في عام 1945 وجد بيكاسو أن المناسبة قد لاحت له أخيراً كي يحدد موقفه مما كان يسمى حينها "تسييس الفن"، إذ يومها أكد الفنان دوره السياسي، سائلاً "ما رأيكم في الفنان؟ هل تعتقدونه معتوهاً لا يملك إلا عيوناً إذا ما كان رساماً، أو آذاناً إذا ما كان موسيقياً، أو قيثارة على كل مستوى من قلبه إذا كان شاعراً، أو لا يملك حتى لو كان ملاكماً، سوى عضلاته؟ على العكس من ذلك، فهو في الوقت نفسه كيان سياسي، يتأثر طالما هو على قيد الحياة وباستمرار للأحداث المؤلمة أو النارية أو السعيدة، الأحداث التي لا شك أنه يتجاوب معها، ولكن على طريقته الخاصة ويستجيب لها كل فنان على طريقته [...] باختصار أنا لا أعتقد أن الفنان الحقيقي، الرسام مثلاً، يرسم لمجرد أن يزين الشقق".
والحقيقة أن كلام بيكاسو هذا لم يأت اعتباطاً، لا بالنسبة إلى مجريات حياته الشخصية، ولا بالنسبة إلى ما كان يرصده من حوله. فعام 1945 نفسه كان آخر أعوام الحرب العالمية الثانية، ولا سيما نهاية فترة الاحتلال النازي لفرنسا، وهو احتلال جرى خلاله إعدام ما يقرب من 75000 شخص في منطقة باريس وحدها. وتحت وقعه مات عديد من المفكرين الفرنسيين خلال هذه الفترة، مثل روبرت ديسنوس وأوتو فرويندليش وماكس جاكوب، فيما تمكن فنانون آخرون من الهرب من فرنسا للوصول إلى بلدان أخرى صارت منافيَ لهم، ومنهم مارك شاغال ومارسيل دوشامب وفرناند ليجيه وألبرتو جياكوميتي وماكس إرنست، وكلهم كانوا من أصدقاء بيكاسو بكل تأكيد.
تحت رقابة نازية
وكان قد نقل عن بيكاسو في خريف عام 1944 قوله "في الحقيقة، أنا لم أرسم الحرب مباشرة، لأنني لست من هؤلاء الفنانين الذين يبحثون عن موضوع مثل المصور، لكن لا شك في أن الحرب قائمة. الصور التي رسمتها آنذاك تؤكد ذلك". ومن الواضح أن بيكاسو حين قال هذا الكلام كان يفكر في لوحة محددة كان يشتغل عليها في محترفه الباريسي. ولكن، من الخطأ الاعتقاد أن بيكاسو "تأخر" في عرض اللوحة خوفاً من النازيين، كما سيقول البعض، بل إنه كان يشتغل عليها حين كانوا يدخلون إلى مرسمه مجموعات مجموعات للمزاح معه ومراقبة ما يفعل، ولكن من دون أن يفهموا شيئاً، بل سيُروى لاحقاً أن الرسام كان يوزع على من يزوره منهم نسخاً صغيرة مطبوعة، على شكل بطاقات بريدية ربما، من لوحته الأشهر "غرنيكا"، وهو يقول لهم كالممازح، "خذوا هذه تذكارات من باريس وربما من إسبانيا أيضاً"، فيتناولونها شاكرين طالبين منه أن يوقع لهم عليها فيرفض ضاحكاً.
أقل الفنانين تسيساً!
كان من الواضح أن الجنود النازيين لم يفهموا شيئاً من تلك اللوحة التي كان بيكاسو قد رسمها قبل أعوام لتخليد تلك المجزرة التي ارتكبها النازيون أنفسهم في حق المزارعين البسطاء في قرية غرنيكا الإسبانية استجابة لطلب الجنرال فرانكو! والحقيقة أن اللوحة التي كان بيكاسو يرسمها أمام عيون جنود الاحتلال الشاخصة ستعتبر لاحقاً نوعاً من الاستكمال للوحة "غرنيكا" والعمل الثاني المسيس الكبير الذي يحققه ذلك الفنان الذي كان قد بقي حتى "غرنيكا" يصر على الفصل بين مواقفه السياسية وفنه إلى درجة أن تاجر اللوحات الذي كان صديقاً له ومروجاً لأعماله، دانيال هنري كاهنويلر، كان يكرر القول إن بيكاسو هو أقل الفنانين الذين عرفهم في حياته تسيساً، لكن ذلك تبدل مع مجزرة "غرنيكا" خلال الحرب الأهلية الإسبانية، ثم واصل تغيره خلال الحرب العالمية الثانية، كرد فعل على الاحتلال النازي لينتج تلك اللوحة التي حتى وإن كانت مرتبطة بالحرب الإسبانية ومستوحاة من مشهد مصور لعائلة من المزارعين الإسبان ذبحتها قوات فرانكو، وقع بين يدي الفنان، فإنها سترتبط أكثر بحروب الإبادة النازية، ما يعني أن بيكاسو قد عرف كيف يجمع فيها جريمتين نازيتين في بعد فني قوي ومدهش.
