خلال الدورة الرئاسة الفرنسية الأولى أطلق الفرنسيون اسم جوبيتر (أبو الآلهة في الميثالوجيا الرومانية) على رئيسهم إيمانويل ماكرون، لأنه كان خلال رئاسته في السنوات الخمس الماضية مطلق القدرة، يحكم فرنسا بأوامر تنفيذية فردية من الأعلى إلى الأسفل مستخدماً سلطات الجهاز التنفيذي غير مكترث بوجود الجمعية الوطنية التي كانت حينها تحت السيطرة المباشرة لحزبه "الجمهورية إلى الأمام".
أما بعد نتائج الانتخابات البرلمانية الأسبوع الماضي فقد تلقى جوبيتر ضربة أفقدته توازنه، وسيجد نفسه مضطراً منذ اليوم الأول للنزول من سمائه وتعلم بناء التوافقات وتقديم التنازلات داخل البرلمان الذي فقد السيطرة عليه، وبات خصومه من أقصى اليسار واليمين يستحوذون على حصة وازنة فيه.
إن إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون لدورة رئاسية جديدة، تشكل بنظر المراقبين نهاية مواجهة كان معظم الناخبين الفرنسيين يرغبون في تجنبها، من حيث إنها تمثل بداية سنوات خمس ستكون خالية من الزخم أو الأمل، وربما تشهد صراعات تحت قبة البرلمان سيضطر معها ماكرون لتعلم فنون قيادة الاختلاف في برلمان مجزأ، جمع كل ألوان الطيف الفرنسي بخلفياته الأيديولوجية والاجتماعية والطبقية.
وقد يضطر جوبيتر السياسة الفرنسية، إن هو واجه تحديات ومحاولات خصومه السياسيين المعلنة مسبقاً لتعطيل برنامجه الإصلاحي، إلى اللجوء إلى حقه الدستوري وإلغاء البرلمان والدعوة لانتخابات جديدة.
وبحسب استفتاءات الرأي، فقد فاز ماكرون بتفويض رئاسي جديد بشكل افتراضي، على الرغم من أن غالبية الفرنسيين يعتقدون أنه يخدم بشكل أساسي مصالح الأثرياء (72 في المئة)، وأن الدولة الفرنسية في حال أسوأ مما كانت عليه عندما تولى السلطة (69 في المئة)، وأن سجل أدائه ضعيف (56 في المئة) وبرنامجه خطير (51 في المئة). لقد تملكت الفرنسيين رغبة عارمة للحيلولة دون انتصار اليمين المتطرف، ولهذا فقد صوت ملايين الناخبين اليساريين على مضض لصالح ماكرون، لكن بعضهم مستعد اليوم للنزول إلى الشارع ضده.
وتكثر أسباب عدم الرضا الشعبي الفرنسي، وأبرزها، انخفاض القوة الشرائية، ورفع سن التقاعد، وعدم اتخاذ إجراءات في شأن المناخ، وارتفاع أسعار الفائدة، وإجراءات عقابية ضد العاطلين من العمل، وزاد عليها الأداء الاقتصادي في زمن كورونا والحرب الروسية - الأوكرانية من بين أسباب كثيرة أخرى.
وفي تقييمه لما صنعه جوبيتر السياسة الفرنسية بالتركيبة السياسية لبلاده ونخبها، يرى سيرج حاليمي، رئيس تحرير "لوموند ديبلوماتيك" أن الرئيس الفرنسي بات هو الخيار المفضل لليمين التقليدي ولليسار من الطبقة الوسطى على حد سواء، وقدم ماكرون نفسه باعتباره مبتكر نظرية "مشوشة" سماها "مشروع أقصى الوسط" جمعت عديداً من العائلات السياسية، من الديمقراطيين الاجتماعيين إلى الخضر، واليمين واليسار والوسط، تتمثل قيمتها الوحيدة الواضحة في أنها تسمح له بفعل ما يريد.
ولا تفسير لدى حاليمي بقدرة ماكرون على جمع هذا اللفيف من المتناقضات النظرية والتاريخية سوى أنها "الكتلة البرجوازية"، و"حزب الدولة"، و"الطبقة العليا" في فرنسا، التي ستبقى مصالحها دائماً تدور في فلك السلطة، وتعيش من خيراتها تحت سقف أي مسمى.
جمعية وطنية في حال اشتباك
لقد ترجمت نتائج الانتخابات الفرنسية ذلك الإحساس المشتبك لدى الفرنسيين، حيث امتنع 54 في المئة منهم عن المشاركة في الانتخابات لعدم إيمانهم بالنخب السياسية، فيما نتج عن تصويت من شاركوا جمعية وطنية مجزأة، توزعت مقاعدها بين جميع أشكال الطيف السياسي، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بينما فضل البعض البقاء خارج اللعبة، وتلاشى تأثير اليسار المعتدل واليمين النيوليبرالي اللذين حكما المشهد السياسي الفرنسي منذ بداية الجمهورية الخامسة.
لم يمنح نصف الناخبين الفرنسيين الذين شاركوا في الانتخابات قائمة "معاً" للرئيس ماكرون الأغلبية المطلقة التي كان يبحث عنها لحكم فرنسا على طريقته الجوبيتيرية، بل منحته الأغلبية النسبية، ومنحت التحالف اليساري "الاتحاد البيئي والاجتماعي الشعبي الجديد" بقيادة اليساري المتشدد ميلينشون وضعاً يمكنه من إعاقة أي مسعى يقوده الرئيس داخل البرلمان، الأمر الذي دفع كريستوف كاستانير، أحد أبرز المقربين من الرئيس، للقول بأن ميلينشون سيشعلها "ثورة سوفياتية" داخل البلاد، رداً على تصريحات للزعيم اليساري الذي قال، إن نتائج الانتخابات أكدت الفشل الأخلاقي "للماكرونية".
