بعد مرور عامين على أكبر انفجار غير نووي في العالم، قد تكون "العدالة" أبرز ضحايا جريمة مرفأ بيروت، إذ تدور التحقيقات القضائية في حلقة مفرغة بعنوان "الحصانة النيابية" بعد محاصرة المحقق العدلي القاضي طارق البيطار ومنعه من إكمال مهمته، فبات التحقيق مكبلاً بقيود قضائية بعد قرابة تسعة أشهر من صدور رابع قرار لتعليق التحقيق، وبعضها الآخر سياسي مع توفير الغطاء لمطلوبين تجاوزوا مذكرات التوقيف الصادرة بحقهم.
وعانى لبنان على مدى 30 عاماً بعد الحرب الأهلية سياسة الإفلات من العقاب، إذ لم يتمكن من بلوغ خط النهاية في أي تحقيق مرتبط بالجرائم السياسية، ولم يشهد محاسبة لمسؤولين عن جرائم مرتكبة، لا سيما خلال الأعوام الأخيرة، إذ كرس الإفلات العلني من العقاب وجود نظام يؤمن الحصانة للمرتكبين.
وعشية الذكرى الثانية لتفجير الرابع من أغسطس (آب) 2020 وجّه البابا فرنسيس رسالةً إلى الشعب اللبناني، متمنياً أن تواسي الحقيقة والعدالة التي لا يمكن إخفاؤها، الشعب اللبناني.
وتوجه بالتعزية إلى عائلات الضحايا معبراً عن أمله بأن "يشهد لبنان بمساعدة المجتمع الدولي ولادة جديدة، وأن يكون أرض سلام وتعددية، إذ يمكن للجماعات من مختلف الأديان أن تعيش في أخوة".
رمز للانفجار
وقبيل إحياء الذكرى الثانية بمسيرات شعبية، عاش المواطنون الصدمة من جديد مع تجدد لحظات الخوف، إذ أعلنت حال طوارئ جديدة عقب انهيار عدد من الصوامع، وأخلى السكان القريبون منازلهم خشية إصابتهم بأضرار نتيجة الانهيار وخشية الغبار المتصاعد الذي قد يحمل فطريات ومواد سامة ناتجة من تحلل القمح وبقايا ما خلفه الانفجار من مواد كيماوية مجهولة منتشرة في الأرجاء.
وتحولت الإهراءات رمزاً لانفجار مرفأ بيروت الذي تسبب بمقتل 200 شخص وإصابة 6500 آخرين بجروح، وقد امتصت الصوامع البالغ ارتفاعها 48 متراً، وكانت تتسع لـ 120 ألف طن من الحبوب، القسم الأكبر من عصف الانفجار المدمر لتحمي بذلك الشطر الغربي من العاصمة من دمار مماثل لما لحق بشطرها الشرقي، وفق خبراء.
آثار الجريمة
ولم يكن مشهد انهيار أجزاء من الإهراءات وليد اللحظة وإنما نتيجة حريق اندلع قبل ثلاثة أسابيع في أكداس القمح المتعفنة، ولم تتمكن الجهات الحكومية من السيطرة عليه، الأمر الذي أدى إلى أثر نفسي لدى سكان العاصمة وأهالي الضحايا والمهتمين بالحفاظ على الإهراءات كشاهد ودليل على الانفجار.
وأكد ويليام نون، عضو لجنة أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، أن الأهالي التقوا رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وعبروا عن ضرورة الإبقاء على الأجزاء المتماسكة من الإهراءات، على الرغم من قرار الحكومة هدمها، لتخليد ما حدث مع أبنائهم في الرابع من أغسطس 2020، كما عبر أهالي الضحايا عن رفضهم محو "آثار الانفجار" كونها الشاهد والدليل الحي الذي يدخل في صلب التحقيقات التي يخوضها المحقق العدلي.
بعثة تقصي حقائق
وتأكيداً على دعم المطالبة بتحقيقات شفافة، طالبت 11 منظمة حقوقية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بإصدار قرار يقضي بإنشاء بعثة لتقصي الحقائق في شأن الانفجار، وقالت المنظمات ومن بينها "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" إنه بعد مرور عامين لم يتقدم التحقيق المحلي "وما من بوادر تقدم تلوح في الأفق".
وحثت أعضاء مجلس حقوق الإنسان على أن "يوفد من دون تأخير بعثة مستقلة ومحايدة لتقصي الحقائق في انفجار مرفأ بيروت كي تحدد الحقائق والملابسات، بما في ذلك الأسباب الجذرية للانفجار بغية تحديد مسؤولية وتحقيق العدالة للضحايا"، وأشار تحقيق أولي أجرته "هيومن رايتس ووتش" إلى تورط محتمل لشركات مملوكة لأجانب، فضلاً عن عدد من كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين في لبنان.
ووثقت المنظمات مجموعة من العيوب الإجرائية والمنهجية في التحقيق المحلي، بما في ذلك "التدخل السياسي الصارخ وحصانة مسؤولين سياسيين رفيعي المستوى، وعدم احترام معايير المحاكمة العادلة وانتهاكات الإجراءات القانونية الواجبة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلصت المنظمات إلى أنه "من الواضح الآن أكثر من أي وقت مضى أن التحقيق المحلي لا يمكن أن يحقق العدالة، مما يجعل إنشاء بعثة دولية لتقصي الحقائق بتكليف من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أكثر إلحاحاً".
