حين بدأت أقاويل تتناثر حول علاقة "أميرة القلوب" الراحلة ديانا بجراح القلب البريطاني من أصل باكستاني حسنات أحمد خان، قامت الدنيا في بريطانيا ولم تقعد، ولم يكن السبب التكهن بوجود علاقة عاطفية بينما الأميرة ديانا ما زالت متزوجة من الأمير تشارلز بقدر ما كان الجدل المستعر يدور حول "حبيب مسلم" في حياتها. وتحول الجدل إلى حرب ضارية وتم الزج باسم الملكة إليزابيث نفسها حين تحولت دفة أقاويل العلاقة العاطفية تجاه دودي الفايد، نجل الملياردير البريطاني المسلم من أصل مصري محمد الفايد.
في مثل هذه الأيام من كل عام وعلى مدى ربع القرن الماضي، يصول بعضهم ويجول في دوائر مفادها، "هل كانت ديانا ليلة موتها ودودي الفايد في حادثة سيارة بشعة في باريس حاملاً بطفل مسلم؟ والأدهى عربي؟".
مسلم سليل ملوك
الهلع الذي انتاب بعضهم في بريطانيا لمجرد الربط بين أي رمز إنجليزي، وما بالنا بالقصر الملكي وأفراد العائلة الملكية، والإسلام لم يكن منطوقاً بل محسوساً وملحوظاً ومرصوداً.
في السياق نفسه، ولكن على الضفة المقابلة، طالما ذرف العرب والمسلمون الدموع على أعدادهم الكبيرة في بريطانيا وتمثيلهم الضئيل في دهاليز السياسة ودوائر صناعة القرار.
عقود طويلة والمقارنات العربية تعقد بين "اللوبي الصهيوني" وقوته وحذقه وتغلغله وأثره في السياسة البريطانية، وبين الوجود العربي والمسلم الذي بقي بعيداً من الممارسة السياسية أو المشاركة الفعلية بشكل يعكس مصالح العرب وأولوياتهم واختياراتهم.
عقود طويلة وأعداد البريطانيين من أصول عربية تزيد، والشكوى تتفاقم من سلبية سياسية وعدم رغبة أصيلة في المشاركة ضمن الحياة السياسية ولو من باب التصويت.
في العام 2010 وقبل أيام من الانتخابات العامة خلال مايو (أيار) من العام نفسه، أشارت "بي بي سي عربي" في تحقيق منشور إلى أنه يغلب على الناخبين من أصول عربية تركيزهم على من يخدم قضايا الشرق الأوسط من جهة، ومن يفيدهم في تفاصيل حياتهم الشخصية من جهة أخرى.
قوة انتخابية خاملة
وفي تلك الانتخابات قدرت أعداد الناخبين من أصول عربية ومسلمة بنحو 2.5 مليون شخص، ووقتها كان العزف منفرداً على "هذه القوة الانتخابية المعتبرة" التي لو تم توظيفها وتوعيتها وتفعيل أصواتها بشكل منظم لتمكنت من ترجيح كفة مرشحين ضد آخرين وتوجهات سياسية في مقابل أخرى.
انتخابات أخرى تم البكاء فيها على لبن الصوت العربي المسكوب في بريطانيا، لكن هذه المرة كانت الانتخابات العامة المبكرة في يونيو (حزيران) 2017، ووقتها كان البريطانيون قد صوتوا بأغلبية صغيرة لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وقدرت أعداد الناخبين من أصول عربية ومسلمة بنحو 4 ملايين صوت، وكالعادة وُصف أو وُصم الناخبون العرب، ليس فقط بالتشرذم بين الأحزاب مع بعضها بدلاً من تكوين كتلة انتخابية قوية، بل تم توجيه اللوم إلى نسبة معتبرة منهم بعدم الاهتمام بالتصويت من الأصل.
وفي العام نفسه كشف استطلاع رأي أجرته "يو غوف" (شركة بريطانية متخصصة في بحثوث السوق والرأي العام) عن عداء كبير في بريطانيا تجاه الإسلام والعرب، واتفق معظم المستطلعة آراؤهم على ثلاث خصائص تميز البريطانيين من أصول عربية على غيرهم، الفصل بين الجنسين في مجتمعاتهم والثروة والانتماء للإسلام وعلاقة بالغة الضعف مع الابتكار والتخطيط للمستقبل.
وكشفت النتائج عن أن أغلب الناخبين في بريطانيا يرون أن المواطنين من أصول عربية فشلوا تماماً في الاندماج مع المجتمع البريطاني، وأن وجودهم كعدمه، أي ليس مفيداً.
