شهدت الجلسة الأخيرة لمجلس النواب اللبناني، فوز سبعة نواب بالتزكية بحصة البرلمان في عضوية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وهم جميل السيد، عبد الكريم كبارة، فيصل الصايغ، أغوب بقرادونيان، جورج عطاالله، عماد الحوت، وطوني فرنجية.
ويأتي اختيار هؤلاء قبل الذكرى السنوية الثانية لانفجار مرفأ بيروت الذي جرى في الرابع من أغسطس (آب) 2020، وفي ظل تعليق عمل المحقق العدلي طارق البيطار بسبب "دعاوى المخاصمة" التي رفعتها مجموعة من النواب والوزراء المتهمين بحجة عدم صلاحية القاضي في ملاحقتهم. ولكن سرعان ما تقدم نائب كتلة "اللقاء الديمقراطي" فيصل الصايغ باستقالته من عضوية المجلس الأعلى. من هنا، جاءت القراءة التحليلية لتزكية البرلمان لهؤلاء النواب السبعة الذين ينتمون إلى الكتل السياسية التي أدت في السابق للوصول إلى نصاب الـ65 نائباً (من أصل 128) الذين أمنوا انتخاب رئيس البرلمان نبيه بري ونائبه إلياس بو صعب في مستهل عمل البرلمان الجديد.
"لهذه الأسباب استقلت"
وكانت لافتة استقالة النائب فيصل الصايغ الذي أكد عبر "اندبندنت عربية"، وجود توجه سابق لدى كتلة "اللقاء الديمقراطي" (التي يرأسها تيمور جنبلاط نجل النائب السابق وليد جنبلاط) للاستقالة من عضوية المجلس الأعلى منذ الفترة اللاحقة لانفجار المرفأ والجدل الذي رافق الجهة الصالحة للنظر بالملف قضائياً، مضيفاً أنه لم يقدم الاستقالة في ظل البرلمان السابق كي لا يُتهم بممارسة الشعبوية. وأوضح الصائغ أن أحد زملائه النواب قام بترشيحه لعضوية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، بانتظار ترشيحات أخرى، لكن المفاجأة كانت أن عدد المرشحين أتى مطابقاً لعدد الأعضاء المطلوبين، مضيفاً أنه اندفع للاستقالة بعد "غياب فرقاء سياسيين أساسيين عن عضوية المجلس الأعلى". ينوّه الصايغ أنه "في حال تشكل المجلس مستقبلاً، سيكون للقاضي الذي سيرأسه صلاحية انتداب واحد من النواب الردفاء الثلاث ليحل محلي"، متسائلاً: "كيف سيتشكل الفريق القضائي للمجلس الأعلى، المؤلَف من 8 قضاة في ظل شغور المراكز القضائية العليا".
وعبّر الصايغ عن تحفظ "اللقاء الديمقراطي" و"الحزب التقدمي الإشتراكي" (يرأسه وليد جنبلاط) على "وجود قضاء استثنائي في لبنان، ووجود جهات قضائية مختلفة لملاحقة أشخاص محددين"، داعياً إلى "محاكمة جميع اللبنانيين أمام القضاء العادي". كما انتقد "الآليات المعقدة لعمل هذا المجلس، الذي يُعتبر بمثابة محكمة، والتي تحول دون إمكانية ملاحقة اتهام ومحاكمة أي شخص، فتصبح جهة تحمي فئات من الناس من تطبيق القانون"، مطالباً بتعديل دستوري لتطوير آليات الملاحقة و"إلا لا حاجة لوجود هذا المجلس الذي قد يتحول إلى لزوم ما لا يلزم".
من جهته، غرد النائب جميل السيد، عبر حسابه على "تويتر"، "المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤوساء والوزراء؟ هو محكمة عليا مؤلفة بموجب الدستور لمحاكمة رؤساء أو وزراء يتهمهم مجلس النواب بارتكاب جرائم مرتبطة بوظيفتهم، ومنذ إنشاء تلك المحكمة لم يتهم مجلس النواب أحداً"، مضيفاً "بلبنان القانون عالضعيف، ولما تشوف رئيس أو وزير عم يتحاكم، فيك تقول صار عندنا دولة".
تكوين المجلس وصلاحيته
و نصّ الدستور اللبناني على إنشاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وحسب المادة 80 منه يتألف من 7 نواب و8 من أرفع القضاة اللبنانيين، بحسب درجات التسلسل القضائي أو باعتبار الأقدمية إذا تساوت درجاتهم. كما جاءت المادة 71 من الدستور لتشير إلى أن آلية الاتهام تحتاج إلى أكثرية الثلثين، الأمر الذي يجعلها معطَلة إلى حد بعيد، إذ تقول "لمجلس النواب أن يتهم رئيس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم ولا يجوز أن يصدر قرار الاتهام إلا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس. ويحدد قانون خاص شروط مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية".
