لعل كتاب "متاهات: استطلاعات في التاريخ النقدي للأفكار"، تأليف المؤرخ والمفكر الأميركي ريتشارد وولين Richard Wolin (1952)، ترجمة محمد عناني (المركز القومي للترجمة – القاهرة)، يكتسب أهميته من كونه يؤصل المذاهب السياسية تأصيلاً فكرياً فلسفياً، وهو يعيد النظر في المبادئ التي طرحها المفكرون الأوروبيون، فأدت إلى نشأة الأشكال الشمولية للدولة؛ يمينية كانت أو يسارية. ويعرض للمذاهب الفكرية الحديثة في علاقتها بنظم الحكم وطرائق تقبل الأفكار الجديدة أو رفضها في أطرها الثقافية المختلفة. وهذه جميعاً متاهات بحق، كما يطلق عليها المؤلف في عنوان الكتاب، وهو يؤكد بصورة غير مباشرة هذا المعنى؛ لأنه - بحسب عناني- دائماً ما يترك بعض الأسئلة من دون إجابات، ليحفز القارئ على التفكير والشروع في حوار صامت مع ما يقرأ.
وريتشارد وولين (1961) متخصص في تاريخ الفكر الغربي الحديث، وعلاقته بالنطم الديكتاتورية والحركات السياسية من أقصى اليمين وأقصى اليسار. وهذا الكتاب يتوسط كتابيه "مقولات النقد الثقافي" 1992، و"غواية اللامعقول" 2004، وقد سبق أن ترجمهما محمد عنانني إلى العربية. وكتاب "متاهات" نشر في 1995، وهو يزخر - كما يلحظ المترجم – بهجوم المؤلف على النازية وعلى كل من ساندها بفكره ولو بصورة غير مباشرة، وعلى كل من امتنع عن إدانتها، مستنداً إلى الفكر الأوروبي (الألماني دائماً والفرنسي أحياناً). وهو محق بلا جدال، كما يقول عناني، في إدانته للنازية باعتبارها نظاماً شمولياً أصاب العالم بشرور ومآس كثيرة. ولكنه بحسب ملاحظة المترجم أيضاً، "يركز تركيزاً مبالغاً فيه على المحرقة اليهودية، ماراً مرور الكرام على غير النازية من نظم شمولية، فإن أشار إلى العمل بالسخرة في القولاق في الإتحاد السوفييتي السابق، فهي إشارة عابرة سرعان ما ينساها القارئ وسط زخم حجج المؤلف الفلسفية وثراء مادته العلمية".
حروب ثقافية وأخطار يسارية
جاءت ترجمة هذا الكتاب في 476 صفحة من القطع الكبير، واشتملت على كلمة المترجم، ومقدمة المؤلف، وبابين تضمنا 12 فصلاً. حمل الفصل الأول عنوان "الحروب الثقافية: إعادة النظر في الخلاف بين الحداثية وما بعد الحداثية"، والثاني "السياسات الثقافية للمحافظين الجدد"، والثالث "تأملات في المسيانية العلمانية اليهودية"،، والرابع "فالتر بنيامين اليوم"، والخامس "التفكير من خلال الماضي: هابرماس ومناظرة المؤرخين الألمان". ويبدأ الباب الثاني من الفصل السادس "كارل شميت: الثورة المحافظة وجماليات الرعب"، وحمل الفصل السابع عنوان "تجاوز الخط الفاصل... تأملات في فكر مارتن هايدغر والاشتراكية القومية"، والفصل الثامن "معارك هايدعر الفرنسية"، والتاسع "الديموقراطية والجانب السياسي في فكر حنة أرندت"، والعاشر "مناهضة المذهب الإنساني في خطاب النظرية الفرنسية بعد الحرب"، والحادي عشر "التفكيكية في أوشفيتز: هايدغر ودي مان والتنقيحية الجديدة". وتضمن الفصل الأخير خاتمة بعنوان "نظرات دريدا في ماركس أو أخطار الهايديغرية اليسارية".