ونحو 28 في المئة فقط قالوا إن الهجرة من الدول العربية كانت مفيدة للمجتمع البريطاني، وليس هذا فقط، بل قال معظم الناخبين إن أعداد اللاجئين من الدول التي مزقتها الحروب والصراعات وعلى رأسها سوريا والعراق مرتفعة للغاية.
من العراق إلى اسكتلندا
لكن من كان يتخيل أن قادمين وقادمات من العراق وغيرها من الدول العربية رأساً إلى بريطانيا لن يبرهنوا على الاندماج فقط في المجتمع البريطاني بعد سنوات قليلة، بل وسيتبوأون مكانة الصدارة السياسية البريطانية وسن أولويات المجتمع البريطاني، وربما التخطيط لما هو أكبر وأخطر.
في مايو الماضي احتفلت اسكتلندا بنجاح روزا صالح (33 سنة) في انتخابات عضوية مجلس مدينة غلاسجو ضمن ممثلي الحزب الوطني الاسكتلندي، وروزا التي قدمت إلى بريطانيا من كردستان العراق قبل عقدين هي أول لاجئة تحظى بمقعد في المجلس البلدي.
المدقق في الأسماء العربية بالمشهد السياسي البريطاني والباحث في خلفيات وأصول أصحابها يجد زيادة لا يمكن وصفها بـ "المطردة"، ولا يجوز اعتبارها "متصاعدة"، في أعداد المرشحين والمشاركين والمختارين من أصول عربية لمناصب سياسية بريطانية عدة.
زهاوي ذهاباً وإياباً
ولعل أحدث وربما أقوى من حيث رد الفعل وليس الفعل نفسه، وجود سياسي من أصل عربي على الساحة البريطانية المهلهلة حالياً وهو وزير الذهاب والإياب منذ 2018 ناظم زهاوي الذي فرض نفسه على الساحة البريطانية خلال العقدين الماضيين، لكن منذ العام 2018 ذاع اسمه وانتشر كوزير قادم مرة وذاهب مرات.
البريطانيون من أصول عربية يميلون إلى "حزب العمال" ولو بالقلب، وليس بالضرورة بتكبد عناء التوجه إلى مراكز الانتخاب والاقتراع، لكن الدور المحوري الذي لعبه رئيس الوزراء السابق والمنتمي لحزب العمال في غزو العراق عام 2003 هز عرش الحزب في عيون البريطانيين العرب، وأصبح من يصوت منهم يتجه إلى "حزب الديمقراطيين الأحرار"، بل إن هناك من رأى في حزب "المحافظين" بديلاً أفضل من "العمال" لمجرد أنه (المحافظين) لم يكن في الحكم إبان غزو العراق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما ناظم زهاوي الكردي القادم من العراق إلى بريطانيا كطفل لاجئ، فهو منتم قلباً وقالباً لحزب "المحافظين"، ومنتم مولداً وتنشئة وجينات لأسرة يرتبط اسمها بالمال والأعمال أباً عن جد، فالجد كان محافظاً أيضاً ولكن للبنك المركزي العراقي، أما والده فرجل أعمال.
وعلى الرغم مما يقصه زهاوي دائماً عن العوائق المالية الكبرى التي واجهت أسرته وكادت تحرمه من الالتحاق بالجامعة لدرجة أن والدته اضطرت إلى أن ترهن مجوهراتها، فإنه يقف على طرف نقيض من نسبة كبيرة من البريطانيين العرب، وبينهم كثيرون مصنفون تحت بند "مهاجرين اقتصاديين"، فثروة زهاوي تقدر بنحو 100 مليون جنيه استرليني.
من "تيلي تابيز" إلى الوزارة
من لعب "تيلي تابيز" الشهيرة إلى النفط والغاز إلى مشاركة في شركة "يو غوف" للاستطلاعات سار زهاوي الحاصل على شهادة الهندسة الكيماوية على نهج الأسرة، لكنه حاد عنها قليلاً بضلوعه في المشهد السياسي.
عينته رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي وزيراً لشؤون الأطفال والأسر عام 2018، ثم أصبح وزيراً للأعمال والصناعة في حكومة جونسون عام 2019، وخلال الوباء في 2020 أصبح أول وزير في العالم للقاحات، ثم انتقل إلى وزارة التعليم في العام التالي قبل أن يقبل بسرعة غريبة منصب وزير المالية منذ أيام على الرغم من أمارات تهاوي حكومة رئيس الوزراء جونسون تحت وطأة الفضائح وسلسلة الاستقالات.
