في الوقت الذي تعيش فيه تونس صعوبات كبيرة لتوفير المواد الأساسية الموردة، وبخاصة منتجات الحبوب والأدوية والطاقة جراء تبعات الحرب المستعرة بين أوكرانيا وروسيا، وما نجم عنها من ارتفاع جنوني في أسعار المواد الأولية العالمية، تتواصل بعض مظاهر الاحتكار والاتجار بقوت التونسيين متغلغلة في عدد من المحافظات وفي مسالك التوزيع.
وعند اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية في 24 فبراير (شباط) 2022 انتعشت السوق السوداء في تونس بتسجيل مضاربات لافتة في مواد جد حساسة كالدقيق والعجين الغذائي والزيت النباتي المدعم، ما ألهب الأسعار بشكل كبير مع اختفاء المنتجات، وخلف هذا الوضع استياء كبيراً لدى التونسيين الذين احتجوا على صمت الحكومة وسكوتها عن تنامي المضاربات الاحتكارية وعجزها عن إيقاف نزيف لهيب الأسعار وارتفاع نسب التضخم بشكل مرعب ومقلق.
هذا الأمر حتّم تدخل رئيس الجمهورية قيس سعيد بصورة عاجلة وإصداره في مارس (آذار) من هذا العام، مرسوماً يقاوم الاحتكار والمضاربات غير المشروعة، ولئن رحب المتخصصون والمواطنون بهذا المرسوم والارتقاء بالاحتكار إلى جريمة مكتملة الأركان، فهل أعطى هذا المرسوم على الميدان نتائج ملموسة وناجعة بعد مرور نحو ثلاثة أشهر من صدوره؟
تراجع مظاهر الاحتكار
وقال المدير العام للمنافسة والأبحاث الاقتصادية بوزارة التجارة التونسية حسان الدين التويتي إن المرسوم المتعلق بمقاومة الاحتكار والمضاربة غير المشروعة أسهم في تراجع مظاهر الاحتكار والمضاربة في تونس بنسبة نحو 30 في المئة في المدة الوجيزة الأخيرة، ولاحظ أن صدور المرسوم أعطى نتائج جد إيجابية، وبعث برسالة واضحة للمهربين والمضاربين بارتقاء الاحتكار إلى الجريمة في حق البلاد والمواطن تستوجب عقوبات ردعية، وأبرز أن صدور المرسوم أسهم في تقليص محاولات الاحتكار والمضاربات وأيضاً التهريب.
وتصل العقوبات السجنية التي تضمنها المرسوم من 10 سنوات إلى السجن المؤبد، وغرامات مالية تصل إلى 500 ألف دينار (166 ألف دولار) مع مصادرة كل ممتلكات المهربين وأرباحهم وأرصدتهم البنكية والعقارات المحققة من عمليات الاحتكار والمضاربة.
أضاف المسؤول التونسي أن هذه النسبة (30 في المئة) تمت معاينتها من خلال مؤشرات عدة، "قبل صدور مرسوم مقاومة الاحتكار، كان بعض الأشخاص يتاجرون بالمواد المدعمة على الطرقات، ولكن عند صدور المرسوم غابت هذه المظاهر في الأشهر الأخيرة ". وكشف التويتي عن إيقاف نحو 100 شخص تنطبق عليهم أحكام مرسوم مقاومة الاحتكار على أثر دهم قوات الأمن عدداً من المخازن العشوائية تتضمن بضاعة معظمها مواد غذائية معدة للتهريب إلى دول مجاورة مثل ليبيا.
برنامج مقاومة الاحتكار
وبالتوازي مع صدور مرسوم رئاسي لمقاومة الاحتكار، أرست وزارة التجارة بالتعاون مع بقية الوزارات الأخرى برنامجاً وطنياً لمقاومة الاحتكار منذ بداية العام الحالي، يتضمن عمليات رقابية مشتركة بالمرور من المراقبة العادية إلى المراقبة الشاملة والمعمقة. ولفتت إلى استهداف العمليات الاحتكارية في العمق، من خلال التركيز على مراقبة المخازن العشوائية ومصادر الاحتكار التي برزت في فترة اتسم فيها الظرف العالمي بارتفاع الأسعار وما تبعه من تداعيات على السوق المحلية بتسجيل إشكاليات في التزود بمشتقات الحبوب المدعمة وبعض المواد الأساسية. وأكد التويتي أن برنامج مقاومة الاحتكار أعطى نقلة نوعية ضمن العمل الرقابي من حيث تطور تدعيم الفرق الرقابية بنحو 87 في المئة، وأيضاً التغطية الميدانية في حدود 68 في المئة، ما أدى إلى تسجيل زيادة في نسبة الكشف عن التجاوزات بنسبة 45 في المئة في الأشهر الأولى من العام الحالي بالمقارنة مع الفترة نفسها من السنة الماضية.
