لماذا ينتهي الفيلسوف في العالم العربي والإسلامي إلى فقيه أو داعية في آخر حياته؟
المثقف في المنطقة العربية وشمال أفريقيا هو مثقف "عفا الله عما سلف" بامتياز، "عفا الله عما سلف" في ما ارتكبه وآمن به من قيم في الفلسفة والسياسة والعقيدة والفن والأدب.
لماذا يا ترى ينتهي المفكر العربي، مهما كانت قناعاته الفكرية ليبرالية أو يسارية أو علمانية، نهاية غريبة، ينتهي فقيهاً أو داعية أو قريباً من ذلك؟
المثقف العربي والمغاربي بشكل عام هو مثقف "التبرير" لا "التدليل"، مثقف "التسويغ" لا "الإقناع"، مثقف "المظهر" لا "العمق"، مثقف "الجماعة" لا مثقف "القناعة".
حين نتفحص تاريخ المثقف من نواكشوط إلى البصرة، وبغض النظر عن طبيعة العمل الفكري الذي يمارسه هذا المثقف أو ذاك، بغض النظر عن طبيعة جنس الكتابة لديه شاعراً كان أو روائياً أو مسرحياً أو سينمائياً، موسيقياً أو مغنياً، في لحظة من لحظات الحياة بكل ما تحمله من انتكاسات وحصارات، يحدث أن يتوقف ويلتفت خلفه ومن حوله ليقول: "عفا الله عما سلف"، ثم يبدأ سلم التراجع، يتراجع، يتصالح، يتآمر ضد نفسه، ومعها يبدأ بسرد جملة من تبريرات هذا التراجع.
في العالم العربي والإسلامي، يتحجب الفيلسوف قبل أن تتحجب الممثلة نجمة السينما أو المسرح أو المغنية أو الراقصة، وحجاب المثقف الفيلسوف أكثر خطراً وتأثيراً من تحجب الفنانة النجمة، بل إن حجابه هو ما يبرر حجاب هذه الفنانة أو تلك، لا فرق بين حجاب الفيلسوف وحجاب نجمة الرقص أو الغناء، لكل "حجابه"، لكن التبريرات تكاد تكون هي نفسها ومركزها: "عفا الله عما سلف".
كيف ولماذا يا ترى يصبح المثقف العربي والمغاربي مثقف "عفا الله عما سلف"؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هناك عوامل كثيرة تجعل المثقف يعيش "المسخ" الفكري والسياسي وكأنها حالة طبيعية:
1- يتحول المثقف الفيلسوف المجتهد إلى مثقف "عفا الله عما سلف" لأن كثيراً من وعيه الشخصي تشكل في حضن تاريخ "ثقافة" تغيب عنها الحرية "الفردية"، بل تحارب. وفي ظل وضع كهذا، هناك "وعي نائم" في أعماق المثقف العربي يناوش قناعاته المهزوزة في كل مرة وباستمرار، فهو محاصر ومنذ الصغر بتقاليد قادمة من "هيمنة" أيديولوجيا القطيع، مصطلح القطيع هنا ليس للتحقير، إنما يجب أن يؤخذ في بعديه الفلسفي والاجتماعي، ولأن هذه الثقافة الغالبة لدى "القطيع" الاجتماعي هي ثقافة "التبرير" العام الباحثة عن "راحة البال"، الباحثة عن الاطمئنان الكاذب، في مثل هذا الوضع المأزوم ينظر إلى المثقف الفيلسوف كالذئب الذي ضاع من القطيع، فهام على نفسه في الأدغال وحيداً من دون حماية. وفي مثل هذه الرحلة الشاقة وحيداً، وفي لحظة ضعف أو خيبة، تحل لحظة "عفا الله عما سلف"، فيتنكر لمساره ويكفر بحاله ويخرج من جلدته، فيفرح به القطيع الذي يسعد لعودة الذئب الضائع إلى حضن "الجماعة" أو "المجموعة"، وتقلب الصفحة ويبدو الأمر عادياً.
ولأن ثقافة "القطيع الاجتماعي" تقوم مقام "الحماية" من حيث إنها هي الغالبة والمهيمنة، فإن المثقف في لحظة المسخ هذه لا يشعر بالذنب، فالجماعة بسعادتها به تبرر له فعله هذا، ومن هذا المنطلق فهي تحميه سيكولوجياً. وأمام هذا، فالمثقف لا يعيش شقاء الضمير وهو يتبنى موقف "عفا الله عما سلف"، الذي يرهن به عقله للقطيع، أو على الأقل ظاهرياً.
