يصل الرئيس الأميركي جو بايدن، الجمعة 15 يوليو (تموز)، إلى مدينة جدة السعودية ليطوي صفحة من التوتر غير المسبوق بين الولايات المتحدة وأكبر حلفائها في الخليج، إلا أن رمزية زيارة سيد البيت الأبيض تمهد لشكل جديد للعلاقة السعودية - الأميركية، يضع حداً لنموذج "النفط مقابل الأمن"، فيما تجدد الرياض دماءها، وتنفتح على رؤى أشمل للنمو في منطقة ملتهبة.
الدعوة إلى نبذ الانطباع الذي يقتصر أهمية العلاقة بين الرياض وواشنطن على النفط والسلاح، جددتها السفيرة السعودية لدى واشنطن الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان بإعلانها موت نموذج "النفط مقابل الأمن"، داعية إلى إعادة تعريف أركان التحالف المهم بين الرياض وواشنطن، الممتد طيلة نحو 80 عاماً، شهدت وفق السفيرة، تعاون البلدين لهزيمة الشيوعية، وتأمين إمدادات الطاقة العالمية، واحتواء "إيران الثورية"، ومواجهة غزو صدام حسين للكويت، وأخيراً، تدمير تنظيمي "القاعدة" و"داعش".
إعادة تعريف العلاقة
وفيما يواصل الرئيس بايدن جولته الشرق أوسطية التي اعترف في محطتها الأولى بخطأ الابتعاد عن المنطقة، أكدت السفيرة السعودية في مقال، يوم الخميس، نشر في موقع "بوليتيكو" أهمية أن تواكب العلاقة الأميركية - السعودية نمو بلادها وتتطور تمهيداً لشراكة تتمحور حول الطاقة والاستقرار والنمو الإقليمي، مشيرة في هذا السياق إلى "محورية" زيارة بايدن إلى جدة.
وكتبت الأميرة ريما بنت بندر التي أصبحت أول سفيرة في تاريخ بلادها عام 2019، "لقد ولت منذ زمن طويل الأيام التي كان يمكن فيها تحديد العلاقة الأميركية - السعودية واختزالها من خلال نموذج النفط مقابل الأمن الذي عفا عليه الزمن"، لافتة إلى صعوبة حل المخاطر الوجودية التي تواجه البلدين بما في ذلك أمن الغذاء، والطاقة، وتغير المناخ، من دون تحالف أميركي - سعودي فعال. وقالت، "يجب أن توجّه هذه الأولويات الشراكة الأميركية - السعودية في القرن الـ21، ونحن نعتبر زيارة الرئيس بايدن لحظة مهمة لوضع رؤيتنا المشتركة لكيفية مواجهة التحديات التي تنتظرنا".
وقالت السفيرة السعودية إن بلادها اليوم "بالكاد يمكن التعرف عليها من الشكل الذي كانت عليه في السابق، حتى قبل خمس سنوات فقط"، مشيرة إلى أن الرياض اليوم لا تقود في مجال الطاقة، ولكن تقود أيضاً في الاستثمار والتنمية المستدامة، حيث ضخّت مئات المليارات من الدولارات للاستثمار في التعليم والتكنولوجيا والتنويع الاقتصادي والطاقة الخضراء، لافتة إلى جهود بلادها في إرساء التنوع، بقولها، "نحن نشجع التسامح والحوار بين الأديان لتحقيق استقرار أكبر في المنطقة، ونعمل على تطوير رؤية للازدهار الاقتصادي المشترك كبديل للصراع".
وأكدت الأميرة ريما أن السعودية تتصور مستقبلاً لا تتورط فيه المنطقة في الصراع، بل تركز على التعاون الاقتصادي الإقليمي والتنمية الاجتماعية والمشاريع العالمية التي تعود بالفوائد على الجميع. وقالت، "نريد أن تكون الولايات المتحدة جزءاً من هذا المستقبل، تماماً كما كانت جزءاً من بناء دولتنا قبل ثمانية عقود"، داعية البلدين إلى "مواجهة المجهول بثقة". وتابعت، "علينا التصدي لأكبر التحديات الحديثة من الأوبئة القاتلة وانعدام الأمن الغذائي إلى التحول المسؤول إلى مصادر الطاقة المتجددة، بنفس حماسنا الذي وظّفناه لاحتواء العدوان الشيوعي ذات مرة وتهديدات إنتاج الطاقة العالمي".
