تضم منطقة هليوبوليس في القاهرة، تحديداً أمام قصر البارون الشهير، أحد أهم القصور التاريخية وأجملها في مصر، وهو قصر السلطانة ملك الذي يعود إنشاؤه إلى بدايات القرن العشرين، وتم أخيراً الانتهاء من ترميمه وافتتاحه كمركز للإبداع الرقمي وريادة الأعمال بالتعاون مع وزارة الاتصالات.
وكان القصر معروفاً باسم صاحبه الأمير حسين كامل، ثم شاعت تسميته بقصر السلطانة ملك زوجته التي عاشت فيه، وأحياناً يطلق عليه قصر السلطان نسبة إلى اسم الشارع المجاور له، ويعد القصر من أوائل المباني التي شُيدت في حي مصر الجديدة، حيث بدأت أعمال تشييده في صحراء هليوبوليس شمال شرقي القاهرة بين عامي 1906 و1907.
بني القصر على قطعة أرض كبيرة في الجهة المقابلة لقصر البارون إمبان، وهي على شكل مثلث تحده ثلاثة شوارع رئيسة: الأول شارع الثورة (السلطان حسين سابقاً)، والثاني شارع الجنرال البارون، وأخيراً شارع العروبة الذي سمي قديماً بشارع القصور، نسبة إلى القصور المهمة التي شيدت على جانبيه، وهي قصور الأمير حسين كامل، وبوغوص نوبار، والأمير إبراهيم حليم، وأخيراً قصر البارون إمبان، ثم سُمي بعد ذلك بشارع الملك فؤاد، ويواجه مدخل القصر الرئيس قصر البارون أما الجهة الخلفية فيقابلها مسجد السلطان حسين.
سجل قصر السلطانة ملك كأثر بقرار مجلس الوزراء عام 2000، وبدأت أعمال الترميم فيه عام 2019، وانتهت في 2022، تحت إشراف وزارتي "السياحة والآثار"، و"الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات"، وافتتح كمركز للإبداع الرقمي وريادة الأعمال.
من هي السلطانة ملك؟
تقول بسمة سليم، الباحثة في تراث هليوبوليس، إن السلطانة ملك "ابنة حسن باشا طوران القبطان في البحرية العثمانية الذي عرضها للتبني بينما لم تتجاوز الثالثة من عمرها ليضمن لها مستقبلاً أفضل، وتبنتها جشم أفت الزوجة الثالثة للخديوي إسماعيل، وتغير اسمها من ملك حسن طوران إلى ملك جشم أفت، وهو الاسم الذي ارتبط بها طيلة حياتها، وفي 26 ديسمبر (كانون الأول) 1886 تزوجت ملك بنت السابعة عشرة من الأمير حسين كامل، وبعد ثمان وعشرين عاماً وتحديداً في 19 ديسمبر 1914 أمسك حسين كامل بمقاليد الحكم في مصر".
تضيف بسمة "يعد قصر السلطانة ملك من أهم قصور مصر التاريخية نظراً إلى كونه يعود لأول سلطان في تاريخ مصر الحديث، ولارتباطه بتحولات السياسة المصرية خلال العقد الثاني من القرن العشرين، فقد ظل شاهداً على تحول مصر من الخديوية إلى السلطنة، وعلى التدخل الإنجليزي في حكم البلاد أثناء الحرب العالمية الأولى، وهي تلك السنوات التي هيأت لاندلاع ثورة 1919".
السلطانة الثانية
لم يكن من الشائع في مصر حصول سيدة على لقب سلطانة، فهو أمر نادر الحدوث حصلت عليه سيدتان فقط في تاريخ البلاد، تقول بسمة "بعد جلوس حسين كامل على عرش مصر حصل على لقب سلطان من قبل البريطانيين، ولقبت زوجته ملك بسلطانة مصر لتصبح ثاني سيدة تحصل على هذا اللقب بعد شجرة الدر، وعلى أثر وفاة السلطان حسين كامل في الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) 1917، تولي الملك فؤاد الحكم، وأصدر يوم 11 أكتوبر عام 1917 (أي بعد توليه العرش بيومين فقط) وصفاً يسمح لـ(ملك) بالحفاظ على لقبها السلطاني، وفي الثاني من يناير (كانون الثاني) عام 1932 أصدر فؤاد أمراً ملكياً بأن تكون الأسبقية للسلطانة ملك بعد صاحبة الجلالة الملكة نازلي، وقبل جميع أميرات الأسرة الحاكمة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف "بعد وفاة السلطان حسين كامل لم تنعزل السلطانة ملك عن الحياة العامة، بل كانت تحضر المناسبات والحفلات الرسمية، كحفل زفاف الملك فاروق عام 1938، وقد أشارت إليها الصحف الغربية بلقب السلطانة الأرملة، إذ لم تتزوج ملك أبداً بعد السلطان حسين كامل، وأمضت نحو أربعة عقود من عمرها في السفر إلى أوروبا ولبنان والأقصر، وبقي لقبها السلطانة حتى بعد تتويج الملك فاروق الأول، إلى أن توفيت يوم الأحد الرابع من فبراير (شباط) عام 1956، ودفن جثمانها في مسجد الرفاعي في القاهرة بجانب ضريح زوجها السلطان حسين".
