خوفاً من اتهامها بالمثلية الجنسية والانحطاط الأخلاقي وملاحقتها بالشتائم والتنمر، سحبت ديانا (28 سنة) من صفحتها عبر "فيسبوك" صور كل دمى "الكروشيه" التي حاكتها باستخدام الصنارة وخيوط الصوف، وتميزت بألوان قوس قزح، فالشابة الفلسطينية التي تروج للدمى عبر مواقع التواصل الاجتماعي عبرت عن مخاوفها بجدية، بعد أن تعرضت لرسائل تهديد متكررة تتهمها بـ"دس هذه الألوان كالسم بالعسل"، وأن كثرة استخدامها لألوان الطيف تهدف من ورائه إلى اعتياد الأطفال رؤية الدمى بألوان المثلية الجنسية والإعجاب بها وتقبلها مستقبلاً.
ضرب وشتم
هذه الدمى ليست الوحيدة التي أثارت جدلاً بألوانها في بعض مدن الضفة الغربية، فالدمية الملونة الكبيرة التي عمل عليها ثلاثة فنانين من "مسرح عشتار الدولي في مدينة رام لله" لمدة أسبوع، أملاً في جلب البهجة والفرحة للأطفال في ختام مهرجان "هبة فن"، كانت سبباً لهجوم شنه شبان على المشاركين في مسيرتهم الفنية بالضرب والجلد والركل والسحل والشتائم، إضافة إلى تكسير الدمية بحجة أنها تحمل ألوان علم قوس قزح "علم المثلية الجنسية".
تقول الفنانة المسرحية إيمان عون، المؤسسة في مسرح عشتار الذي تعرض للاعتداء، "تعرضت المسيرة بمن فيها من فنانين وطلبة ومشاركين دوليين للشتم والضرب بالعصي والحجارة لمدة ساعتين، وتم اتهامنا بالعمالة والمثلية من دون مبرر سوى تنامي الخوف من المعتدين من الألوان، ومن أي شيء ثقافي في المجتمع يدعم الحرية الفكرية وحرية الرأي والاختلاف".
وأضافت "فئة قليلة باجتهاداتهم العشوائية وخوفهم غير المبرر من كل ما هو خارج عن المألوف، يريدون للحالة الفنية المحلية أن تكون بلون واحد، وهذا لن يحدث في أي مجتمع، ولا بد من تدخل حقيقي وسريع لمنع تدهور الحاضنة الاجتماعية للثقافة الفلسطينية".
على إثر الاعتداء، قال مسرح عشتار في بيان إن "الاعتداء السافر يأتي ضمن سلسلة اعتداءات ممنهجة في الآونة الأخيرة التي تخلخل أساسات حرية العمل الثقافي الفلسطيني"، محملين الجهات الرسمية مسؤولية حماية المؤسسات الثقافية ومؤسسات المجتمع المدني كافة، ومطالبين بفتح تحقيق شفاف يضمن العدالة للمعتدى عليهم ومحاسبة كل من تورط في الاعتداء على المشاركين في الفعالية الفنية، وكل من أسهم في ما يحصل من فلتان وتقويض لسيادة القانون.
وفي الوقت الذي التزمت فيه وزارة الثقافة الفلسطينية الصمت التام ولم تخرج بأي تصريحات تدين الاعتداء، أكدت الشرطة الفلسطينية بدورها "ضرورة احترام ممارسة الحريات العامة في حدود ما يسمح به القانون والنظام العام، وبأنها لا تسمح بالتعدي على هذه الحرية"، معلنة أنها ستقدم المعتدين للعدالة حسب الأصول القانونية.
حوادث مماثلة
خلال الأشهر القليلة الماضية، شهدت الضفة الغربية سلسلة من الاعتداءات على الفنانين الفلسطينيين ومسارح ودور سينما ومؤسسات ثقافية، تخللها حرق للمباني ورشق بالحجارة وعنف جسدي ولفظي وتهديد صريح طاول عاملين وناشطين ثقافيين وفنانين ومؤسسات متعددة.
