرائيل، وإتمام صفقة تبادل الأسرى التي لا تزال تواجه عثرات نتيجة لبعض التفاصيل المتعلقة بالأسماء والشخصيات، ومحاولة حركة حماس استثمارها لرفع شعبية الحركة في محيطها الداخلي بل والخارجي، فقادة الداخل يريدون تأكيد أنهم في سدة الحكم، وأن لديهم كامل الإمكانات لتمرير أو عرقلة أي اتفاق مع إسرائيل، بخاصة أن الإعلان عن تفاصيل المواجهة الأخيرة مع تل أبيب، وعرض القدرات العسكرية للحركة يتجاوز الهدف السياسي لهدف عسكري حقيقي يحاول أن يردع إسرائيل، ونقل رسالة مهمة بأن الأمر في يد قادة الحركة بالأساس، وقادة الداخل تحديداً، فالسنوار يعتبر أحد أهم الأعضاء بهيئة أركان كتائب القسام وقائد لواء خان يونس فيها، وهو شقيق رئيس "حماس" في القطاع يحيى السنوار، وهو من القلائل المختفين عن الأنظار ولا تتوفر له أي صور لأسباب أمنية، ومن المقربين بشكل كبير من القائد العام للكتائب محمد الضيف.
رسائل هنية
على الرغم من أن إسماعيل هنية نفى وجود انقسامات داخل الحركة، فإن الواقع وجملة تفاصيل تشير وبقوة إلى أن هناك تباينات في الأولويات طرحت أخيراً بين الداخل والخارج، وأن هناك أعضاء في المكتب السياسي يعملون في اتجاه حسابات منضبطة ومحسوبة تخوفاً من استمرار النظر للحركة باعتبارها تمارس العمل الإرهابي وليس المقاومة، أو أن تخسر الأرضية الكبيرة التي حققتها الحركة في مواجهة الأيام العشرة مع الجانب الإسرائيلي.
وفي المقابل، تريد الحركة في الداخل تأكيد امتلاكها زمام الأمور مع قدراتها العسكرية وأهدافها وإمكانية وصولها إلى كل سماوات إسرائيل، وهو ما يفسر التفاصيل التي أعلنها رئيس حركة حماس في قطاع غزة، وتشديده على العمل العسكري في الأساس، لكن الواقع يشير إلى أن الحركة تعاني حالة من عدم التوافقات في المهام والأولويات، وهو ما يتطلب مراجعة جملة التوجهات والسياسات، بخاصة بعد الانتخابات الأخيرة، واستمرار الصراع على بعض المواقع التي لم تحسمها قيادات الحركة، بخاصة أن قادة الحركة حريصون في كل ظهور إعلامي على تأكيد تماسكها على الرغم من أن التجاذبات قائمة ومستمرة، ولا تقتصر على طبيعة العلاقات الداخلية وأولويات الداخل، بل في سلم الأولويات للعلاقات مع إيران ومصر والخليج والسعودية تحديداً، وهو ما قد يكون مدخلاً لفهم ما يجري في الحركة من تطورات .
جديد الصفقة
الواضح من جملة ما يجري أن الرسالة الأولى من قبل قادة الحركة هي محاولة إعادة الحصول على شرعية الإنجاز من خلال إتمام صفقة تبادل الأسرى التي شغلت الرأي العام الإسرائيلي طوال فترة حكم رئيس الوزراء السابق نتنياهو، ولا تحتل أولويات لدى الحكومة الإسرائيلية الراهنة، ولهذا عملت حركة حماس على إعادة ترتيب الأولويات والعمل على تقديم عروض جديدة لإتمام الصفقة، وإن ربطت بين إتمامها والإفراج عن الأسرى الذين هربوا من سجن جلبوع، مقابل الإفراج عن أربعة جنود إسرائيليين أسرى، تناور الحركة في الإفراج عنهم مقابل ما تطلق عليه صفقة مشرفة، وتكرار إنجاز صفقة جلعاد شاليط، على الرغم من أن فريق المفاوضين في "حماس" نفسه اختلف في العرض والطرح بل والتفاوض، وهو ما أخر أيضاً التوصل إلى اتفاق، وإن كان قد فسر ذلك في إطار لعبة توزيع الأدوار بين ممثلي الحركة في التفاوض، الذي يتم مع الجانب المصري والقطري والأممي، وتركز "حماس" مع الجانب المصري الذي يلم بكل التفاصيل المهمة للصفقة، ويعمل على إنجاحها، بخاصة مع دخول أطراف عدة من قبل وسطاء ألمان وأوروبيين، وشخصيات دولية متعددة.
وعلى الرغم من أن قادة "حماس" يعملون على أهداف محددة وحسابات دقيقة، فإن الأمر فلسطينياً وإسرائيلياً ليس سهلاً، حيث لا تزال العلاقات مع "فتح" كما هي، وارتضى الطرفان ببقاء الأوضاع على ما هي عليه، وإن كانت حركة حماس قد دخلت على خط ما يجري بالقدس، في مسعى لمنازلة وضع السلطة الفلسطينية، وتأكيداً لما أعلنه القادة العسكريون من ترابط الجبهات واندماجها، سواء في الضفة أو القطاع أو القدس، وكل ربوع الوطن الفلسطيني، وهو ما يدفع إلى استمرار مراقبة ما يجري في القدس من تطورات، بخاصة مع التهديد بالرد، ليس فقط على ما يجري في متابعة أعمال التنقيب والحفر تحت المسجد الأقصى، وإنما أيضاً ممارسات المستوطنين وتصميمهم على اقتحامه، تحت حماية أجهزة الشرطة الإسرائيلية، ودعم وزراء ونواب في الكنيست، وهو ما ينذر بمواجهات كبيرة قد تجري في القدس وليس في قطاع غزة، حيث يحرص قادة "حماس" على إبعادها عن أي مواجهة وتثبيت حالة الهدنة الراهنة، وفي المقابل، فإن إصرار رئيس الوزراء بينيت على المضي بمسيرة الأعلام وحمايتها بالجيش والشرطة لن يحمي حكومته من السقوط. فبينيت يريد مما يجري حالياً في الأقصى كسب مزيد من الأصوات وإعلاء شعبيته، إلا أن ما سيحدث عكس ذلك، وعليه النظر لما حدث مع نتنياهو بعد انتهاء معركة سيف القدس.
