تضم القوات النشطة والاحتياطية وغير الرسمية في الجيش الصيني قرابة أربعة ملايين عنصر، أي ضعف عدد جنود نظيره الأميركي، ومع ذلك ما زال جيش الولايات المتحدة يحتل المرتبة الأولى كأقوى الجيوش في العالم وفق إحصاء "غلوبال فاير باور" الصادر هذا العام، ويليه الجيشان الروسي والصيني. كلمة السر في هذا التفوق النوعي الذي لا تنفك واشنطن تتباهى به وتكافح للحفاظ عليه هي التكنولوجيا، فبفضل ميزانية "البنتاغون" الضخمة، استطاعت أميركا تأمين تقنيات متقدمة، مكّنتها من الانتشار العسكري الواسع في قرابة 800 قاعدة حول العالم.
لكن في الآونة الأخيرة ظهرت مؤشرات تدق ناقوس الخطر حيال قدرة وزارة الدفاع الأميركية، التي تشمل أدوارها في البحث والابتكار، على المحافظة على تفوقها التقني على منافسيها الدوليين، بما يتواءم مع أهداف الولايات المتحدة العسكرية، ويعزز مكانتها كقوة عظمى، وآخرها إعلان مايكل براون، رئيس وحدة الابتكار في "البنتاغون" نيته الاستقالة بحلول سبتمبر (أيلول) المقبل.
وفيما يُرتقَب أن تطوي استقالة براون أربع سنوات أمضاها على رأس الوحدة الحساسة، وعمل خلالها على تحسين عملية إعداد الميزانية في وزارة الدفاع، والدفع نحو تبني التقنيات التجارية على نطاق أوسع، فإنها توضّح أيضاً العقبات التي يواجهها "البنتاغون" في تسريع عملية الابتكار، إذ تكشف رسالة بريد إلكتروني أرسلها براون إلى زملائه، عن أن سبب مغادرته يعود إلى ما يصفه بـ"الضعف الصارخ" في عملية تحديث "البنتاغون". وكان براون الذي ترك القطاع الخاص ليدير وحدة ابتكار "البنتاغون" في خريف 2018، وضع هدفاً أساسياً تمثّل في توسيع نطاق العمل والمهمات التي تضطلع بها الوحدة لتعزيز العلاقات بين الوزارة وشركات التكنولوجيا التجارية، إلا أن خططه الطموحة قوبلت بضعف الدعم من قيادة "البنتاغون"، التي لا تعتبر أهدافه أولوية، مما انعكس على حجم ميزانية وحدة الابتكار التي انخفض تمويلها بنسبة 20 في المئة، وغادرها موظفون إلى إدارات أخرى في الوزارة.
تحذير داخلي
الحديث عن بطء "البنتاغون" في تبني التقنيات الجديدة لم يعد متوارياً خلف جدران المؤسسة العتيقة، بل أصبح مثار جدل عام، عززته تصريحات هايدي شو، وكيلة وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، التي قالت، الشهر الماضي، إن "الولايات المتحدة يجب أن تتحرك لتجنب فقدان تفوّقها، لصالح منافسيها الاستراتيجيين الذين أصبحوا يطوّرون ميزات تكنولوجية منافسة". وتحدّثت شو أمام أعضاء لجنة القوات المسلحة في الكونغرس عن الخطوات التي يجب على وزارة الدفاع اتخاذها للحفاظ على ميزتها التكنولوجية، مشيرةً إلى أن الخطوة الأولى هي "بناء أساس قوي للبحث والتنمية داخل الوزارة"، أما الخطوة الثانية التي تحمل همّاً استراتيجياً فهي "تغيير طريقة عمل وزارة الدفاع". وأوضحت بأن "كل هيكل قوي يحتاج إلى أساس صلب للتأكد من أن هذه الدولة تحافظ على ميزتها، وتغذّي مستقبل التقنيات والإمكانات".
وأكدت وكيلة وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة حاجة وزارتها إلى تعزيز جهودها لجذب المواهب، وبناء بنية تحتية صلبة وضرورية للبحث والتطوير، إضافة إلى الشراكة مع جهات أخرى في تنفيذ التجارب، مشيرةً إلى ضرورة تحديث المختبرات ونطاقات الاختبار لجذب الموارد البشرية اللامعة وإنتاج أحدث التقنيات في العالم، وشددت على أن مستقبل "البنتاغون" يعتمد على الموهبة وتطويرها.