2- الفيلسوف والمثقف بشكل عام في المنطقة العربية والمغاربية هو أكثر الكائنات البشرية التصاقاً بالسلطة الحاكمة، حتى حين ينقدها يقوم بذلك كي تنتبه إليه، فكينونته الثقافية والفكرية قائمة على التلهف لأحضانها. لذا، كلما أشارت عليه بالالتحاق بسراياها، يكون جاهزاً مديراً رأسه لكل قناعاته السابقة، وتكون عبارة "عفا الله عما سلف" جاهزة أيضاً، وفي هاوية "عفا الله عما سلف"، يصبح هذا المثقف/ المسخ من أكبر الغلاة في الدفاع عن السلطة وتبرير فعلها مهما كان، يقوم بذلك لنسيان ماضيه والاغتسال من كل ما قد يذكر بمواقفه السابقة، فيصبح بين عشية وضحاها الداعية السياسي.
المثقف عندنا يريد أن يعيش من دون ذاكرة ويجتهد لذلك، فالذاكرة تعذبه ولا تسمح ولا تساعده على الانزلاق نحو هاوية "عفا الله عما سلف".
3- المثقف في المنطقة العربية والمغاربية انتهازي، بل إن واحدة من خصائص المثقف بشكل عام في كل مكان هي الانتهازية الفكرية، الاستثناء يؤكد القاعدة، ومن ذكائه الثقافي والفلسفي أنه قادر على تبرير تنازلاته ومسوخه في كل لحظة، وهو يدرك جيداً وبعد أن يطول به المسار من دون أن يصل إلى ضرع البقرة/ السلطة، واستناداً إلى "عفا الله عما سلف"، يشرع في التحول إلى داعية سياسي أو ديني، وبسرعة يغفر له الجميع ماضيه المختلف، ويسعدون لعودته إلى أحضان ثقافة القطيع.
4- ولأن المثقف عندنا بشكل عام كائن يعيش ضحية الأيديولوجيا الذكورية، فهو قبل الزواج يكون لسانه فصيحاً وبلاغة عالية يرافع بها عن الحب ويدافع عن حرية المرأة وعن المساواة، لكنه وبمجرد أن يتزوج بامرأة، التي تكون في غالب الأحيان ليست تلك التي تعرف عليها وربما عاش معها فترة من الوقت قبل الزواج، بمجرد أن يدخل "قفص الزواج"، كما يقال، يدخل في باب "عفا الله عما سلف"، متنكراً لأفكاره السابقة المرافعة عن حرية المرأة والحب والمساواة، معتبراً كل ذلك من باب "المراهقة" الفكرية وعدم نضوج التجربة الحياتية وجزءاً من مغامرات وحماسة "الشباب"، وعلى الفور تسقط صورة المرأة الحبيبة والرفيقة والصديقة بكل ما تحمله من دلالات اجتماعية وإنسانية ونضالية لتحل محلها صورة الأم بكل ما تحمله من صورة "تقديسية" و"أخلاقية" و"دموية"، وتتهاوى أفكار المساواة والقيم الإنسانية ويعود إلى حضن القطيع وهو يردد: "عفا الله عما سلف".
5- جميع أشكال المعاناة التي قد يكون تعرض لها المثقف في مسيرته الاجتهادية الفكرية والإبداعية الفردية الشاقة من قبل القطيع يمكن تجاوزها بالاحتماء بـ"عفا الله عما سلف"، التي عادة ما تغلف بعباءة "التدين" الظاهري، الذي ليس هو "الدين" الحنيف، فالتدين هو تقية اجتماعية، هو التمظهر ببعض طقوس الدين لقضاء أغراض سياسية أو اجتماعية أو إدارية أو سلطوية، وبمجرد تقولبه داخل السائد يتم احتضانه من قبل القطيع الغارق في الشعبوية الدينية، الذي ربما كان السبب في جزء من شقائه السابق.
6- يسقط الفيلسوف أو المثقف العربي والمغاربي في فخ "عفا الله عما سلف" لسببين فكريين أيضاً، أولهما أنه غالباً ما تكون المرجعيات التي يؤسس عليها المثقف مواقفه وينحت منها عتاده الفكري آتية من حقل السياسة، وهو حقل غير سليم بل مريض ومرضي، حيث الخصومات والولاءات السياسية في مجتمعاتنا قائمة على الأيديولوجيا المدججة بالبروباغندا من دون الاستناد إلى مرجعيات فكرية محلية وعالمية جادة، نحن مجتمع نمارس السياسة من دون فكر سياسي، نفوز في السياسة كما نفوز في لعبة سباق الخيل، لذلك فالمثقف الذي يقع ضحية هذا الفراغ المليء بالضجيج، يقع أيضاً وبسهولة ضحية "عفا الله عما سلف".
وثاني هذين السببين هو اعتماد المثقف عندنا في حياته الفكرية، قراءة وإنتاجاً، على "ترجمات" فاسدة ومدخولة، بل مشوهة لبعض المراجع الأساسية للفكر الإنساني في الفلسفة والأدب وعلم الاجتماع والأديان المقارنة وغيرها، لذا فالتكوين يكون هشاً والارتكاز الفكري مغشوشاً، وأمام هذا التضبب واللاوضوح يسهل سقوط المثقف في هاوية "عفا الله عما سلف".