الاحترام المتبادل هو المفتاح
وفيما سلطت مقالة السفيرة السعودية الضوء على الانطباع العام بأن العلاقة الثنائية بين الرياض وواشنطن تنبني على بعد واحد هو النفط والسلاح فقط، فإنها أيضاً نادت بنبذ هذا الانطباع المتشكل في إطار نموذج "النفط مقابل الأمن"، خصوصاً أن السعودية تسعى إلى استغلال إمكاناتها الاقتصادية لتمويل يتيح فرصاً كبيرة للقطاع الخاص عصب الولايات المتحدة، فضلاً عن أن التبادل التجاري ما بين السعودية وأميركا يدعم 165 ألف وظيفة أميركية سنوياً، إضافة إلى آلاف الوظائف في السعودية، وفق المتحدث الرسمي للسفارة السعودية في واشنطن فهد ناظر.
من جانبه، قال الباحث الأميركي في المجلس الأطلسي بول سوليفان، إن هناك كثيراً من الفرص الاستثمارية أمام الولايات المتحدة التي تشكلت نتيجة الرغبة السعودية في تنويع اقتصادها من خلال الاستثمار في الصناعات غير النفطية، كما توجد فرص لزيادة الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة تتجاوز مجال الطاقة. أضاف، "تقدم السياحة والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات والتعليم والتدريب وغير ذلك فرصاً رائعة، كما قد تكون التحركات السعودية نحو حماية البيئة فرصة لمشاريع مشتركة واستثمارات أخرى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأقر سوليفان في حديثه إلى "اندبندنت عربية" بالاختلافات الكبيرة بين الثقافتين السعودية والأميركية، إلا أنه توقع تحقيق تقدم في مجال التبادل الثقافي وغيره مع تولي الأشخاص المناسبين من كلا الجانبين القيادة بحساسية وتفهم، لافتاً إلى إكمال الآلاف من السعوديين تعليمهم الجامعي في الولايات المتحدة، وأثر ذلك على السعودية على المدى الطويل. كما تحدّث عن قوة العلاقات العسكرية بين البلدين، وقال، "إن الولايات المتحدة تدرب عديداً من الضباط السعوديين في الجيش، وقد قمت بتدريس عديد من الجنرالات السعوديين على مر السنين". وأضاف، "هناك فرص هائلة لسد الفجوات والاختلافات، ويجب أن يساهم كلا الجانبين في ذلك مع مراعاة بعض المواضيع الحساسة"، لافتاً إلى أن "الاحترام المتبادل هو المفتاح في التبادل الثقافي كما هو الحال في الأعمال التجارية والتعليم".
وعما إذا كان بمقدور إدارة بايدن استعادة قوة العلاقات مع السعودية، قال، "لدينا تاريخ طويل من العلاقات القوية التي صمدت في أوقات صعبة للغاية"، لكنه لا يبالغ في التفاؤل أو التشاؤم، مشدداً على أن "إدارة التوقعات ستكون مهمة لكلا البلدين، وأن البناء يستغرق وقتاً". وأضاف، "العلاقات الدولية مبنية على المصالح لا الصداقات والولايات المتحدة والسعودية بحاجة للعمل معاً لتحقيق مصالحهما المشتركة".
استراتيجية ردع إقليمية
وفيما تبدو فرص المستقبل ضخمة، إلا أنها لا تحجب التحديات الكبيرة التي تواجه البلدين اليوم، خصوصاً الأمنية منها كالملف الإيراني، والاستراتيجية المتعلقة بموقع الولايات المتحدة ودورها في المنطقة التي تحاول الصين وروسيا لعب دور أكبر فيها، ولذلك يدعو الباحث في الشأن الإيراني جيسون برودسكي الولايات المتحدة إلى استثمار علاقتها مع السعودية لمواجهة النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط، والعمل مع حلفائها وشركائها على صياغة استراتيجية ردع إقليمية لمواجهة إيران.
وقال برودسكي في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن الرئيس بايدن اتخذ قراراً صائباً بزيارة السعودية، مشيراً إلى أن خصوم الولايات المتحدة مثل الصين وروسيا تحاولان لعب دور أكبر في الشرق الأوسط، وفقط من خلال إعادة ضبط العلاقة مع السعودية، ستكون واشنطن قادرة على مواجهة كليهما".
وشدد على أن زيارة بايدن إلى الشرق الأوسط يجب أن تتمحور حول "صياغة استراتيجية ردع إقليمية" يعتبرها ضرورية، سواء كان التهديد الإيراني نووياً أو غير نووي، وسواء نجحت مفاوضات إحياء الاتفاق النووي مع طهران أو فشلت. وتابع، "يمكن لنظام دفاع جوي وصاروخي إقليمي متكامل أن يقطع شوطاً طويلاً في هذا الاتجاه، ويحدث فرقاً حاسماً".