ووضعت نتائج الانتخابات "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبن، في وضع لم تكن لتحلم به منذ أشهر فقط، حيث تضاعفت مقاعد حزبها عشرة أضعاف ما حققته في الانتخابات السابقة، بالتالي ستكون هي وليس تحالف اليسار ثاني أكبر كتلة سياسية داخل الجمعية الوطنية، وستلعب أدواراً حاسمه ضد الرئيس تحت لافتة "المعارضة البناءة" التي أعلنت عنها.
ويقول دومينيك روسو، أستاذ الفقه الدستوري، إن ماكرون لم يعد جوبيتر، وإنها ستكون خمس سنوات من المفاوضات والتسويات والتنازلات، فيما تناولت الصحافة الفرنسية في عناوينها البارزة ما سمته بالنتائج "الصفعة" في وجه الرئيس. صحف أخرى اعتبرته "هزة أرضية"، تثير مزيداً من المخاوف من حدوث شلل سياسي في البلاد، في حال فشلت النخب السياسية في إدارة اختلافاتها.
كلوي مارين الباحثة السياسية، تؤكد أن نتائج الانتخابات سحبت مركز الثقل للسلطة الفرنسية من قصر الإليزيه، مقر الرئاسة الفرنسية إلى قصر بوربون، مقر الجمعية الوطنية، وأن الفرق بين خمس مضت وخمس مقبلة سيكون كمثل الانتقال من نظام رئاسي إلى نظام برلماني، هذا على الرغم من إدراك الجميع بأن السلطات الرئاسية الفرنسية التي صممها تشارلز ديغول على مقاسه، حينما نقل فرنسا إلى الجمهورية الخامسة، أكبر بكثير من أن تعطلها الجمعية الوطنية، ولكن الأمر قد ينعكس على ألا يكون برلماناً مجمداً، لكن ربما يكون معلقاً إن رأى الرئيس استحالة الإمساك بلجامه.
لقد بلورت نتائج الانتخابات الفرنسية مشهداً فرنسياً معقداً ومجزءاً، فعلى الرغم من تعهدات حزب الرئيس بالبحث عن تحالف يضمن عدم تعطيل الحياة السياسية، لكن الحقيقة أن جميع القوى داخل البرلمان مشتبكة ولا قواسم مشتركة في ما بينها، حتى القوى اليسارية المنضوية في تحالف هش تحت قيادة ميلينشون، ليست متفقة على قضايا مهمة مثل السياسة النووية، أو مكانة فرنسا في أوروبا الموحدة، وترفض هذه المكونات الجلوس تحت قبة البرلمان ككتلة واحدة.
صداع داخلي وخارجي
لقد تمخض الحراك الداخلي الفرنسي فولد برلماناً يعكس حالة متجددة من أزمة الديمقراطيات الغربية، وهي نظم باتت تنبئ بالدخول في حالة الانسداد السياسي التي كانت تشهدها الجمهوريات الفرنسية الثالثة والرابعة. وفي الوقت الذي يغالي فيه الرئيس ماكرون بلعب دور قيادي أوروبي، وبات معه الوجه الأبرز لأوروبا وصورتها الحازمة في الأزمة الأوكرانية نظراً إلى غياب المستشارة ميركل، وظهور خلفها الباهت، تفجرت في وجه الرئيس نتائج الانتخابات في البيت الفرنسي، مما سيصعب من مهمته القيادية في البيت الأوروبي الذي لا يعيره المواطن الفرنسي إلا مكانة أيقونية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسيضطر الرئيس ماكرون مع هكذا حال لتخصيص مزيد من الوقت للالتفات إلى الجمعية الوطنية، والعودة لتعلم أصول لعبة الـWhac-A-Mole التي يلعبها الأطفال ويحاولون فيها عبر استخدام مطرقة، السيطرة عبر ضرب حيوانات تشبه الفئران، تظهر عشوائياً من ثقوب في اللعبة.
فاليساري، وزير الاقتصاد في حكومة فرانسوا هولاند الاشتراكية في 2013، الذي وصل إلى ما وصل إليه عبر دعم قاعدة هولاند، تحول إلى مواقع اليمين، واليوم بات يقر أنه كان ميالاً إلى أولويات اليمين الفرنسي على حساب اليسار، ووعد في تصريحاته عقب فوزه بالرئاسة بتصويب الدفة خلال الخمس السنوات المقبلة ليكون رئيساً مغايراً، فهل يقنع هذا الطرح الطيف الواسع من اليسار الفرنسي الذي اعتبره مارقاً.
وتشير التحليلات لنتائج الانتخابات إلى أن ماكرون سيختار تحالفاته بالقطعة من داخل الطيف السياسي المختلف والمتشعب داخل البرلمان للتعامل مع كل قانون في برنامجه الإصلاحي، فما سيتم التوافق عليه مع اليمين الجمهوري قد لا يتم التوافق عليه مع اليسار، على الرغم من أنهم يتفقون بأن ماكرون ليس رجل توافقات ولا تنازلات، بل هو جوبيتر السياسة الفرنسية الذي سيحاول الإمساك بزمام القيادة ورفض الضغوط، مما قد يضطره لإلغاء البرلمان والدعوة لانتخابات جديدة. ويبقى السؤال، متى يمكن حدوث ذلك؟ هل يكون جوبيتر الفرنسي هو الإله الذي تمرد عليه أتباعه، أم سيكون متجدداً مثل طائر الفينيق الذي يجدد نفسه ذاتياً، ويبعث بعد كل موت من تحت الرماد.