يقول المؤلف في "التصدير" إنه سعى للجمع بين عدد من القضايا التي أثارت مناظرات فكرية حامية، مثل الأساس الأيديولوجي لما بعد الحداثية modernism والخلاف حول هايدغر، وفضيحة دي مان، وهي جميعاً من القضايا التي يعتبرها مرتبطة فكرياً، على الرغم من أن مستوى النزاع كان يؤدي في حالات كثيرة إلى التسبب في عدم وضوح المسائل الجوهرية العميقة التي تكمن خلف هذه المناظرات. ومن القضايا المطروحة ترجمة المواقف النظرية واستقبالها في أميركا الشمالية، وهي المواقف التي عبَّر عنها أصحابها أول الأمر في جو أوروبي بالغ الاختلاف (وهو فرنسي ألماني إن شئتَ الدقة، كما يقول المؤلف)، مشيراً إلى أنه يرمي إلى توسيع وتعميق مجموعة الافتراضات التقليدية عن حالات التداخل المعقد ما بين الأفكار والتاريخ والحياة السياسية.
وهو مسعى يتطلب - كما يقول وولين - الحفاظ على الانتباه إلى الشبكة المنوَّعة من مستويات الخطاب، الأخلاقية والاجتماعية والفلسفية والقومية والتاريخية. والواقع أن هذه المستويات – بحسب المؤلف - كثيراً ما تتعرض لفصل بعضها عن بعض، وهي ظاهرة يساعد عليها تقسيم العمل في الدوائر الأكاديمية. ولكنها تجعل من العسير إدراك الروابط في ما بينها، وهي روابط لا غنى عنها في التقدير الصحيح لتأثير الأفكار في السياسة. وتعالج فصول الكتاب موضوعات مترابطة من جوانب عدة ، على الرغم من أنها كتبت لسياقات ومناسبات مختلفة. إنها تثير قضية أصول الخطاب النظري المعاصر ورحلاته، وخصوصاً الصور التي استولى بها المفكرون الفرنسيون في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على تراث فكري ألماني معيَّن كان يتمتع في شرخ شبابه بعلاقات معيَّنة بالفاشية، وأضفوا عليه القداسة، إن صح هذا التعبير (ونعني به – يقول المؤلف - الرابطة التي تجمع بين نيتشه وهايدغر وكارل شميت، وهي التي لا يمكن ولا ينبغي اختزالها في مظاهر ميولها السياسية، وهو ما لا يحتاج إلى بيان).
ومن المفارقات الصارخة في تلقي السلالة الفرنسية الألمانية في أميركا، أن بعض النصوص التي تعتبر هامشية (لدريدا وغيره) أصبحت تعتبر نصوصاً رئيسة، وسرعان ما اكتسبت مكانة أيقونية. والواقع أن هذه النصوص وما تفرضه من مناهح، كانت تحظى في أحوال بالغة الكثرة، بالتقديس أكثر من احتضانها نقدياً، حتى إن أنصارها كانوا يرون أن الطعن في فرضياتها الأساسية المسبقة، ضربٌ من الهرطقة، وهو ما اكتشفه المؤلف في مناظرة مع دريدا. وحين جرى كشف ماضي هايدغر النازي، ظل تفسير كتاباته – كما ئؤكد وولين - يعتمد على إخراجها من سياقها، وقراءتها قراءة نصية، ما أدى إلى اكتشاف الجوانب السياسية الواضحة لفكره، وهي التي كان الجمهور الألماني يراها بديهية لفترة طويلة من الزمن.