تاريخياً، تُعتبَر وزارة الدفاع الأميركية من المؤسسات الرائدة في البحث والتطوير، إلا أن ما يهدد هذه الميزة هو تنامي قدرات القطاع الخاص في إدارة البحث والتطوير من دون الحاجة إلى تدخل "البنتاغون"، مما دفع الوزارة أخيراً إلى زيادة استثمارها في القوى العاملة والبرامج التعليمية والبحثية التي تتباين ما بين أنظمة الروبوتات، والمنح الدراسية، وبحوث العلوم. وكما لوحظ في حرب أوكرانيا، أن التقنيات التجارية النادرة، مدعومةً بالأسلحة التقليدية، يمكن أن تغيّر طبيعة الصراع، ما زاد من أهمية تحديث عمليات الوزارة، بدءاً بالبرمجة، والتجربة ووصولاً إلى الشراكات، على نحو يعكس ديناميكية الحاضر ويتنبأ باحتياجات المستقبل.
وشددت وكيلة وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، على ضرورة تعزيز التعاون بين الحكومة والشركات كون القطاع الخاص الأميركي يمثل الميزة التنافسية للبلاد. وخاطبت شو القطاع الخاص قائلةً، "أنا ملتزمة بالعمل معكم لضمان تحرك الوزارة السريع أثناء تعاونها مع القطاع الخاص، والنظام البيئي للابتكار بأكمله، لتسريع تحويل التكنولوجيا إلى قدرات مستقبلية".
نفور المواهب
ويرى غريغوري كوزنر، المسؤول في مكتب وكيل وزارة الدفاع للاستحواذ والاستدامة، بأن التحديات الجديدة التي تواجه القوى العاملة تتطلب نهجاً حديثاً للتدريب والتطوير، الأمر الذي دفع قادة "البنتاغون" إلى تنمية رأس المال البشري من خلال تبني أساليب جديدة للتدريب وتنمية المواهب والتوظيف. وعلى الرغم من تلك المساعي، فإن "البنتاغون" ما زال يواجه تعقيدات في الاستحواذ على المواهب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على سبيل المثال، يفوق طلب "البنتاغون" للقوى العاملة في مجال الأمن السيبراني عدد المواهب الموجودة أو التي ترغب بالعمل فيه، ما يترك وزارة الدفاع فقيرة بالكفاءات اللازم وجودها لحماية وتأمين شبكاتها الرقمية، وفق موقع "غوفرنمنت تكنولوجي" المتخصص بالتقنية، الذي يذكّر بأن كبار علماء الكمبيوتر مهندسي البرمجيات في البلاد، غالباً ما يختارون وظائف في القطاع الخاص، تقدّم رواتب عالية ومزايا سخيّة.
ويتزامن نفور الكفاءات من العمل في "البنتاغون" مع ظروف حرجة تعيشها الولايات المتحدة منذ سنوات بسبب تزايد التهديدات السيبرانية من قبل خصومها، فروسيا وإيران مثلاً، متّهمتان بالتدخل واستهداف الانتخابات الأميركية، على الرغم من نفيهما ذلك، أما الصين، فاخترقت، وفق تقارير أميركية، عدداً من الشركات التقنية التي يتعاقد معها "البنتاغون". وعلى أرض الواقع، يحتاج "البنتاغون" إلى الخبرة التقنية لتنفيذ أهدافه المستقبلية المتمثلة في دمج تقنية الذكاء الاصطناعي في أنظمة أسلحته، وهو مسعى من شأنه أن يمنح آلات الحرب قدرات متقدمة. وفيما يمكن تنفيذ بعض هذه المهمات الهائلة من قبل متعاقدي الوزارة، إلا أن بعضها يجب أن يُنفذ من قبل الحكومة نفسها، وهو ما يزيد من أهمية توظيف الكفاءات.
واليوم تستهدف شركات التكنولوجيا الضخمة والشركات الناشئة الكفاءات المتخرّجة حديثاً بعروض عمل مغرية ورواتب تصل إلى مستويات الرواتب المخصصة لموظفي الحكومة المخضرمين. ويذكر سيبين موهان، أستاذ علوم الكمبيوتر في جامعة إلينوي، بأن طلابه المتخرجين في تخصص هندسة الكمبيوتر لعام 2018، وهو نوع التخصص الذي يستهدفه "البنتاغون"، حصلوا على متوسط راتب يبدأ من 99741 دولاراً، وهو الأجر الذي يقول موهان إنه "من الصعب منافسته"، كونه في مستوى رواتب كبار موظفي الحكومة في العاصمة واشنطن.