طرق ملتوية لإخفاء البضاعة
ولفت المسؤول التونسي أيضاً إلى تسجيل عديد من النجاحات على مستوى إحباط التلاعب بالمواد المدعمة من خلال الكشف عن وحدات عشوائية لتعليب الزيت النباتي المدعم بسحبه من السوق، وتعليبه وترويجه على أساس زيوت غير مدعمة مستغلة ارتفاع أسعار الزيت النباتي غير المدعم نتيجة تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية وارتفاع أسعار المواد الأولية. وأشار إلى أنه تم تفكيك عديد من الوحدات العشوائية في محافظات ساحلية، وبخاصة في الوسط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتحدث التويتي عن كشف عديد من المحاولات الاحتكارية في المنتجات الفلاحية، بخاصة في الأيام الأولى من شهر رمضان الماضي في منتجات الفلفل والبطاطا والطماطم. وتطرق إلى تكثيف العمليات الرقابية، بخاصة على المخازن العشوائية المرتبطة بشبكات التهريب على أثر ملاحظة تهريب العجين الغذائي إلى دول الجوار بسبب الفوارق السعرية الكبيرة بين تونس ودول الجوار مع ارتفاع أسعار الحبوب في الأسواق العالمية.
قانون مهم لكنه غير كافٍ
من جانبه، اعتبر رئيس المعهد التونسي للمستشارين الجبائيين (منظمة مستقلة)، لسعد الذوادي، أن المرسوم الرئاسي المتعلق بوضع حد للاحتكار والمضاربة مهم جداً، لكنه غير كافٍ. وقال إنه نظراً إلى أن نصف الاقتصاد في تونس ريعي وخارج الاقتصاد الرسمي، فيجب توسيع مجالات الإصلاح للقضاء على هذه الممارسات، والضرب بقوة على أيادي المضاربين والمحتكرين وكل المهيمنين على السوق. وأشار إلى أن "الدولة ترفض تنظيم الأنشطة الاقتصادية باعتماد قوانين متطورة ومطابقة للمعايير الدولية، وبخاصة المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة المتعلقة بحماية المستهلك"، لافتاً إلى أن قانون حماية المستهلك في تونس لم يتم تحويره وتطويره منذ سنة 1992.
أضاف، "كل القوانين الاقتصادية التي تشرف على تطبيقها وزارة التجارة أقل ما يقال عنها فاسدة ومخالفة للمعايير الدولية"، موضحاً أن هذه القوانين "تجاوزها الزمن فضلاً عن أنها في خدمة لوبيات اقتصادية". ودعا في هذا السياق إلى تغيير هذه القوانين بما يستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة.
إصلاحات عاجلة
وعن الإصلاحات التي تشتغل عليها وزارة التجارة وتنمية الصادرات لتطويق مظاهر الاحتكار، أوضح حسام الدين التويتي أن مرسوم تجريم الاحتكار والمضاربة غير المشروعة غير كافٍ، ويجب ألا يكون معزولاً. وقال إن الوزارة تعمل على إصلاحات عميقة باتجاه القضاء على اختلالات عدة، ولا سيما التصدي للاحتكار والتلاعب بالمواد المدعمة وتهريبها والتبذير الغذائي.
وستعتمد هذه الإصلاحات الحفاظ على مكسب منظومة الدعم والحرص على توجيهها لفئات محدودة ولمستحقيها. وأكد أن هذه العملية ستكون مرنة ومتدرجة في الزمن مع الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن، مشيراً إلى أن هذا الإجراء سيمكن، من وجهة نظره، من القضاء على التهريب والاحتكار وتبذير المواد المدعمة.
وتطرق التويتي أيضاً إلى الإصلاحات الهادفة لدعم المنافسة كآلية لتعديل السوق، عبر تدعيم الإطار التشريعي والمؤسساتي باتجاه تحسين شروط النفاذ إلى الأسواق بحذف كل العراقيل وتفادي خلق وضعيات هيمنة واحتكار. أضاف أن الإصلاحات ستهتم بإقرار برامج رقابية نوعية، ومن ضمن الإصلاحات الأخرى، الحرص على الانتهاء من رقمنة كل مسالك توزيع المنتجات والمواد الأساسية الحساسة ومدخلات الإنتاج. وختم حسام التويتي مؤكداً أن مقاومة الاحتكار والمضاربة غير المشروعة تبقى عملاً متواصلاً، وكلما تطورت وتعددت أشكال التلاعب، فإن المصالح الرسمية ستكون بالمرصاد للتصدي لمثل هذه الممارسات غير المشروعة.