إيران وتركيا
خارجياً، لا يزال قادة "حماس" يمتنون إلى إيران، وبرز ذلك في تصريحات رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" إسماعيل هنية، بالإشادة بالدعم الذي تقدمه طهران للحركة، مع الانفتاح على إقامة علاقات مع جميع الدول العربية والإسلامية، لكن التركيز ما زال في اتجاه إيران وتركيا، بخاصة أن الاعتماد على تطوير القدرات الصاروخية لا يزال بخبرات إيرانية ومن خلال تحركات الحركة في لبنان وتركيا وإيران وعدد من الدول الإسلامية، حيث يتلقى كبار المهندسين بـ"حماس" دورات مكثفة في تطوير الصواريخ التي تمتلكها الحركة وإطالة أمدها، ووصل بعضها إلى قلب إسرائيل، بصرف النظر عن فعاليتها، والرسالة أن الحركة تعمل في اتجاهات متعددة، محتفظة بحضورها ومسعاها لتكون البديل الجاهز للحكم، بل وتعمل على إعادة تدوير دورها السياسي والأمني، وهو ما برز في التركيز على جدول أعمالها دولياً وليس فقط إسلامياً.
وتركز حركة حماس على إطلاق سراح 48 أسيراً من محرري صفقة وفاء الأحرار التي أعادت إسرائيل اعتقالهم، وهو شرط تتمسك به الحركة باعتباره أساساً يجب تنفيذه قبل الشروع في مفاوضات الصفقة الجديدة، إضافة لمعتقلي سجن جربوع، مع التركيز على بعض الأسماء البارزة، التي تنتمي إلى كتائب عز الدين القسام وقادة في فصائل المقاومة. وفي المقابل، فإن الحكومة الإسرائيلية لن تفرج عن أي متهمين بقتل إسرائيليين، لكنها قد تقبل بإطلاق سراح الأطفال والنساء، ومئات الأسرى الفلسطينيين وأصحاب الأحكام الخفيفة، في مقابل تحرير أسراها لدى "حماس".
والواقع يشير إلى أن الحكومة الراهنة غير قادرة على تحقيق أي إنجاز في ملف الأسرى، وإن كانت ستعمل على الاستمرار في التهدئة بقطاع غزة وعدم الاصطدام مع "حماس"، بخاصة أن هناك تقييماً إسرائيلياً بأن الحركة في مجمل حركاتها تعتمد أسلوباً إعلامياً ودعائياً مكايداً للسلطة الفلسطينية في الضفة، بخاصة مع تتالي تصريحات هنية بأن هناك خيارات عديدة لمواجهة مسيرة الأعلام والتصدي لمحاولات تدنيس الأقصى، والرسالة في مضمونها أن الحركة موجودة بالضفة، كما هي موجودة بالقطاع، وأنها قادرة على مواجهة إسرائيل، لكن كل ذلك سيبقى في إطار من الحسابات التي تعمل عليها الحركة جيداً.
اللافت في الأمر ظهور قادة عسكريين إلى جوار السياسيين في الحركة، مثل محمد السنوار أحد أبرز شخصيات هيئة أركان كتائب القسام، ليؤكد أن إطلاق الصواريخ على تل أبيب أسهل من شرب الماء، وأن هدف تنفيذ عملية أسر في معركة سيف القدس إرغام إسرائيل على صفقة تبادل الأسرى، وهو ما يؤكد حرص قادة الحركة على تحقيق اختراق حقيقي في هذا الملف باعتباره ملفاً مهماً يكسب حركة حماس شرعية حقيقية، ومشروعية في العمل الوطني الفلسطيني بأكمله.
وعلى الرغم مما يطرحه قادة "حماس" من رسائل وتحذير لإسرائيل من استئناف سياسة الاغتيالات، فإن الأمر غير صحيح جملة وتفصيلاً، فالحكومة الإسرائيلية ذاتها لا تريد الدخول في هذا الملف المتخم بالتفاصيل، كما أن أجهزة المعلومات نفسها لم تحدث قائمة الاغتيالات ولم تعلن تفاصيلها، وهو ما يشير إلى أن الأمر غير وارد، وأن لإسرائيل مهام أخرى تعمل عليها في إطار تثبيت سياسة الأمر الواقع.
يمكن التأكيد إذن أننا أمام تطورات في إطار المواجهة المحتملة التي قد ترسم سيناريوهات عدة للمشهد المنتظر بين "حماس" وإسرائيل، لكن ولاعتبارات تتعلق بالردع والردع المقابل الذي تعمل عليه حركة حماس والحكومة الإسرائيلية، فإنه لا توجد مواجهة في المدى القصير، والأمر مرتبط بتحقيق الأولوية المطروحة أمام حركة حماس، وهي إتمام صفقة تبادل الأسرى لحسابات محددة. أما إسرائيل، فتعمل على كسب الوقت وعدم الدخول في مواجهات، لصالح تركيزها على الخطر الإيراني، وهو الأهم، مع إعادة ترتيب الأولويات الحزبية، وعدم تفكيك الائتلاف، واستمراره كأولوية سياسية.