وتلعب شركات التكنولوجيا الأصغر دوراً في تصعيد "حرب العطاءات" هذه، وفق موهان، الذي يقول إن "الشركات الناشئة مستعدة لدفع أموال إضافية لجذب هؤلاء الخريجين بعيداً من بعض هذه الأسماء الكبيرة" ومنها شركات الساحل الغربي مثل "أمازون" و"مايكروسوفت" و"أوبر"، التي توظف هؤلاء الطلاب حتى قبل تخرّجهم، وهو ما تفعله شركات "وول ستريت" في الساحل الشرقي. ولكن لحسن حظ "البنتاغون" الذي يصعب عليه المزايدة على عروض القطاع الخاص، أن هؤلاء الخريجين ليسوا مدفوعين فقط بالمال، إذ من المحتمل أن يولي بعضهم اهتماماً أكبر بنوع العمل والمهمات الموكلة إليه.
وفي ضوء التحديات الرقمية المتزايدة، يرى مراقبون أن على "البنتاغون" أن ينتصر أولاً في معركة التوظيف الجامعي لكي يربح الحروب المستقبلية في مناطق الصراع الرقمية حيث بات ينشط خصوم الولايات المتحدة.
التحدّي الصيني
وتمثل الصين التي تصفها إدارة بايدن بأنها "أكبر اختبار جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين" تهديداً آخر للميزة التنافسية التي يملكها "البنتاغون"، كون بكين، وفق مايكل براون، مدير وحدة الابتكار الدفاعي في وزارة الدفاع الأميركية، تملك "استراتيجية متكاملة ومنهجية وطويلة المدى لتحقيق هدفها في أن تكون رائدة في مجال التكنولوجيا عالمياً". وحذّر براون في خطابه أمام مؤتمر ومعرض الذكاء الاصطناعي والأمن القومي قائلاً، "نحن لا ندخل حرباً باردة جديدة"، لكن من الواضح أن الصين لديها "القدرة على تجاوز الولايات المتحدة من حيث الحجم الاقتصادي لأن عدد سكانها أكبر بأربعة أضعاف". أما الفارق الآخر وفق المسؤول الأميركي فهو أن "الصين نجحت في دمج نفسها في النظام الاقتصادي العالمي"، وهذا ما يعدّه "جزءاً من صعودها الاقتصادي"، لافتاً إلى أن "بكين تسعى إلى إنجاح عملية دمج التكنولوجيا التجارية في جيشها، وأصبح لديها بالفعل مجموعة رائعة من التقنيات الرائدة".
وأكد براون حاجة بلاده إلى مواصلة الاستثمار في كل المجالات ذات الشأن لضمان المحافظة على الريادة الأميركية، مشيراً إلى أن "الذكاء الاصطناعي ليس إلا مجالاً واحداً من مجالات عدة نحتاج فيها إلى مواصلة الاستثمار للتأكد من أننا وحلفاءنا نملك زمام المبادرة". وشدد على ضرورة أن تولي الولايات المتحدة اهتماماً بالاستثمارات الطويلة المدى في التقنيات، وتحسين العلاقة مع الموردين التجاريين الذين يمكنهم تحدي نظرائهم الصينيين.
وحدد مدير وحدة الابتكار الدفاعي في "البنتاغون"، الذي ينظر إلى السباق التكنولوجي مع الصين باعتباره "ماراثون قوى عظمى"، أربع خطوات من شأنها مساعدة بلاده على الحفاظ على ميزتها التنافسية، وهي تعزيز الاستثمار في أساسات البحث والتطوير على الصعيدَين الفيدرالي والخاص، والاستثمار في الموهبة، وهو ما فعلته أميركا لزيادة عدد المهندسين في الستينيات، وتحقيق التكامل بين الوزارات والوكالات الأميركية، وأخيراً، التركيز على "ثورة المساهمين"، مشيراً إلى أنه في عالم تنافسي مليء بالتحديات من الخصوم الاستراتيجيين، من المهم عدم تشغيل سلسلة التوريد عبر مناطق الخصوم، والتأكد من أن أسواق رأس المال تركز على المدى الطويل حتى تتمكن البلاد من مواصلة الاستثمار في القدرات الاستراتيجية.