وبعيداً من الفضائح والاستقالات، وسواء تحقق ما يعتقد أن زهاوي يصبو إليه من زعامة محتملة لحزب "المحافظين" أو حتى تبوء منصب رئيس الوزراء، تبقى أسئلة مطروحة حول أثره وغيره من العرب ممن يصلون إلى أعلى المناصب ولو كانت سدة الحكم.
مزيد من الضلوع السياسي
حتى عقود قليلة مضت ظن العرب أن مزيداً من ضلوعهم في السياسة أو قدراً أوفر من تبوء بعضهم مناصب قيادية أو بروز أسماء عربية ضمن تشكيل الوزارة أو أعضاء مجلس المدينة أو حتى عمادة الكليات الجامعية أو مجالس المدارس، من شأنه أن يلمع صورتهم ويدفع قضاياهم إلى الأمام ويسلط الضوء على الثقافة والأصول والمصالح العربية، لكن أرض الواقع ليست بهذه المثالية، فعلى الرغم من الحراك السياسي الأنشط نسبياً بين البريطانيين من أصول عربية، فإنه حراك أبعد ما يكون عن "اللوبي" أو تكوين الجبهة أو التوجه المشترك، وبقدر خلافات العرب في بلدانهم بين الملل والطوائف الدينية والانتماءات القومية والنعرات الوطنية والخلافات السياسية حول من له حق الحكم ومن عليه الرضا بمقاعد المتفرجين في أنظمتهم الأم، بقدر خلافاتهم في الداخل البريطاني، فالبريطانيون من أصول عربية، لا سيما أبناء الجيل الثاني والثالث وما بعدهما، على يقين من أن التطابق السياسي والاستنساخ الطائفي والتماثل الأيديولوجي ليست طرق تحقيق المطالب المتعلقة بالحياة اليومية في بلدهم الثاني بريطانيا، أو حتى السبيل إلى تحسين سياستها الخارجية تجاه بلدانهم الأصلية.
من جهة أخرى، يبقى الخلط واضحاً والمزج قائماً بين كل ما هو إسلامي وعربي، فالمسلم بالضرورة عربي أو يميل إلى العربي، والعربي بشكل أو بآخر مسلم أو يتعلق بكل ما هو مسلم، ويبدو أن الأجيال الجديدة من البريطانيين العرب لا تلتزم بهذه الثنائيات.
أول مسلم
"أول عمدة مسلم" و"أول وزير مسلم" وحتى لو "أول زعيم حزب مسلم" أو "أول رئيس وزراء مسلم" جميعها مسميات تدل على التغيرات الكبرى التي خاضها المجتمع البريطاني، وهي تغيرات تثير الفخر وتحرك الفرحة في كثير من الدول ذات الأغلبية المسلمة من باب رفعة الدين وقوة المسلمين، أما الفخر العربي فيبقى حبيس بعض القلوب وأسير عدد من العقول، لا سيما أن وجود وزير أو عمدة أو عضو مجلس مدينة عربي لم يغير كثيراً في السياسة الخارجية أو يرجح كفة فئة من المواطنين على أخرى أو ينبئ بتقارب بين ثقافتين.
الأستاذ في جامعة "وستمينستر" البريطانية ولاء بكري، وهو من أصل مصري، يقول إن "نسبة معقولة من العرب في بريطانيا، لا سيما المعروفين في مجالات تخصصهم مثل الاقتصاد والفن وغيرهما، يكونون حاصلين على مؤهلات تعليمية جيدة جداً ومندمجين في الثقافة البريطانية إلى حد كبير، لكنهم ليسوا بالضرورة مدعاة للفخر، لأنهم عادة يتبنون قضايا محلية أو مهنية بالدرجة الأولى، وأحياناً يتبنون قضايا الحريات بشكل عام، ولهذا علاقة بانخفاض سقف الحريات في البلد الأم".
ويشير إلى تفاخر العرب غالباً بهذه النماذج الناجحة على اعتبار أنها لم تكن لتحقق هذا القدر من النجاح لو ظلت في بلدانها الأم، لكن الطريف والمثير في آن أن نسبة كبيرة من البريطانيين تعتقد أن ناظم زهاوي من أصول باكستانية أو هندية، ومن جهة أخرى ينقب كثيرون في هذه الآونة عن كلمات سابقة لزهاوي جميعها تؤكد رجاحة عقل جونسون وجودة قراراته وحكمة إجراءاته وصدق تصريحاته.