قبل وبعد ثورة يوليو
أحداث وتغيرات كبرى شهدتها مصر خلال القرن العشرين، من بينها تحول مصر من ملكية إلى جمهورية. وعن وضع القصر خلال هذه المراحل تقول بسمة "تم تصميم رسومات القصر الهندسية من قبل المعماري الفرنسي ألكسندر مارسيل، وكتب عليها باللغة الفرنسية (قصر الأمير حسين كامل)، حيث أنشئ القصر قبل توليه السلطنة، وكان اشتراه بالتقسيط من الشركة التي أنشأته، وعندما توفي عجزت زوجته السلطانة ملك عن سداد قيمة الأقساط المتبقية، بخاصة بعد الأزمة المالية عام 1931، فعاد القصر إلى الشركة، وجرى الاتفاق على أن يؤجر للسلطانة نظير 100 جنيه في الشهر كانت تدفعها الحكومة".
وتضيف الباحثة، "عقب ثورة يوليو (تموز) 1952، تروي عائشة إسماعيل التي عاشت مع السلطانة قرابة 18 عاماً، أن ملك اتصلت بجمال عبد الناصر وقالت له إنها ليست من العائلة المالكة بالأساس وروت له قصتها فطمأنها ووعدها بأن تعيش في القصر دون المساس به طوال حياتها، على أن تؤول ملكية الأراضي والعقارات في ما بعد إلى الدولة، وبالفعل آلت ملكية القصر للدولة بعد وفاتها في خمسينيات القرن الماضي، ويقال بيعت محتويات القصر من تحف وخلافه في مزاد علني، وأصبح مدرسة بعد التأميم (مصر الجديدة الثانوية بنات)، ثم انتقلت المدرسة في ما بعد إلى مبنى ملاصق يتصل فناؤه بحرم القصر وحديقته، وبعدها تحول المبنى إلى أثر مهمل قبل الشروع في ترميمه أخيراً".
الطراز المعماري
تقول بسمة "صمم القصر المهندس المعماري الفرنسي ألكسندر مارسيل (1860 - 1928) الذي درس بكلية الفنون الجميلة في باريس، وله عدد من التصميمات لمبان من أشهرها سينما (باجودا) في شارع بابليون بباريس عام 1896، وفي مصر صمم كنيسة (البازليك) وقصر السلطانة ملك وقصر بوغوص نوبار، كما شارك مع المهندس البلجيكي أرنست جاسبار في تصميم فندق (هليوبوليس بالاس) الذي أصبح قصر الاتحادية حالياً، ووفقاً للرسم الهندسي الذي اعتمده مارسيل فقد صمم القصر من الخارج على طراز العمارة الإسلامية مع استخدام مفرداتها الفنية والمعمارية من البرج الذي يشبه قباب المساجد المملوكية والمقرنصات والمشربيات والعقود وغيرها من الرموز الإسلامية".
وتضيف، "بالنسبة إلى التصميم الداخلي، فقد اتبع مارسيل ومهندس الديكور أسلوب المزج بين العناصر الإسلامية والأوروبية، إذ ظهر الطراز الإسلامي في البهو الرئيس، بينما ساد الطراز الأوروبي أغلب الغرف والقاعات الداخلية بخاصة في أعمال التصاوير الجدارية في الحوائط والأسقف وعلى أعتاب الأبواب والنوافذ، ويتكوّن القصر من بدروم وطابقين ويحيط به سور حديدي، ويضم البدروم المطبخ ومخازن الطعام أما الطابق الأول فيتكون من عدد من الحجرات للاستقبال والثاني لأجنحة النوم والمعيشة".