يكابد آلاف التونسيين خلال هذه الفترة من أجل الظفر بكيسين فقط من السكر المدعم وقارورة زيت نباتي مدعمة من محال التجارة، وسط نقص فادح في عدد من المواد الاستهلاكية الأساسية الموجهة للأسر التونسية.
وتشهد مختلف المدن التونسية منذ مطلع العام الحالي أزمة نقص المواد الاستهلاكية الأساسية وخصوصاً الزيت النباتي والسكر، وبدرجة أقل الشاي والقهوة، تجلت من خلال عدم توفير هذه المواد بصفة عادية ومتواصلة، إذ تشهد عملية التوزيع نسقاً متقطعاً يصل إلى أسابيع عدة.
وشجعت هذه الوضعية على تسجيل ممارسات احتكارية ومضاربات بإخفاء عدد من التجار وأصحاب المخازن منتجات السكر والزيت وترويجها بأسعار مضاعفة ووضعها على ذمة المطاعم والمقاهي.
ومن مظاهر تعمق أزمة المواد الاستهلاكية في تونس فرض التجار قارورة زيت نباتي واحدة وكيسين من السكر العائلي كحد أقصى لكل مواطن.
رحلات مضنية وارتباكات
تروي فاطمة الورغي، عاملة في مصنع، رحلتها المضنية والشاقة يومياً للظفر بقارورة زيت مدعم أو كيس من السكر في عدد من المحال التجارية المنتشرة في ضواحي تونس العاصمة. تقول بامتعاض لـ"اندبندنت عربية" إنها تضطر في بعض الأحيان إلى الحصول على تصريح بالمغادرة لمدة ساعة من المصنع الذي تعمل فيه من أجل البحث في الأماكن القريبة عن الزيت، مؤكدة أن التجار يبيعونه بنحو دينارين (645 سنتاً من الدولار)، وهو ضعف ثمن التسعيرة المحددة.
رحلة بحث هذه السيدة الخمسينية أم الأطفال الثلاثة تتواصل بعد مغادرتها العمل مشياً على الأقدام تحت الشمس الحارقة من أجل الظفر بقارورة زيت نباتي مدعم، لكن معظم المحاولات تبوء بالفشل فتعود أدراجها محبطة من عدم قدرة الدولة على توفير أبسط الاحتياجات لمواطنيها.
من جانبه، أقر لطفي الرياحي رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك (مستقلة) وجود نقص كبير في توفير المواد الاستهلاكية الأساسية، وبخاصة السكر والزيت النباتي لأسابيع عدة، ما أربك نسق التزويد العادي للسوق.
واتهم ما وصفه بـ"لوبيات الفساد والمضاربين" بإشعال السوق عبر تعمدهم إخفاء المنتجات والمضاربة بها بأسعار جد مرتفعة لا يقدر عليها المواطن البسيط، وترويجها في عدد من القطاعات التجارية المستعدة لدفع أثمان أكبر، شريطة الحصول على هذه المواد الضرورية لتصنيع عدد كبير من المنتجات.
الرياحي دعا الحكومة إلى إرساء استراتيجيات محددة من أجل وقف نزيف العملة الأجنبية في توريد هذه المنتجات عبر التخطيط للاكتفاء الذاتي من السكر، واتخاذ إجراءات لمساندة القدرة الشرائية المهترئة للتونسيين وسط موجة الغلاء الكبيرة التي تجتاح البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأفاد بأن من أهم الحلول تفعيل مقتضيات قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، الذي يحتوي على إجراءات عدة من شأنها تخفيف وطأة الغلاء.
وخلص إلى وجوب مواصلة الحرب بلا هوادة على الاحتكار الذي قال إنه "سرطان ينخر البلاد"، بدعم أجهزة الرقابة للقضاء عليه أو على الأقل التقليل من تأثيراته.
في الطرف المقابل، تواصل وزارة التجارة التونسية بالتعاون مع الجهات الأمنية جهودها من أجل إحكام الرقابة على الأسواق ومحاربة الاحتكار والمضاربة بالمنتجات المدعمة.
يقول ياسر بن خليفة المدير العام للتجارة الداخلية بالوزارة إنه تم منذ يوم 16 يوليو (تموز) اتخاذ إجراءات جديدة تتمثل في ضخ كميات إضافية من السكر العائلي السائب، كما جرى إرجاع نسق تزويد المساحات التجارية والتجار بالمنتج بحساب كيلوغرام واحد فقط لكل مواطن.
وبالنسبة إلى الزيت النباتي المدعم، فقد أقر المسؤول صراحة عدم توافره في تونس، لكنه استدرك أن الوزارة بصدد إبرام عقود مع عدد من المزودين العالمين من إسبانيا وتركيا في ظل الطلب العالمي الكبير على هذا المنتج.
وختم بأن الزيت سيكون متوفراً في مختلف الأسواق وبالتسعيرة المحددة، داعياً المواطنين إلى عدم اللهفة والتدافع من أجل الحصول عليه.
أما السيدة فاطمة الورغي فتقول إنها تتوجه يومياً إلى نحو عشرة محال وزهاء ثلاثة فضاءات تجارية في رحلة شاقة ومضنية من أجل العثور على السكر والزيت النباتي، لكنها تصطدم إما بنفاد المواد منذ الساعات الأولى من الصباح أو عدم توفرها بالمرة.