وأشارت إلى أن سياسيين "يشتبه في تورطهم بالقضية" قدموا 25 طلباً لإقالة القاضي طارق بيطار الذي يقود التحقيق، وعزل غيره من القضاة المشرفين على القضية، مما تسبب في تعليق مجريات التحقيق مراراً وتكراراً أثناء الفصل في القضايا.
مخطط سياسي - أمني
وحول مسار التحقيقات اعتبر الصحافي المتخصص في الشؤون القضائية يوسف دياب أن "هناك حملة سياسية واجهت المسار القضائي الذي اعتمده المحقق العدلي فادي صوان واستكمله القاضي طارق البيطار لحماية السياسيين المتهمين بالتقصير والإهمال، وربما التواطؤ في التفجير، ومنهم رئيس الحكومة السابق حسان دياب والوزراء علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق ويوسف فنيانوس، إضافة الى المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا"، مؤكداً "وجود مخطط سياسي وأمني لإحباط أي عملية تقدم للتحقيق وختمه عند حدود الخطأ الفني".
وكشف عن أن البيطار وعلى الرغم من كل العراقيل تجاوز 80 في المئة من التحقيق، إلا أنه لا يستطيع كشف الأدلة التي توصل إليها بوجب الحفاظ على السرية إلى حين صدور القرار الاتهامي. وشدد على عدم وجدود خيار أمام القضاء إلا أن يصل إلى الحقيقة وإلا سيثبت مرة أخرى أنه قاصر وعاجز، مما سيعزز المطالبة بلجنة تقصي حقائق دولية.
إعادة الإعمار
وحول عملية إعادة إعمار المناطق المحاذية لمرفأ بيروت، يؤكد طارق كرم وهو مشرف على إحدى المنظمات الأهلية، أن مهمة إعادة الإعمار شاقة جداً أمام الدمار الهائل الذي لحق العاصمة، ويقول "في اللحظات الأولى للانفجار كانت الأولوية لمتابعة العائلات المتضررة وتأمين الدواء والطعام والتعليم"، لافتاً إلى أنه بعد عامين من التفجير نجحت جهود ترميم أعداد كبيرة من المباني المتضررة، وذلك على الرغم من العراقيل التي تواجه العمل الميداني وصعوبة الواقع عن قرب.
وكشف عن أن عملية الترميم تمت بالتعاون مع قيادة الجيش التي شكلت خلية طوارئ مقرها مبنى بلدية بيروت بالتعاون مع محافظ العاصمة مروان عبود، لافتاً إلى أن معظم السكان الذين تمت مساعدتهم عادوا إلى منازلهم، وأعلن أنه بهدف تأمين الشفافية تم الاعتماد على الكشف الميداني لكل حالة كانت تصل للتأكد من صحة المعلومات، والتعاون مع مختلف الجمعيات عبر مجال المعلوماتية لكشف المستفيدين من أكثر من جمعية، متأسفاً لتراجع تدفق أموال المساعدات.
صفقات مشبوهة
أما في ما يتعلق بإعادة إعمار مرفأ بيروت المدمر والذي لطالما كانت له أهمية استراتيجية خلال السنوات الماضية، باشرت الحكومة اللبنانية وبالتعاون مع الحكومة الفرنسية العمل على إعادة إعمار المرفأ، وإضافة إلى ذلك وقعت الحكومتان اتفاق تعاون بين إدارتي مرفأي بيروت ومرسيليا لتبادل الخبرات التقنية والفنية التي تعنى بالنقل البحري وتطوير عمل المرافئ.
وفي تصريح سابق، أعلن وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية أن إعادة إعمار المرفأ ستنطلق بعد الانتهاء من إعداد المخطط التوجيهي له بالتعاون مع البنك الدولي، ولفت إلى أن ورشة إعادة إعمار المرفأ تنطلق نهاية أغسطس الحالي ضمن عملية مفتوحة للعالم أجمع، وضمن إطار قانوني ودفتر شروط بمعايير تراعي الشفافية المطلقة.
كما ذكر أنه تم الاتفاق على توقيع عقد إدارة وتشغيل وصيانة محطة الحاويات في مرفأ بيروت مع الشركة الفرنسية "سي ام آ، سي جي ام" CMA|CGM مدة 10 سنوات، إلا أنه في المقابل حذر النائب فؤاد المخزومي من "اعتماد نهج فساد يؤدي إلى خسارة مليارات الدولارات التي يحتاجها لبنان للنهوض من أزمته الاقتصادية، ولا تسطيع عائدات المرفأ تأمينها".
وانتقد الطبقة السياسية الحاكمة التي اعتبر أنها مستعدة لبيع البنى التحتية لجهات دولية في مقابل تغطية وجودها في السلطة، مستغرباً حماسة وزير الأشغال التابع لـ "حزب الله" تجاه إبرام اتفاق إعادة الإعمار مع الفرنسيين، إضافة إلى استعجاله تنفيذ قرار هدم الإهراءات بهدف إزالة معالم الجريمة.