قبل الهولوكوست بزمن
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً، نحن هنا أمام لوحة "المقبرة الجماعية" التي سيرى فيها كثر ليس استكمالاً للوحته "غرنيكا" فحسب، بل كذلك انطلاقاً من هذه الأخيرة وبمقاسات أقل كثيراً (أقل قليلاً من مترين ارتفاعاً ومترين ونصف المتر عرضاً، مقابل ثلاثة أضعاف هذا الحجم لـ"غرنيكا") لمواصلة الاحتجاج ضد الحروب، وقد تحولت إلى إبادة. والحال أن المعلقين سيتساءلون دائماً مندهشين كيف تمكن هذا الفنان الاستثنائي من التعبير عن مذبحة من النمط الذي لن ينكشف إقدام النازيين عليه إلا بعد انقضاء الحرب؟ كيف صور سمة أساسية من سمات ما سيعرف بالهولوكوست قبل زمن من الحديث عنه وأزمان من احتكار المنظمات الصهيونية للمذابح وتناسي أن مجموعات كثيرة أخرى من غير اليهود كانت من ضحاياه؟ والحال أن ليس في رسم بيكاسو للمشهد ما يوحي بأن المجازر النازية لم تطل إلا اليهود. مع ذلك، يبدو المشهد من صميم الهولوكوست، وعلى الأقل في جانب منه. ففي النهاية تقسم اللوحة - التي يعتقد دائماً أنها غير مكتملة - إلى قسمين أسفلهما يصور هرماً من جثث أفراد عائلة متكومة فوق بعضها البعض بالأسلوب نفسه الذي طبع ضحايا "غرنيكا" في لوحة بيكاسو الأخرى، بينما يصور الجزء الأعلى مشهد "طبيعة ميتة" من الحياة اليومية. وفي الأحوال كلها، لدينا هنا مشهد رهيب يشكل صرخة ضد الحرب، ما يعيدنا إلى السؤال الأساسي: كيف تمكن بيكاسو من إنجاز لوحته فيما كان الجنود الألمان المحتلون لباريس يزورونه ويمازحونه يومياً وينظرون بإعجاب إلى ما يفعل؟
انتشار في ألمانيا
سيقول الرسام لاحقاً إنهم ما كانوا يجرؤون على سؤاله عما يعني بتلك الخطوط هم الذي بدا عليهم أنهم لم يفهموا شيئاً من منسوخات "غرنيكا" التي كان يصر على توزيعها عليهم فيشكرونه واعدين بعرضها على حبيباتهن حين يعودون إلى الوطن، ثم حين كانوا يريدون أن يقدموا له ما يمكن أن يشكل هدية في المقابل، كانوا يسألونه عما إذا كان يريد أن يحضروا له فحماً للتدفئة في زيارة مقبلة لهم كان يقول متجهماً، "أبداً... أولستم تعرفون أن الإسباني لا يبرد!" فيضحكون معتبرين قوله نكتة ظريفة، فيما هو يشير إلى منسوخات "غرنيكا" التي يحملونها فرحين! وهكذا بين أعلى درجات الجدية وأعلى درجات المزاح، تمكن بيكاسو من أن ينجز ما أراد إنجازه من ذلك المشهد الذي كان يعتبره أحياناً، وبعد أن بدأ عرض اللوحة وقد زال الاحتلال وانسحب جنوده أو قتلوا، نظرة استباقية للجرائم التي سيستغرق اكتشافها زمناً مقبلاً، في ما يعتبره في أحيان أخرى استكمالاً للوحة "غرنيكا" التي ستكون منذ ذلك الحين، ولا تزال حتى اليوم، أشهر لوحاته على الإطلاق، وربما إذا ما صدقنا ما رواه هو بنفسه، أكثر لوحاته انتشاراً في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ راح ينشرها ويطبع منها مئات النسخ أولئك الجنود العائدون من الجبهة فرحين بالهدية التي تلقوها من ذلك "الفنان الظريف غريب الأطوار" الذين سيتندرون بكونه "إسبانياً لا يبرد" ويرسم خطوطاً وأشكالاً لم يفهموا منها شيئاً!
خرافة الفن غير المسيس
مهما يكن من أمر، كل هذا بات بالنسبة إلى لوحة "المقبرة الجماعية" هذه، جزءاً من التاريخ. أما بالنسبة إلى متحف الفن الحديث لمدينة نيويورك (موما) الذي يملك اللوحة ويعرضها الآن، فإنها عمل فني يربط بين المجزرة الإسبانية والمشاهد التي ستصور وتجمع لاحقاً في معسكرات الموت في بوخوالد وداشاو وأوشفيتز وريفرسبروك، وغيرها شاهدة على وحشية لم يكن أحد يتصور الوصول إليها، ما يعني أن بيكاسو قدم في اللوحتين معاً مساهمته الكبرى كفنان في إطلاق الصراخ ضد الحرب كل حرب، وضد المجازر كل المجازر، باعتبارها تنتزع من الضحايا إنسانيتهم لتحولهم إلى أكوام من جثث، لكنها في الوقت نفسه تنتزع من الجلادين أيضاً ما يمكن أن يكون قد تبقى لهم من إنسانية... فهل يبقى في إمكان بيكاسو بعد ذلك أن يقول عن فنه إنه فن غير مسيس؟