على قدر ما شهدنا من فظائع ارتكبتها روسيا بحق شعب أوكرانيا، لا عجب في أن نبحث عن أسباب معللة. وفي هذا السياق يميل السياسيون والشخصيات البارزة أكثر فأكثر إلى اعتبار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "مصاباً بالجنون" أو "مختلاً عقلياً".
ما يلفتني في هذا التوصيف هو أنه متراخ وخطر، أولاً هو جزء من وصمة العار التي ترافق المصابين بأمراض نفسية والخوف مما قد يفعلونه، واعتبار أنهم يشكلون خطراً وربما حتى خطراً عنيفاً، لكن الدلائل تشير إلى خلاف ذلك، وأكبر خطر يمثله المصاب بمشكلة نفسية هو على نفسه، إما عبر إيذاء نفسه أو الإقدام على الفعل المأساوي بإنهاء حياته، واتهام الزعيم الروسي بأنه "مجنون" لا يساعد أبداً في وضع حد لهذه الوصمة.
كما أن ربط المرض النفسي بأفعال الحرب الهمجية ضد شعب أوكرانيا يسهم في استمرارية هذه الخرافة حول العنف والخطر، وقد لا تكون هذه نية الأشخاص الذين يوجهون هذه الاتهامات ولكن سواء علموا ذلك أم لم يعلموا فكلماتهم مهمة بالنسبة لمن يعانون مشكلات نفسية، لا سيما بالنسبة إلى نظرتهم لأنفسهم.
والمشكلة الثانية في تصنيف بوتين "مجنوناً" هي أن هذا التصنيف يرفع عن الرئيس الروسي المسؤولية عن أفعاله، فإعفاء بوتين من موقعه كممسك بمقاليد الأمور ومسؤول بالتالي عن الأوامر التي يصدرها قد يساعدنا في فهم جرائم الحرب التي تعصى على الفهم، وللمفارقة فإن هذا إنكار لحقيقة ما نراه في أوكرانيا.
لا تخطئن الظن، بوتين يتمتع بكامل قدراته العقلية وهو يستخدمها بحسب ما أشارت وسائل الإعلام الروسية، كي يدير بنفسه العمليات التي تخوضها قواته المسلحة في أوكرانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قد نكون غير مستعدين أو حتى غير قادرين على رؤية ما يحدث في أوكرانيا من وجهة النظر الروسية، فلدينا في النهاية تحيزنا الخاص في وسائل إعلامنا ولو لم يكن مشوهاً بقدر ما يعرض على المواطنين الروس. يبرر بوتين وعدد من الروس هذه الحرب أو "العملية الخاصة" من خلال اعتبارها عودة أوكرانيا التي طال انتظارها للمدار الروسي، ويدعم هذه النظرة بعض سكان أوكرانيا، لا سيما أولئك الذين يقطنون في المنطقة الحدودية بين البلدين.
هناك بعض المنطق كذلك في الحذر من محاولة التفاوض مع شخص مجنون، ففي النهاية هم أشخاص لا يمكن التنبؤ بتحركاتهم ولا يمكن الوثوق بهم، وهنا أيضاً يظهر سوء التقدير في قول إن بوتين "مجنون"، إذ سيخلف هذا التصور تداعيات طويلة الأمد وقد يطيل حتى فترة الصراع في أوكرانيا.
كيف يمكن أن نخوض محادثات سلام فيما يعتقد زعماء الغرب أن بوتين مختل عقلياً؟
يسهل جداً على السياسيين في الغرب إطلاق تصريحات لا داعي لها في شأن وضع بوتين الذهني، ولكنهم يخاطرون في إطالة أمد حرب تستمر بتكبيد الجنود والمدنيين في روسيا وأوكرانيا خسائر كبيرة.
لا منفعة حقيقية في تصوير الزعيم الروسي على أنه مجنون سوى أن هذا التصور طريقة مؤقتة وخاطئة لمحاولة فهم الفظائع التي ترتكب، لكن تلك الطريقة التي توفر بعض الراحة على المدى القصير قد تكون مكلفة جداً، إذ بدل أن تكون مفيدة [ترتجى منها فائدة] فهي تعوق محاولات وضع حد لأسوأ أوجه هذه الحرب.
كما لاحظ كثيرون فإن الجيش ليس من سيحسم الفوز أو الخسارة في حرب أوكرانيا، بل المحادثات والتفاوض والدبلوماسية، ولذلك فلنتوقف عن اعتبار بوتين مجنوناً ولنسم الأمور بأسمائها ونقول إن تصرفاته سيئة.
© The Independent