يحتفي العالم، الجمعة الـ12 من أغسطس (آب)، بـ1.2 مليار شاب وشابة تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة. إنه "اليوم العالمي للشباب". والوجه الآخر لهذه الفئة العمرية المنوط بها تحمل مسؤولية مستقبل الكوكب هو العمل أو التوظيف.
لكن التوظيف في عصر ما بعد "كورونا" وأثناء "جدري القرود" وحرب روسيا على أوكرانيا وضائقة العالم الاقتصادية وأزماته السياسية ومعضلاته الاجتماعية والتعليمية والصحية، لم يعد تحصيل حاصل أو مرحلة مفروغ منها يمر بها الشباب في طريقهم بعد انتهاء التعليم ودخول عالم العمل أو سوقه. ففرصة الحصول على وظيفة تحتاج إلى تحول في المنظومة الاقتصادية في ظل سوق عمل متعثرة.
عالم متعثر
سوق العمل في العالم متعثرة، ويزداد تعثرها وتتفاقم مشكلاتها لدى تلك الفئة العمرية المحتفى بها، فقد أصابت جائحة "كورونا" هذه الفئة في ما يتعلق بعملها وفرص توظيفها كما لم تفعل ببقية الفئات الأخرى.
وعلى الرغم من أنها الفئة الأكثر حماسة والأوسع أفقاً والأرحب إدراكاً لمتطلبات العصر الجديد، فإنها أيضاً الفئة الأقل حظاً بسبب ما أصاب سوق العمل في أعقاب الجائحة، وهي الإصابة التي يتوقع أن تبقى لأجل غير مسمى، مع الأخذ في الاعتبار أن معضلة البطالة كانت متفاقمة أصلاً في أعوام ما قبل الوباء.
التقرير الذي تطلقه اليوم "منظمة العمل الدولية" في مناسبة "اليوم العالمي للشباب" وحصلت "اندبندنت عربية" على نسخة منه، يتناول عمل الشباب وبطالتهم وحاضرهم وفرصهم المستقبلية للخروج من أزمة البطالة، وذلك تحت عنوان "اتجاهات التوظيف العالمية 2022: الاستثمار في تحويل مستقبل الشباب".
الاتجاهات لا يمكن وصفها بالمبشرة أو الإيجابية. فالجائحة أصابت فرص تشغيل الشباب سلباً، وفاقمت حجم التحديات أمامهم في أسواق العمل. وعدد الشباب العاطل هذا العام يقدر بـ73 مليون شخص، وهو عدد يقل عن العام الماضي، الذي بلغ عدد الشباب المتعطلين فيه نحو 75 مليون شاب وشابة، لكن يظل العدد أعلى من معدلات البطالة في أعوام ما قبل الوباء بنحو ستة ملايين شاب.
كما ارتفعت نسبة شباب العالم غير الملتحقين بالعمل أو التعليم أو التدريب عام 2020 (أحدث نسبة متوفرة) لتصل إلى 23.3 في المئة، محققة زيادة واحد ونصف في المئة مقارنة بعام 2019.
وضع أصعب للشابات
كالعادة، فإن الشابات في وضع أصعب من أقرانهن الذكور. فنسبة التشغيل بينهن أقل، إذ بلغت عام 2022 نحو 27.4 في المئة، مقابل 40.3 في المئة للذكور. هذه الفجوة بين الجنسين، التي لم تظهر معالم تضييق أو رأب على مدار العقدين الماضيين، تبلغ أشدها في الدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض.
لذلك، فإن التوقعات ليست لصالح الدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض في ما يختص بتحسن نسب التشغيل وتقليص البطالة بين الشباب، على عكس الدول ذات الدخل المرتفع، التي يتوقع أن يستعيد شبابها نسب البطالة التي كانت سائدة في 2019 قبل بدء الجائحة.
وعلى مدار عامين من عمر كورونا، وجدت أعداد ضخمة من الشباب نفسها خارج سوق العمل أو فشلت في الالتحاق بها، لصعوبة البحث في ظل وباء عالمي، إضافة إلى تكبد أصحاب الأعمال خسائر فادحة أدت بالبعض إلى الإغلاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع انخفاض مستويات دخل عدد من الأسر والتحول إلى التعليم "أونلاين"، تفاقمت صعوبة التعلم والتدريب لكثيرين، وهو ما يتوقع أن يؤثر فيهم سلباً في مجالات التوظيف حتى بعد انتهاء آثار الجائحة تماماً، إذ فاتتهم فرص التدريب والتعلم ودخول سوق العمل في سن صغيرة، وجميعها عوامل يصعب تغييرها.
