من المظاهر الاستثنائية التي تشهدها السياسة البريطانية تلك المسرحية الهزلية وبطلها الأشقر منفوش الشعر بوريس جونسون الذي ما زال بعد انهيار حكومته وتقديم استقالته من رئاسة حزب المحافظين يتشبث بـ "10داونينغ ستريت"، المقر الرسمي لرئيس الوزراء البريطاني، فهل هو إصرار على التمسك بما سماه في خطاب استقالته "أفضل وظيفة في العالم".
حتى إعلان الاستقالة الذي جاء بعد الانهيار غير المسبوق في تاريخ الحكومات البريطانية عبر الاستقالات الجماعية لقرابة الـ 30 من أعضاء حكومته، جاء مزيجاً من الخروج من قيادة المحافظين والبقاء رئيساً للوزراء، لعقدة طالما راودته بأنه مفوض شخصياً من الشعب البريطاني، ولا يمكنه ترك المنصب حتى يستقر رأي المحافظين على رئيس المقبل للحزب، وهذا لن يتأتى إعلانه إلا في سبتمبر (أيلول) المقبل،
فخلال السنوات الثلاث الماضية وبعد تحقيقه انتصاراً غير مسبوق للمحافظين، أدار جونسون الحكومة البريطانية بحسب حلم الصبا الذي كان يراوده بأن يصير "ملكاً للعالم"، ومارس سلطات مطلقة وبمسحة ملكية، متناسياً أنه صنيعة "ويستمنستر" ونظامها البرلماني العريق، إذ لا يجوز لرئيس الوزراء أن يعمل بعيداً من التشاور مع أعضاء حزبه في مجلس العموم.
ومن الملابسات الظريفة أن جونسون استبدل بقرارات فورية الشواغر التي ظهرت في حكومته عقب الاستقالات الجماعية التي شهدتها الساعات الـ 48 التي سبقت الاستقالة، ورفض فكرة ترك رئاسة الوزراء تحت عناية نائبه دومينيك راب لتصريف الأعمال، لينصرف هو إلى التفكير في مستقبله السياسي.
ويقول كبير الباحثين في الفرع الأوروبي للمركز الأطلسي بن جودا إن الصحافي المثير للجدل جونسون قال ذات مرة إنه "دخل السياسة لإدراكه أن أحداً لن يقوم ببناء تمثال لصحافي، والحقيقة هي أنه لا أحد في بريطانيا سيبني تمثالاً لجونسون، ربما باستثناء تشييد نصب من السخرية"، مضيفاً أن جونسون "سيترك درسين في التاريخ السياسي البريطاني، أولهما الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي الذي يواجه فشلاً متزايداً، وثانيهما درس لرؤساء الوزراء المستقبليين حول كيفية إضاعة أغلبية برلمانية بثمانين مقعد" في زمن قياسي.
ويرى بعض المراقبين ممن أزعجتهم صورة رئيس الوزراء البريطاني أن الرأي العام البريطاني ربما وضعه في سلة مهملات الذاكرة الوطنية، وربما يجد من يصنع له تمثالاً في كييف، العاصمة الأوكرانية التي زارها أكثر بكثير من ناخبيه البريطانيين الذين يعانون الأمرين من أكبر تضخم لم تشهد له بريطانيا مثيلاً منذ 40 عاماً، وهم يرون أن جونسون وجد ضالته في أوكرانيا لتقليد أسلوب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل الذي يعتبره مثله الأعلى.
مخادع وغير أمين
خلال السنوات الثلاث الماضية ظهرت إلى العلن مسلكية تكوين الشخصية عند جونسون الذي كان يسارع حيال كل اتهام له بالنكران، ويتدرج الأمر وصولاً إلى الاعتراف، ولكنه عادة يحمل مساعديه التقصير لعدم تبيان أبعاد الأمر، ويقول الإعلامي الأميركي أندرو نيل الذي تابع عن قرب السياسة البريطانية لزمن طويل، إن جونسون "طوال حياته الخاصة والعامة التي اتسمت بالتوتر، وحياته المهنية الناجحة كصحافي وسياسي كانت تطارده اتهامات بالخداع وعدم الأمانة".