مؤسسة عبدالمحسن القطان، غير ربحية، كانت واحدة من المؤسسات الثقافية الفلسطينية التي تعرضت لتهديد مجهول المصدر، في محاولة لمنعها من تنفيذ أمسية موسيقية في مركزها الثقافي برام الله، وأعلنت المؤسسة أنها أغلقت أبواب مركزها الثقافي احتجاجاً على التهديدات وغياب الحماية من الجهات الرسمية للمؤسسات الثقافية والفنانين، وصمتها عن كشف الجهات التي تقف وراء ذلك.
وقالت في بيان "هذه الممارسات الدخيلة على الحياة الاجتماعية والثقافية والمستغربة ومشبوهة المصدر والهدف، باتت تهدد استمرارية الفعل الثقافي الفلسطيني وكينونته وتكامله وتدفقه ودوره الاجتماعي والإنساني في تطوير المخيلة والفاعلية والهوية الفردية والجمعية الفلسطينية عبر تفعيل الحوار داخلياً وإبراز الحضور الفلسطيني عالمياً صوتاً وصورة"، محذرة من "العواقب الوخيمة التي يمكن أن تجرها مثل هذه التهديدات والأفعال القمعية على الحياة الثقافية بشكل خاص، وعلى المجتمع الفلسطيني بشكل عام، وعلى مكانة فلسطين الثقافية في الخارج".
من جهته، أعلن الفنان الفلسطيني جوان الصفدي عبر صفحته على "فيسبوك" أنه اضطر إلى إلغاء عرضه بعد وصول تحذيرات عدة، وادعاء الشرطة الفلسطينية عجزها توفير الحماية له وللجمهور، وقال "من حقنا وواجبنا أن نتساءل اليوم من الذي يفرق بين الناس ويحرض الفرق على بعضها؟ هم البلطجية الذين يهددون ويهاجمون فعاليات ثقافية وحفلات ومسيرات بحجة العادات والتقاليد والعقائد، ولا يحاسب أحد منهم، يحاولون إسكات كل صوت حر مختلف معارض، يهاجمونه ويحرضون العالم عليه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التهديدات والتهم التي طالت مؤسسة القطان ومسرح عشتار الدولي أخيراً، كان سبقها بأسابيع قليلة أن دخلت مجموعة من 40 شاباً إلى مؤسسة "المستودع الثقافي" في رام لله، مطالبين بإنهاء عرض غنائي، ثم اعتدوا على المكان بالحجارة، ما أدى إلى إصابة شخصين من الحضور بجروح وتدمير المكان، بحسب زعم المنظمين للحفل. وعقب ذلك، استهدفت حملة إلكترونية انخرط فيها نحو 200 ألف من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي مؤسسة "المستودع" مطالبين بإغلاقها.
جاء ذلك في الوقت الذي أعلن فيه مهرجان "بووم بوكس" لموسيقى الهيب هوب، تأجيل المهرجان الذي كان مقرراً إقامته في مدينة بيت لحم حتى إشعار آخر، بسبب "مخاطر أمنية ضد المهرجان وزائريه ومنظميه"، وفق ما جاء في البيان المنشور. وكان من المفترض أن يمتد برنامج المهرجان لمدة يوم واحد وبمشاركة 12 فناناً فلسطينياً من الضفة الغربية ومن داخل إسرائيل، وطالب القائمون على المهرجان كل الأشخاص الذين اشتروا التذاكر بإعادتها.
حماية الثقافة
الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" وعلى إثر تكرار وتقارب حالات الاعتداء على المؤسسات الثقافية الفلسطينية، طالبت الشرطة والنيابة بتوفير الحماية للتجمعات والنشاطات الفنية والثقافية من دون تمييز، وبضرورة فتح تحقيقات فورية تقدم كل من يثبت تورطه إلى القضاء.
الناشط والكاتب الفلسطيني رامي مهداوي يقول "ما يحدث من هجمات ضد أدوات الثقافة، حتى لو كانت مختلفة عنا، لهو سبب أساس في زعزعة استقرار المجتمع، وتدعم الإجرام المنظم وتعوق بشكل خطير جهود الحفاظ على الهوية في زمن محاربتها من قبل ماكينات الاحتلال وأعوانهم، لهذا وبصوت مرتفع أقول يجب محاكمة مرتكبي الجرائم ضد المؤسسات الثقافية".