من جهة أخرى، تظل مسارات المستقبل في سوق العمل عقب أزمة "كورونا" ضبابية وغير مؤكدة، لكن في الوقت ذاته، فتح الوباء آفاق عمل جديدة لم تكن في الحسبان، أو كانت معروفة لكن توقع الجميع أنها ستحدث يوماً ما في المستقبل البعيد، فإذا بالوباء يجعلها تتبلور الآن، وإن ظل الركود الاقتصادي حاكماً.
يقول التقرير إن الشباب العربي الفئة الأكثر تضرراً من الركود الاقتصادي الذي نتج من الجائحة. وتتجلى الآثار الاجتماعية والاقتصادية المتواترة بفعل الوباء من خلال أعداد أماكن العمل التي أغلقت أبوابها، وجانب منها تأثر بالعراقيل التي لحقت بسلاسل الإمداد العالمية التي تعاني حالياً الأمرين بفعل التباطؤ الاقتصادي الشديد عربياً وعالمياً. كما أن الزيادات في أسعار الطاقة والمواد الغذائية، لا سيما القمح، التي تفاقمت بفعل الوضع في أوكرانيا، أدت إلى ارتفاع التضخم في كل الدول العربية، وإن بدرجات متفاوتة.
يصف التقرير وضع الدول العربية بشكل عام في أعقاب أزمة الوباء بـ"الهش". ويتخذ من لبنان نموذجاً صارخاً لذلك. ففي عام 2020، استورد 81 في المئة من حاجاته من القمح من أوكرانيا. كما أن دولاً أخرى في المنطقة في وضع بالغ الصعوبة، لا سيما في ما يتعلق بالغذاء مثل سوريا واليمن، اللذين يعتمدان بشكل كبير في وارداتهما من القمح على روسيا وأوكرانيا.
مناخ وصراعات ونزوح
يستفيض التقرير في سرد أزمات الدول العربية التي تنعكس آثارها السلبية على فرص عمل شباب المنطقة. وهي تغير المناخ والصراعات المستمرة وعدم الاستقرار السياسي والنزوح في عدد من دول المنطقة، التي تؤثر بشكل واضح في الأداء الاقتصادي للمنطقة العربية.
وعلى الرغم من وجود فروق واضحة في هذا الشأن بين دول مجلس التعاون الخليجي وغيرها، فإن هذه الآثار المؤسفة تؤثر في المنطقة برمتها وتعرقل قدرتها على تحقيق الأهداف التنموية المستدامة، وعلى رأسها الهدف الثامن وهو "نمو اقتصادي وعمل لائق للجميع".
واقع الحال يشي بتعثر اقتصادي وعمل غير لائق لقليلين. فالمنطقة العربية لم تكن تنتظر الوباء لتبدأ مسيرة المعاناة مع بطالة الشباب، إذ إن المسيرة بدأت منذ أعوام طويلة. واليوم، تنفرد الدول العربية بالنسبة الأعلى والأسرع للبطالة بين الشباب في الفئة العمرية من 15 إلى 24 سنة، فوصلت عام 2021 إلى 25.9 في المئة وهو معدل غير مسبوق. وعلى الرغم من توقع انخفاض نسبة البطالة بين الشباب العربي بنحو واحد في المئة خلال العالم الحالي، تظل النسبة أعلى من المتوسط العالمي بـ10 في المئة.
وكما هو متوقع تماماً، تحظى الشابات العربيات بنصيب الأسد في عالم البطالة، إذ وصلت النسبة بينهن إلى 42.5 في المئة العام الحالي، أي ضعف معدل البطالة بين الشباب العربي، وثلاثة أضعاف المتوسط العالمي. وهذه النسب المرتفعة بين الشابات تسري أيضاً على الشابات اللاتي لا يحظين بفرص تعليم أو تدريب مقارنة بأقرانهن من الذكور. وتطل العادات والتقاليد الاجتماعية برأسها لتعلن مسؤوليتها عن هذه الفجوة بين الجنسين.
لكن يظل الشباب من الجنسين في الدول العربية في حاجة ماسة إلى إعادة النظر بالتنوع الاقتصادي والتحول الهيكلي القادرين على توسيع فرص العمل ذات الإنتاجية المرتفعة في دول المنطقة من دون استثناء.
ويعتبر التقرير هذه الحاجة عاجلة ولا مجال لتجاهلها أو تأجيلها. ففئة الشباب هي الأكبر عدداً عربياً، ما يضع المنطقة العربية على رأس قائمة أكثر مناطق العالم شباباً. ويمكن للدول العربية أن تستفيد من هذه التركيبة الديموغرافية، لكن الفائدة لن تتحقق إلا إذا اتسم النمو الاقتصادي بتوفير فرص عمل كثيرة وجيدة ولائقة للشباب وأصبحت أنظمة المنطقة الاقتصادية أكثر استدامة ومرونة.