تستغرب السيدة من وصول البلاد في عام 2022 إلى مرحلة العجز عن توفير المستلزمات الضرورية لعموم المواطنين، لا سيما الفئات الضعيفة ذات الدخل المحدود.
ما لم تفصح عنه الوزارة
من ضمن الأسباب القوية التي أدت إلى تسجيل شح في مواد استهلاكية عدة عزوف وزارة التجارة التونسية عن التطرق إلى الملف المالي لديوان التجارة الحكومي الذي يحتكر توريد السكر والشاي والأرز والقهوة.
بسبب وضعيته المالية الحرجة، أصبحت البنوك والمزودون العالميون يرفضون التعامل مع الديوان التونسي للتجارة. وكشفت وثيقة حكومية حصلت عليها "اندبندنت عربية" بصفة حصرية عن الوضعية المالية الحقيقية للديوان، إذ تظهر الوثيقة أن النتائج المالية لهذا الهيكل أصبحت سلبية في السنوات الأخيرة، بعد أن كان يحقق أرباحاً صافية تقدر بنحو 215 مليون دينار (نحو 70 مليون دولار).
الوثيقة أظهرت أيضاً أن النتائج السلبية تفاقمت نتيجة ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الموردة، وتدهور سعر صرف الدينار أمام الدولار، وتجميد أسعار بيع هذه المواد لفترة طويلة في إطار المحافظة على القدرة الشرائية للمواطن مما جعل أنشطة الديوان أشبه بعملية الدعم المقنع.
يستشف من الوثيقة الحكومية أنه كانت للعوامل السالفة الذكر تأثيرات سلبية على التوازنات المالية للديوان، الذي استنفد منذ سنة 2011 أمواله الذاتية لتصبح سلبية بـ234 مليون دينار (75 مليون دولار) سنة 2021، مع الالتجاء إلى التداين بداية من سنة 2011 لدى الجهاز البنكي بمبلغ قدره 370 مليون دينار (123.3 مليون دولار).
وسجل الديوان بعنوان "توريد وتوزيع المواد الراجعة له" منذ 2010 إلى 2021 خسائر متراكمة وصلت إلى 748 مليون دينار (نحو 250 مليون دولار)، ويتوقع أن تبلغ الخسائر خلال السنة الحالية نحو 500 مليون دينار (166.6 مليون دولار).
وتفاقمت الأزمة المالية للديوان التونسي للتجارة مع ارتفاع الأسعار العالمية منذ 2021 للمواد الموكلة له، وارتفاع تكلفة النقل جراء الأزمة اللوجيستية غير المسبوقة في العالم (تعطل البواخر، وتراكم الحاويات في الموانئ، وامتناع الناقلين البحريين عن توصيل البضاعة)، مقابل محافظة أسعار البيع على المستويات نفسها، بحسب ما أفصحت عنه الوثيقة.
وكشفت الوثيقة الناتجة من جلسة عمل حكومية حضرها أعضاء الحكومة، عن أنه بسبب هذه الوضعية المالية الحرجة تواتر رفض البنوك فتح الاعتمادات البنكية للديوان، واشتراط بعضها توفير ضمان من الدولة. وقد أدى ذلك إلى تأخير كبير في حصول المزودين على هذه الاعتمادات وإخلال الديوان بالشروط التعاقدية معهم، مع تواتر شكاوى المزودين وتحفظاتهم بخصوص التأخير المتكرر، سواء في فتح الاعتمادات أو في المخالصات بعد تسلم البضاعة، علاوة على رفض المزودين تسليم البضاعة قبل حصولهم على الاعتماد الذي انعكس على آجال الشحن، وبالتالي تسجيل تأخير كبير في تسليم البضائع.
وسجلت الوثيقة عزوف عدد من المزودين عن المشاركة في طلبات عروض الديوان، وبروز علامات فقدان المؤسسة سمعتها التي اكتسبتها منذ التأسيس، وثقة المزودين التي تعتبر عاملاً أساساً في التجارة العالمية.
وخلصت الوثيقة إلى التأكيد على أن كل هذه العوامل باتت تهدد بصفة جدية انتظامية تزويد السوق المحلية بالمواد الأساسية، وتعمق الأزمة المالية للديوان، مما سيفضي بصفة حتمية إلى عدم قبول المزودين التعامل مع الديوان.
وقد يترتب على الوضعية المالية الصعبة للديوان عدم إيفائه بتعهداته التعاقدية بسبب العجز في السيولة وتراكم الخسائر، وبالتالي ارتفاع مخاطر توقف الديوان عن نشاطه، وفقدان المواد الأساسية التي يوردها في الأسواق الداخلية.
يشار إلى تعمق العجز التجاري الغذائي لتونس خلال النصف الأول من السنة الحالية لتبلغ قيمته 1559.7 مليون دينار (503 ملايين دولار)، مقابل 806.9 مليون دينار (260.2 مليون دولار) في يونيو (حزيران) 2021، بحسب ما كشف عنه المرصد الوطني للفلاحة الحكومي.
وفسر المرصد تعمق عجز الميزان التجاري الغذائي بتنامي نسق واردات الحبوب بنسبة 48.6 في المئة، والسكر 141 في المئة، والزيوت النباتية 70 في المئة.
وفي الأثناء، تواصل السيدة فاطمة رحلتها المضنية والشاقة من أجل الحصول على قارورة واحدة من الزيت النباتي وكيسين من السكر العائلي، ووقوفها عاجزة عن تأمين مستلزمات كانت تبدو جد بسيطة قبل سنوات خلت.