ما يحتاجه بايدن والخليج
من جانبه، ردَّ فراس مقصد، الباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، على تساؤلات طرحها من قبيل "لمَ يزُر الرئيس بايدن السعودية، وما الذي يمكن أن تقدم له؟"، بالنظر إلى أنها لم "تستطع المساعدة كثيراً في خفض أسعار النفط، ووسعت علاقتها مع الصين وروسيا، وتقاوم الاتفاق مع إسرائيل"، بقوله إن "هناك عوائد ملموسة يتوقعها بايدن من الزيارة"، ولكن من المهم أولاً النظر إلى جولته الشرق أوسطية من "منظور عالمي".
وكتب مقصد أن "الهجوم الروسي على أوكرانيا أدى إلى زيادة المنافسة بين القوى العظمى، وكجزء من جهود إدارته لتنشيط التحالفات والشراكات الأميركية حول العالم، سافر الرئيس بايدن إلى آسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا هذا العام، ومن الطبيعي أن يذهب الشرق الأوسط أيضاً، كونه جزءاً من العالم وما زال مهماً لمصالح الأمن القومي للولايات المتحدة والاقتصاد العالمي. وهنا لا يمكن تجاهل السعودية بموقعها الجغرافي الاستراتيجي، ومواردها الطبيعية الوفيرة، وتأثيرها بين البلدان العربية وذات الأغلبية المسلمة".
وقال في مقال نشر في "فورين بوليسي"، "في حين أن السعودية ودول الخليج العربي الأخرى غير راغبة، بل يمكن القول إنها غير قادرة على قطع علاقاتها مع روسيا والصين، بسبب الواقع الاقتصادي والسياسي، فإن هناك طرقاً أكثر سرية، لكنها ملموسة، يمكن لهذه الدول من خلالها مساعدة الولايات المتحدة لتأكيد تفوقها العالمي". وتابع، "يمكن للسعودية الاستفادة من العائدات الكبيرة التي حققتها من بيع النفط إلى الصين لمساعدة بايدن ومجموعة الدول السبع الكبرى في جهودهم لمواجهة التعديات الاقتصادية الصينية في أماكن أخرى، سواء في أفريقيا أو آسيا الوسطى أو المحيطين الهندي والهادئ، كما يمكن للاستثمارات الخليجية واسعة النطاق في مشاريع التنمية والبنية التحتية أن تتحدى جهود الصين لتحقيق الهيمنة العالمية من خلال مبادرة الحزام والطريق".
وأشار الباحث إلى قدرة السعودية في لعب دور مهم في حملة إدارة بايدن لتعزيز التحول إلى الطاقة النظيفة في الداخل والخارج، لافتاً إلى أن الرياض تعهدت بتوليد نصف احتياجاتها من الطاقة من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، وأطلقت مبادرة ضخمة لزراعة الأشجار بهدف أن تصبح محايدة للكربون. وأضاف، "في غضون ذلك، وحتى لا يصبح النفط جزءاً مهيمناً من مزيج الطاقة العالمي، يمكن للسعودية أن تساعد في تطوير قدراتها التكريرية لخفض الأسعار، إلا أن ذلك سوف يستغرق وقتاً".
لكن لهذه المقترحات ثمن، وفق الباحث، إذ إن السعودية ودول الخليج لديها مطالبها الخاصة، إذ "يتوقعون ضمانات من الولايات المتحدة إذا تعرضت مدنهم ومنشآتهم النفطية لهجوم من قبل إيران أو وكلائها الإقليميين، ويريدون تأكيدات بأنه يمكنهم شراء الأسلحة الأميركية التي يحتاجونها للدفاع عن أنفسهم بدلاً من الاضطرار إلى تأمينها من روسيا والصين"، مشيراً إلى أن دول الخليج ستطلب من الولايات المتحدة تكثيف تبادل المعلومات الاستخباراتية، والحظر البحري للأسلحة الإيرانية المتجهة إلى الحوثيين في اليمن.
واعتبر مقصد أنه من الصعب تقديم هذه المطالب لرئيس يشعر شعبه بالقلق من تدخل أكبر للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لكنها تستحق النظر إذا كان مصمماً على تحدي المغامرة الروسية، والصعود الاقتصادي الصيني، إذ يمكنه القيام بذلك عن طريق الحفاظ على هذه المنطقة الاستراتيجية ومواردها وممراتها المائية بثبات من خلال القدرات الأميركية.