استدامة الاقتصاد ومرونته
احتواء واستدامة ومرونة الاقتصادات الخضراء والزرقاء والبرتقالية لديها ما تقدمه للشباب العربي. فعدد من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء يعيد النظر في نماذج النمو الاقتصادي لديه، مع توجهات واضحة تجاه الاقتصادين الأخضر والأزرق القادرين على تحقيق التنمية المستدامة وخلق فرص العمل وتخفيف حدة الفقر.
يشير التقرير إلى أن الشباب والشابات بما يملكونه من تعليم وتدريب معاصرين، إضافة إلى قدراتهم الإبداعية والابتكارية، قادرون على الاستفادة من التوسع في الاقتصادين الأخضر والأزرق.
يشار إلى أن الاقتصاد الأخضر هو الذي يؤدي إلى تحسين حال الرفاه البشري والإنصاف الاجتماعي مع الحد من المخاطر البيئية. ويعتمد على الاستثمار في القطاعين العام والخاص بما يعزز كفاءة استخدام الموارد وتخفيض انبعاثات الكربون والنفايات والتلوث، ويمنع خسارة التنوع الأحيائي وتدهور النظام الإيكولوجي.
أما الاقتصاد الأزرق، فهو الإدارة الجيدة والمستدامة للموارد المائية، مع الاعتماد على البحار والمحيطات في التنمية المستدامة والقضاء على الفقر وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، بهدف تحقيق النمو الاقتصادي وتحسين سبل العيش وخلق فرص العمل، مع ضمان احترام البيئة والقيم الثقافية والتنوع البيولوجي.
يشير التقرير إلى أن تطبيق قواعد الاقتصاد الأخضر يمكن أن تؤدي مع قدوم عام 2030 إلى ضح 8.4 مليون فرصة عمل جديدة للشباب، لكن نصيب الدول العربية منها لا يزيد على 437 ألف فرصة فقط. لماذا؟ لأن أنظمة الدول العربية أكثر اعتماداً على الوقود الأحفوري، ما يعني أنها في حاجة إلى وقت أطول وجهد أكبر للحاق ببقية العالم في قواعد الاقتصاد الأخضر.
الأفق المستقبلي ذاته ينطبق على الاقتصاد البرتقالي، أو الرقمي، في قدرته على خلق فرص عمل للشباب. فالرقمنة المتزايدة للاقتصاد والمجتمعات تؤثر بشدة في عالم العمل. ويشار إلى أن فرص العمل الرقمية لا تتوقف على أولئك الذين يستخدمون المنصات الرقمية، لكنها تشمل المنخرطين في تصنيع وتوزيع تقنيات الاتصال والمعلومات الرقمية.
إنترنت بلا حدود
لكن التقرير يشير كذلك إلى أن السياسات الهادفة إلى تطبيق إنترنت بلا حدود في المنطقة ستؤدي إلى فرص عمل متواضعة العدد قوامها 220 ألف فرصة إضافية مع قدوم عام 2030. كما أن استثمارات المنطقة العربية الموجهة لقطاعات الصحة والخدمات الاجتماعية والتعليم ستخلق 141 ألف فرصة عمل فقط للشباب العربي، وهو عدد قليل مقارنة بالفرص التي تتاح للشباب في بقية مناطق العالم.
وتنبني كل السياسات السابقة الداعمة لمختلف أنواع الاقتصاد التنموي المستدام على ما يسمى "السيناريو المجمع"، الذي يتوقع أن يؤمن 830 ألف وظيفة إضافية للشباب في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك، يظل هذا المكسب الشبابي محدوداً مقارنة بغيره في مناطق العالم.
ويشير التقرير إلى أن المبادرات القوية لدعم مستقبل عمل أفضل للشابات في المنطقة بالغة الصعوبة في ظل السياق المتقلب وغير المستقر حالياً.
تقرير "منظمة العمل الدولية" لا يركز فقط على توفير فرص عمل، لكنه يريدها فرصاً جيدة. فظروف العمل يحب أن تكون مناسبة للشباب، وهذا يتضمن تمتعهم بالحقوق الأساسية والحماية، مثل حرية تكوين الجمعيات وحق التفاوض الجماعي ومساواة الأجر لدى التساوي في قيمة العمل، إضافة إلى بيئة عمل خالية من التحرش والعنف.
البناء من أجل مستقبل مستدام لا يكتمل من دون إشراك الشباب بشكل فاعل في القرارات والسياسات. ولعل إدماجهم وإشراكهم في سبل الاستجابة لمتطلبات أزمة الوباء خير مثال للوصول إلى حلول تتمتع بالكفاءة والواقعية والابتكار، وهذه هي سمات الشباب.