ويضيف "ما حدث ويحدث إشارة إنذار باكر للحياة الفلسطينية التي يريد الظلاميون أخذنا لها باسم الدين، والأديان السماوية بعيدة كل البعد عن مثل هذه الأفعال، لهذا على جميع المؤسسات الحكومية والأهلية والشخصيات وعلى رأسهم المثقف ألا يكتفوا بالتنديد، بل عليهم تعزيز الوصول إلى الثقافة والتراث والمشاركة فيها، فهي حق من حقوق الإنسان، يجب أن تكون الحقوق الثقافية جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيات النضال ومواجهة الأفكار الشعبوية".
ضوابط وطنية
المخرج والكاتب المسرحي محمد عيد يقول لـ"اندبندنت عربية" إن هناك خوفاً مستمراً من اختلاف وجهات النظر، وما يحدث أخيراً أن الفن الفلسطيني بدأ بالانحسار، وأصبح الفنانون محاصرين داخل تابوهات، وهذا بالضبط ما سيفقد الفن والثقافة الفلسطينية صدقيتها، فلم يعد هناك تجديد أو تغيير، وتحولت بعض المؤسسات الثقافية والفنية لبوق محدد الأهداف معروف التوجهات والأفكار، وللأسف لهذا باتت الحركة الفنية منذ سنوات تشهد تراجعاً كبيراً، لأن التوجهات أصبحت محددة في ضوابط وطنية، وهذا ما دفع بعض الفنانين للتغيير والخروج عن المألوف".
يضيف "إذا رضخ الجيل الصاعد لحالات التهديد والاعتداء والتخويف باسم الدين التي حدثت أخيراً للقطان والمستودع وعشتار وغيرهم، فذلك يعني أن المنظومة الفنية ستنهار لا محالة، وفي ظل غياب الحماية والأمن للمفكرين والفنانين من قبل فئات تهدد العمل الفني الذي لا يتلاءم مع مفاهيمها وأفكارها، سنكون عند مفترق طرق، إما الهجرة إلى الخارج أو الصمود أملاً في التغيير، وعلى ما يبدو هناك جهات تريد أن يبتعد الشعب الفلسطيني عن الفن والحركة الثقافية المتجددة والمساحات الحرة، لتوسيع الفجوة بين المجتمع الفلسطيني ونفسه".
أرقام وإحصاءات
في المقابل، تشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى وجود ارتفاع في عدد المسرحيات المعروضة في المسارح الفلسطينية عام 2021 إلى أربعة أضعاف ما عُرض في عام 2020، وأن 17 مسرحاً عاملاً في فلسطين، منها 14 مسرحاً في الضفة الغربية وثلاثة مسارح في قطاع غزة قدموا 370 مسرحية في عام 2021 بواقع 367 في الضفة وثلاثة في غزة، منها 177 للأطفال و105 مسرحيات للكبار و88 مسرحية عرضت للأطفال والكبار.
وأشارت بيانات الجهاز، إلى أن عدد المراكز الثقافية العاملة في فلسطين ارتفع من 528 مركزاً في 2020 إلى 577 في 2021 مع فجوة واضحة بين الضفة والقطاع، وارتفع عدد الأنشطة الثقافية المنعقدة في المراكز الثقافية خلال عام 2021 بنسبة نحو 54 في المئة بالمقارنة مع العام السابق، حيث بلغ عددها نحو سبعة آلاف نشاط ثقافي خلال العام 2021، في حين كان عددها نحو خمسة آلاف في 2020.
ويرى مراقبون ومتخصصون في الشأن الثقافي أن التمويل المشروط من قبل الاتحاد الأوروبي والممولين الأوروبيين الآخرين وحظر التعامل مع ثمانية أحزاب فلسطينية بعد إدراجها ضمن قائمة "الأحزاب الإرهابية"، أثقل كاهل المؤسسات الثقافية وحد من نشاطاتها بشكل ملحوظ، ونتيجة لذلك خسرت شبكة الفنون الأدائية مشروعين كبيرين، الأول مدته أربع سنوات، والثاني من مؤسسة سويدية مدته خمس سنوات، وهما مشروعان كانا داعمين أساسيين لـ15 مؤسسة فنون أدائية في فلسطين.