لا يزال الغموض يلف قضية السفينة السورية "لوديسا" التي ترسو منذ 27 يوليو (تموز) في ميناء طرابلس، بعد إصدار النائب العام التمييزي قراراً قضائياً قضى باحتجازها مدة 72 ساعة، بدفع من السفارة الأوكرانية التي استحصلت على القرار، بناءً على اتهامات كييف أن مخزون السفينة ينقل قمحاً مسروقاً من مخازن أوكرانية استولت عليها روسيا. وقد سبق أن أصدر القضاء الأوكراني قراراً بحجز السفينة، كمطالبة بحفظ حقوقهم بها، كونها تنقل القمح المنهوب من أوكرانيا، وجرى تصديرها من ميناء "فيودوسيا" في شبه جزيرة القرم على البحر الأسود، علماً بأن روسيا، عبر سفارتها في لبنان، نفت أي علم أو ارتباط لها بهذه السفينة.
وفي وقت يتحفظ المسؤولون الأمنيون والإداريون في المرفأ على الكشف عن أي معطيات حول ظروف السفينة "لوديسا"، وهي واحدة من ثلاث سفن مملوكة من هيئة الموانئ السورية، وقد فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على السفينة، عام 2015، بسبب ارتباطها برئيس النظام السوري بشار الأسد، كشفت المعلومات عن أن السفينة دخلت مرفأ طرابلس (شمال لبنان) بشكل قانوني بعد تقديم علم وخبر من قبل وكيلها القانوني للمرفأ، وحالياً تخضع للتفتيش والتدقيق بمصدر حمولتها من قبل شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، والمديرية العامة للجمارك إضافة إلى متابعة من قبل وزارة الزراعة.
ووفق المعلومات الأولية المتوفرة لدى جهات أمنية في مرفأ طرابلس، فإن التدقيق بالحمولة وشهادات المنشأ يفيد بأن السفينة "لوديسا" تحمل بضائع روسية المصدر، لكن لا يوجد أي دليل حاسم إذا ما كانت مسروقة أم لا. ويشير مصدر مواكب إلى أن قضية معرفة المصدر الحقيقي معقدة كون السفينة آتية من مرفأ دولي، وأن ناقلي البضائع عادة يتخذون كل الإجراءات التي تبعد شبهة السرقة ولا سيما تزوير بلد المنشأ.
ممر للسماسرة
من ناحيته، كشف مصدر دبلوماسي عامل في السفارة الأوكرانية ببيروت، عن أن "هناك سفناً عدة وصلت سابقاً إلى الموانئ اللبنانية أثارت الشكوك، وتابعتها السفارة بدقة ليتبين أنها آتية من شبه جزيرة القرم المحتلة"، مؤكداً أن حمولة السفينة "لوديسا" سرقتها روسيا من المخازن الأوكرانية، وتخوف من أن يحول بعض "السماسرة" الروس والسوريين لبنان إلى ممر لتهريب الحبوب المسروقة من أوكرانيا، وبخاصة أن الموانئ السورية تخضع للعقوبات الغربية، ويحاول هؤلاء التمويه عبر استخدام الموانئ اللبنانية ولا سيما ميناء طرابلس. وأكد أن سفارة بلاده تتابع معلومات عن دخول سفن عدة من مرفأ طرابلس تحمل الحبوب الأوكرانية التي استولت عليها روسيا وتتجاوز 500 ألف طن من الحبوب من مناطق خيرسون وزابورجيا وميكولايف، التي سيطرت عليها أخيراً.
وكشف عن أن عينات عدة سحبت سراً من أسواق عديدة في الدول الإقليمية تبين، وفق التحليلات المخبرية، مطابقتها مواصفات الحبوب الأوكرانية، الأمر الذي يؤكد تواطؤ سماسرة من روسيا وآخرين بينهم سوريون وأتراك، ومحاولتهم نقل معظم هذه الحبوب إلى دول الشرق الأوسط، ومنها مصر وتركيا وسوريا. وشدد على أن على لبنان اتخاذ الإجراءات المناسبة لعدم تحوله منصة للسماسرة، "لأن ذلك سيؤدي إلى تضرر العلاقات الأوكرانية - اللبنانية، وإمكانية استجرار عقوبات أوروبية وغربية على الموانئ اللبنانية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق تصريحات للنائب العام التمييزي في لبنان القاضي غسان عويدات، الذي يتابع ملف السفينة، فإن صاحب الباخرة تركي الجنسية ولديه مكتب لشحن البضائع في مدينة طرابلس، وأن نصف حمولة الباخرة مخصص لسوريا والنصف الآخر للبنان، إلا أن صاحب البضاعة، وهو سوري الجنسية، صرف النظر عن تفريغ الكمية المخصصة للبنان في طرابلس، وسيعيدها إلى مرفأ طرطوس عند استكمال التحقيقات والإفراج عن الباخرة.