مفارقة عجيبة
أما الفرنسيون المدافعون عن هايدغر، فقد كانوا يواجهون مفارقة عجيبة، إذ كان عليهم أن يثبتوا أن عداء هذا الفيلسوف الألماني للمذهب الإنساني الذي رحبت ما بعد البنيوية باعتناقه أشد الترحيب، لم تكن له علاقة بالنازية، بل وأصبحوا يواجهون تحدياً معارضاً للحدس، ألا وهو إثبات أن عداء هايدغر للمذهب الإنساني قد أرسى أسس انتقاد النازية. وكان عليهم في سعيهم لإثبات ذلك - يقول وولين - أن يقدموا لنا النازيين باعتبارهم أصحاب المذهب الإنساني الحقيقيين، وأن يصوروا الأعداء الفلسفيين لهذا المذهب باعتبارهم الترياق. والحقيقة أن تلك الحركة السياسية لم تكن تتضمن أي عنصر إنساني على الإطلاق، أما تفسير النازية وتِركتها تفسيراً بزعم أنها إنسانية، فهو إما سوء فهم متعمد أو تفسير أيديولوجي أحمق، بتعبير ريتشارد وولين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما دريدا، فيرى وولين أن الصورة التي يفهم بها المجتمع المعاصر، "شبه غيبية"، فهي في تصوره تستند على جوانب معينة من الفكر الماركسي. وهو - أي دريدا - يقدم في كتابه "أشباح ماركس"، مثلما قدم في كتابه "قوة القانون"، مجموعة من الأفكار المانوية المتطرفة، من قبيل أن الوجود يقوم على ثنائية النور والظلمة، أو الخير والشر، وهي فلسفة تجمع بين الغنوصية المسيحية والبوذية والزرادشتية. ويرى وولين كذلك أن دريدا يخضع في كتابه عن ماركس – واتساقاً مع تقاليد الهايديغرية اليسارية – للإغراء المتمثل في اختزال الديموقراطية والليبرالية، أساساً، في أشكال من الحكم الرأسمالي. فهو – أي دريدا – يهاجم الذين "يجدون من الوسائل ما يجعلهم يرفعون رؤوسهم زهواً بضمائر راضية عن الرأسمالية والليبرالية وفضائل الديموقراطية البرلمانية"، كأنما كانت القواعد الفكرية للظواهر الثلاث واحدة في جوهرها.
صراع محتدم
ولكن المبادئ المعيارية لليبرالية والديموقراطية كثيراً ما اشتبكت في صراع محتدم على مر التاريخ مع الرأسمالية؛ لتحقيق أكبر قدر من الربح، كما شهدنا في الحركات العمالية والنسوية والبيئية، بحسب ما يذهب إليه ريتشارد وولين. وأما في الفراغات البينية في شتى هذه المجالات الاجتماعية، المتسمة بتضارب مطالبها المعيارية، فسوف نجد إمكانية الاحتجاج والإصلاح الاجتماعي الذي يستبعده دريدا بسبب الإطار النظري الغيبي الذي يقيمه، بحسب تحليل وولين.
أما حنة ارندت فيرى وولين أنها تحظى بثناء مستحق؛ "باعتبارها تتمتع بأعظم فكر سياسي في القرن العشرين". وقد يكون - يضيف وولين – كتابها عن المذهب الشمولي وحده، الذي لا يزال إلى اليوم من أمهات الكتب، ذا مزايا تكفل لها هذه المكانة. ومع ذلك، فإذا أخذنا في اعتبارنا كتابيها الآخرين اللذين أسهمت بهما في الفلسفة السياسية الحديثة، وهما "حال الإنسان" 1958 و"عن الثورة" 1963 واللذين يعتبران استكمالاً لدراستها الأولى، فسوف يتضح لنا مدى عظمة التركة الفكرية التي خلَّفتها. وربما – يقول وولين – استطعنا أن نقول الشيء نفسه عن ليو شتراوس، كما تخطر لنا أسماء أخرى مثل غرامشي وكارل شميت وإيك فوغلين ومايكل أوكشوت، ولكننا ن نجد بعد ذلك بسهولة أسماء مفكرين سياسيين يتمتعون بعلو القامة مثلها. ويرى وولين أن كتاب "أصول الشمولية" 1951 يتصف بأهمية أساسية في التطورات اللاحقة في الفكر السياسي عند أرندت، فهي تحدد فيه المشكلة التي ظلت تشغلها في جميع أعمالها التالية: ألا وهي التهديد المفزع للحرية الإنسانية الذي يتمثل في الأشكال الحديثة للحكم السياسي.
وعلى الرغم من عمق فهم أرندت للحكم الشمولي فإنه لم يكن خالياً من العيوب، فنحن – يقول وولين - نرى الآن، أن محاولتها تصوير الشمولية باعتبارها الذروة المنطقية للحداثة السياسية – لا باعتبارها تطرفاً رهيباً – تعتمد في ما يبدو على الفلسفة الغائية اعتماداً مبالغاً فيه. وتختلف أرندت عن هايدغر، من وجهة نظر وولين، في أنها تعتبر الأصالة الشخصية مرتبطة بالضرورة بالمجال العام، وهو المعادل السياسي للساحة المفتوحة عند هايدغر، والطغيان يصادر هذه الساحة، وهو لذلك مرفوض.