يتضح أن هناك إشكالية حقيقية، ليس فقط في البنية المختلطة للمجلس حيث يتكون من نواب وقضاة، وإنما في الأغلبية المطلوبة لقرار الاتهام الذي يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات في معرض ملف تفجير المرفأ، والجهة الصالحة لملاحقة رئيس وزراء ووزراء سابقين، وكذلك النواب، ناهيك عن الموظفين العموميين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حدود الحصانة والصلاحية
وتشعبت الملاحقات في ملف تفجير مرفأ بيروت، وتقسمت على ثلاث فئات تملك شكلاً من أشكال الحصانة التي تتفاوت درجتها ومرونتها، وهي رئيس الوزراء والوزراء، ثم النواب، ثم والموظفون العموميون. ويقود اختلاف الموقع إلى فتح باب المناقشة حول حدود حصانة المتهمين تجاه التشريعات والقضاء العادي، ومن ثم تحديد الجهة الصالحة للملاحقة.
في السياق، أكد الخبير الدستوري أمين صليبا أن "الحصانة غير متناهية"، لأنها وجِدت من أجل الوظيفة والموقع كي لا يبقى القائم بها يعيش هاجس الملاحقة من جراء أعماله". وفصّل صليبا أنواع الحصانة، "فحصانة النائب منصوص عليها في المادة 40 من الدستور التي تقول: لا يجوز أثناء دورة الانعقاد اتخاذ إجراءات جزائية نحو أي عضو من أعضاء المجلس أو إلقاء القبض عليه إذا اقترف جرماً جزائياً إلا بإذن المجلس، ما خلا حالة التلبس بالجريمة (الجرم المشهود). وكذلك المواد 89 إلى 98 من النظام الداخلي للمجلس، الذي يؤكد في المادة 89 أن مبدأ الحصانة متعلق بالانتظام العام، كما يشير إلى آلية طلب الإذن بالملاحقة حيث يقدَم بواسطة وزير العدل مرفَقاً بمذكرة من النائب العام لدى محكمة التمييز وتشتمل على نوع الجرم وزمان ومكان ارتكابه وخلاصة عن الأدلة التي تستلزم اتخاذ إجراءات عاجلة وفق المادة 91. كما تؤكد المادة 95 على أن للإذن بالملاحقة مفعولاً حصرياً ولا يسري إلا على الفعل المعين في طلب رفع الحصانة، على أن يعطى الإذن بالأكثرية النسبية للمجلس".
ولفت صليبا إلى أن "حصانة النائب تنتهي بعد خروجه من المجلس. أما بالنسبة للوزير فإن حصانته مستمدة من موقعه في الحكومة، وبالتالي الجرم الذي يرتكبه في معرض صلاحيته الوزارية يمكن ملاحقته به بعد تركه الوزارة ولكن أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. أما بالنسبة لفئة الموظفين العموميين فإن الموظف العام يلاحق أمام القضاء الجزائي بعد تركه الوظيفة حيث تسقط الحصانة. وزاد أنه "يمكن الاستنتاج مما سبق، أنه لا مشكلة في ملاحقة الموظف العمومي فإن حصانته نسبية، ويزداد الأمر صعوبة ودقة كلما اقتربنا من الحقل السياسي حيث تتقدم اعتبارات أخرى إلى ساحة إحقاق الحق".
التفاف على المحقق العدلي
من جهة أخرى، لن يؤدي انتخاب المجلس النيابي حصته من عضوية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء إلى تفعيل تلك الهيئة، بسبب الشغور في المواقع القضائية العليا، وعدم إقرار التعيينات في السلك القضائي. كما استرعى انتباه الجهات الحقوقية أن النواب الأعضاء المختارين بأغلبهم، ليسوا من رجال القانون أو المحامين، إذ تقدم عامل التوزيع السياسي في عملية اختيارهم.
واعتبر القاضي نبيل صاري (عضو الهيئة العامة لمحكمة التمييز سابقاً) أن "إزاحة قاضي التحقيق في تفجير المرفأ طارق البيطار ستؤدي إلى فضيحة كبيرة، ولا إمكانية لتنحيته عن منصبه قانوناً، لذلك قد يكون تشكيل المجلس الأعلى مخرجاً تعتمده الأحزاب من خلال إعلان صلاحية ذلك المجلس للنظر في ملاحقة الوزراء، فيما يكمل المحقق العدلي ملاحقته لباقي المدعى عليهم". ولحظ صاري "كيف تمت مراعاة القسمة السياسية في توزيع الأعضاء الذين تم تعيينهم".
وتخوف صاري من "محاولة تمييع قضية تفجير المرفأ"، لافتاً إلى أن "هناك أناساً موقوفين منذ فترة طويلة دون محاكمة، ولا يجوز الاستمرار في ذلك من دون مسوغ قانوني".
ووصف صاري المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بـ"المجلس الصوري" الذي لم يلاحق في تاريخه أي قضية، مرجحاً "ألا نتجه في المرحلة المقبلة إلى استبدال المحقق العدلي الحالي بآخر، لأن أي محقق عدلي جديد سيتبع نفس خطوات البيطار وفق منطوق القانون"، معبراً عن تأسفه لأن "لبنان وصل إلى مرحلة التحلل في كافة المرافق".