وفي السياق، نفى مسؤول في شركة "لويال أجرو" لتجارة الحبوب ومقرها تركيا أن تكون شحنات الشعير والطحين على متن سفينة "لوديسا" قد سرقت من أوكرانيا، مبيناً أن مصدر الطحين هو روسي المنشأ، وأن الشركة استوردت خمسة آلاف طن من الطحين وخمسة آلاف طن من الشعير إلى لبنان، لبيعها لمشترين من القطاع الخاص وليس للحكومة اللبنانية.
نشاط إجرامي
وفي بيان سابق، أعلنت السفارة الأوكرانية في بيروت، مطلع يونيو (حزيران) الماضي، أن روسيا أرسلت لحليفتها سوريا ما يقدر بنحو 100 ألف طن من القمح سرقت من أوكرانيا، واصفة الشحنات بأنها "نشاط إجرامي"، وأفادت بأن الشحنات تمت بواسطة السفينة "ماتروس بوزينيتش" التي ترفع العلم الروسي، ورست في ميناء اللاذقية، وكشفت حينها عن أن الحبوب الموجودة على متن السفينة تمت سرقتها من منشأة تجمع القمح من ثلاث مناطق أوكرانية دفعة واحدة. وأوضحت أن أكثر من 100 ألف طن من القمح الأوكراني "المنهوب" وصل سوريا خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ومع ارتفاع أسعار القمح عالمياً عن 400 دولار للطن، فإن هذا الحجم سيكون أكثر من 40 مليون دولار، وأظهرت صور الأقمار الاصطناعية من Planet Labs PBC، في 29 مايو (أيار) الماضي أن السفينة نفسها راسية في اللاذقية.
مجاعة عالمية
من جانبها، نفت السفارة الروسية في بيروت كل المعلومات في شأن معرفتها بسفينة "لوديسا"، منذ "لحظة انطلاقها إلى لحظة رسوها في طرابلس"، مؤكدة أنه "لا يوجد أي اتصال رسمي لروسيا بهذه السفينة". وقالت إن "السفينة لوديسا، التي تحمل علامة تجارية لشركة خاصة، اشترت كميات من الحبوب والشعير بطريقة قانونية، وبحسب معلومات السفارة فإن شركات تركية عدة خاصة شريكة في هذه السفينة"، وبحسب مصدر دبلوماسي في السفارة الروسية بلبنان، فإنه، بسبب الهزائم العسكرية التي تواجه الجيش الأوكراني والدول الغربية المساندة له، هناك محاولات لضرب علاقات روسيا مع الدول الصديقة، معتبراً أن إثارة قضية الحبوب المزعومة ليست سوى محاولة لنقل الحرب من أوكرانيا إلى الدول الصديقة بنموذج غير عسكري عبر الإضرار بالمصالح الروسية في العالم.
ولفت إلى أنه في وقت تحاول روسيا تزويد السوق العالمية بالحبوب لإبعاد شبح المجاعة عن العالم ولا سيما الدول النامية التي لا تمتلك إنتاجاً يكفي الاستهلاك المحلي من الحبوب، تسعى الدول الغربية لمحاصرة التجار الروس تحت مزاعم واهية بهدف التسبب في المجاعة وتحميل روسيا وزر المسؤولية بالتالي تأليب الرأي العام العالمي ضدها. وأشار إلى أن علاقة روسيا مع لبنان ممتازة، ولطالما عملت روسيا مع جميع مكونات المجتمع اللبناني لإرساء الأمن والاستقرار في البلاد، مشدداً على أنها ليست المرة الأولى التي تحاول أميركا والدول الغربية محاصرة الدور الروسي في لبنان، ومؤكداً أن ذلك حصل، أيضاً، عندما عرضت روسيا مساعدات عسكرية على الجيش اللبناني.
وكان وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب أفاد بتلقي لبنان إنذارات من دول غربية، عقب وصول سفينة سورية محملة بشحنتي طحين وشعير. تقول أوكرانيا إن "روسيا سرقتهما".
طوابير الخبز
ويتزامن وصول السفينة مع جولة جديدة من النقص الحاد في الخبز في لبنان، حيث أدت الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ ثلاث سنوات إلى تباطؤ واردات القمح المدعوم، وشهدت المخابز، هذا الأسبوع، حشوداً وطوابير من المواطنين نتيجة فقدان الخبز من الأسواق، في بلد يعاني نصف سكانه من انعدام الأمن الغذائي وفقاً لبرنامج الغذاء العالمي.
ويبلغ استيراد لبنان من القمح الأوكراني نحو 60 في المئة من حاجته، لكن هذه الشحنات تعطلت بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية وحصار مواني البحر الأسود الرئيسة التي كانت أوكرانيا تصدر عبرها، وبحسب جمعية المطاحن اللبنانية، فإن سعر الدقيق يتراوح بين 620 دولاراً و650 دولاراً للطن الواحد، بينما يبلغ سعره 600 دولار في سوريا.
واستأنفت أوكرانيا الصادرات القانونية من القمح إلى لبنان، منتصف يونيو الماضي، بحسب السفارة الأوكرانية ورئيس جمعية المطاحن اللبنانية.