وكان جونسون يتصرف "كما لو أن القواعد لا تنطبق عليه، ويعمد عنوة إلى تجاهل الحقائق إذا ما كانت لا تلائمه، فلا شيء يهمه أكثر من ذاته، ويمكنه التضحية بأي شيء أو أي شخص لمصلحته، مثل الأصدقاء والعائلة والزملاء والحزب والحكومة، ولم يكن أي رئيس وزراء آخر في التاريخ الطويل للديمقراطية البرلمانية البريطانية على استعداد للتضحية بحكم الأمة لإنقاذ نفسه" مثل جونسون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى متابعو السياسة البريطانية أنه لطالما كرر السياسيون من المحافظين مقولة "بوريس هو بوريس"، ومع علمهم بحقيقة السياسي المراوغ التي شكلت شخصيته، إلا أنهم التفوا حوله لأنه حقق لهم الانتصار في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي في 2016، وبعدها بثلاثة أعوام حقق لهم انتصاراً كاسحاً في الانتخابات العامة، لم يحقق منذ انتصار المرأة الحديدة مارغريت تاتشر في 1987.
وخلال السنوات التي عمل فيها عمدة للعاصمة البريطانية أو تلك التي عمل فيها في "10 داونينغ ستريت"، طاولت جونسون سلسلة من الاتهامات بالفساد والمحسوبية، وصولاً إلى "الإخفاق في القيادة"، كما أشار تقرير التحقيق الذي أجرته موظفة الخدمة المدنية البارزة سو غراي، حينما تناولت سماح رئيس الوزراء ومشاركته بإقامة حفلات في مقر الحكومة على الرغم من الإغلاق التام بفعل تفشي جائحة كورونا، واعتبرته غير لائق للمنصب.
ولكن إعلام المحافظين في بريطانيا لم يربط نهاية عهد جونسون بسوء الأداء الاقتصادي، إنما ركز على القضايا الأخلاقية في الإدارة وتجاوز القانون، فيما يرى إعلام اليسار أن بريطانيا نجحت أخيراً في التخلص من كابوس جونسون، وأن من سيحل محله سيصدم بواقع أن جونسون كان أسوأ بكثير مما عرف عنه.
جونسون وفرص المستقبل
ماذا بعد في جعبة جونسون، أكثر السياسيين البريطانيين انتشاراً ونهماً وتعطشاً للسلطة في عصره؟ وبماذا يفكر الآن بعد سيل الهجوم الذي تعرض له في جلسة المساءلة الأخيرة في مجلس العموم، التي على الرغم من اعترافه بحجم التجاوزات التي شهدها عهده إلا أنه قال إنه يغادر المنصب وهو مرفوع الرأس، وهناك من أسهب في مقارنته بشخصية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.
هناك عدد من الأفكار حول ما يمكن أن يقوم به جونسون بعد مغادرته مقر الحكومة البريطانية، خصوصاً وأنه سيحتاج إلى كثير من المال ليصرف على حياته التي لم تعد كما كانت قبل وصوله إلى منصب رئيس الوزراء، فهو معروف عنه التبذير، ولطالما أكثر من الشكوى بأنه مفلس، ولأن الرجل ذي خلفية إعلامية سيكون بوسعه كتابة المقالات والظهور الإعلامي في القنوات الفضائية العالمية، وتأليف الكتب عن تجربته في السلطة التي يمكن أن يحقق من خلالها دخلاً كبيراً، ولكنه لن يكون بوريس الذي عرفه كثيرون، إن هو سلك طريق الإعلام وترك فكرة العودة لرئاسة الوزراء، وربما تراوده أفكار متصلة بعقدة العظمة، مثل أنه الرجل الضرورة والمنقذ الذي سيلجأ إليه قادة حزب المحافظين ويستميحونه عذراً، ويناشدونه العودة لإنقاذ الحزب، فبعد أن تذوق لذة ما سماه "أفضل وظيفة في العالم" لن يقبل الرجل بغيرها، وفي خطابه أمام مقر رئيس الوزراء لم يقر بأخطائه ولم يعتذر، مؤكداً أنه طعن في الظهر وترك الباب موارباً لعودته، وألقى اللوم على حزبه في سقوطه المدوي، ووصف زملاءه في البرلمان كحيوانات في قطيع تحرك ضده.
ولكن من أجل التفكير الجدي في العودة، يرى مراقبون أن سلوك جونسون خلال الفترة المقبلة سيكون ورقة الاختبار الوحيدة للسير في طريق العودة مع ضرورة البقاء عضواً في مجلس العموم للإبقاء على جذوة طموحاته السياسية متقدة، فهل يفعلها جونسون ذو الشعر الأشقر المنفوش الذي لا يزال في مقتبل العمر؟ هل يفعلها ويعيد تسويق نفسه؟ فهو في نظر خبراء السياسة الدولية جزء من حركة الشعبويين السياسية، مثل الترامبية التي ما زالت في صعود على ضفتي الأطلسي، ومن يدري، ربما يفكر جونسون في حال فشل في جهوده السياسية للعودة بقالب حزب المحافظين أن يعيد تشكيل السياسة البريطانية ليقود حركة سياسية جديدة تعيده إلى "10 داوننغ ستريت".