كشخص ينظر إلى الأمور بواقعية، أرى أن طرح مسألة عودة المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي باتت أمراً عديم الجدوى. فهذا قد يكون ممكناً إن كان باب الطرف الآخر مفتوحاً. إلا أن سلوك بوريس جونسون المروع والذي انتهجه كرئيس للوزراء يعني أن ذلك الباب سيكون مغلقاً بإحكام في المستقبل المنظور.
للأسف لم تعد المملكة المتحدة موضع ثقة بسبب السياسة الفوضوية والكارثية التي مارسها جونسون خلال فترة حكمه، ناهيك بتجاهله القوانين والمعاهدات الدولية، بما فيها الاتفاق الذي قام باقتراحه وتحويله إلى قانون بنفسه. أما المرشحان اللذان يتنافسان للحلول مكانه، فلا يبدو أن هنالك أية مؤشرات على أنهما سيتصرفان بشكل مغاير، أو أن لديهما النية لإنهاء أجندتهما السياسية الشعبوية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدلاً من ذلك أود أن أحث أولئك الذين يدعون المملكة المتحدة لإعادة انضمامها إلى التكتل الأوروبي على تركيز جهودهم واهتماماتهم على مسائل أكثر إلحاحاً والتي قد تلحق ضرراً ببريطانيا لعقود مقبلة من الزمن. حينها يكون العمل مع الاتحاد الأوروبي والشركاء الأجانب الآخرين لإيجاد حلول مشتركة للتحديات العالمية هو السبيل لإعادة بناء هذه العلاقات.
في هذا الإطار يظل الاقتصاد مركز الثقل الأساسي، لأننا سنواجه ركوداً اقتصادياً سيكون أسوأ من بقية الدول المتقدمة الأخرى، بسبب التأثير الإضافي المترتب عن مغادرتنا الاتحاد الأوروبي، سواء أكان ذلك نتيجة النقص في العمالة، أو بسبب العوائق الجديدة في التبادل التجاري التي لم يختبرها كثيرون منا في حياتهم على الإطلاق. حتى إن بعض المحللين أصبحوا يرون أن المملكة المتحدة تكاد تظهر مؤشرات تنم عن أنها باتت أشبه بسوق ناشئة. وبعد كل هذا ما كان ينقص سوى أزمة العملة، لكن الجنيه الاسترليني ما زال صامداً على الرغم من الرياح المعاكسة والمتواترة التي تعصف بكيان الاقتصاد الكلي (الاقتصاد المرتبط بعوامل أوسع نطاقاً كاستخدام أسعار الفائدة والضرائب والإنفاق الحكومي، لتنظيم النمو وتحقيق استقرار في الإنتاجية الوطنية).
تزامن مفاعيل "كوفيد" مع انعكاسات مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي (بريكست) يعني أن جميع المؤشرات الرئيسة تشير إلى مزيد من التدهور في الأوضاع الاقتصادية في المستقبل. وهذا ما تؤكده النتائج الأخيرة التي توصل إليها "صندوق النقد الدولي"، والتي تفيد بأن الأسر الأكثر فقراً في المملكة المتحدة باتت الآن الأشد تضرراً في أوروبا جراء أزمة ارتفاع كلفة المعيشة. وأياً كان شكل المبررات والأعذار التي سيلجأ إليها حزب "المحافظين" فلقد أخل بالتأكيد بالعقد الاجتماعي مع غالبية الناس في بلادنا.
أما السياسيون البريطانيون فما زالوا يتحدثون بشغف عن استعادة الأمجاد الغابرة التي ولت منذ زمن، إن لجهة المناداة بقيود مخففة أو اعتماد سياسة ضريبية مخفضة، أو بعقلية اعتبار أن إنجلترا هي أفضل من باقي دول المملكة، والجنوح بعيداً من الاقتصادات المجاورة من خلال خوض حروب مزيفة في شأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. في الوقت الذي تسعى فيه دول ومنظمات دولية أخرى مثل "منظمة التجارة العالمية" ودول الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز الابتكار التكنولوجي واعتماد التكنولوجيا الرقمية من خلال توطيد التعاون على مستوى السياسات الدولية.
لقد حان الوقت كي تجلس المملكة المتحدة مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي بهدف بلورة أرضية مشتركة في المجالات التي ستفيد كلا الجانبين. وهذا يعني تحديد مجالات الأهلية والكفاءة المالية، مع التزام الصدق والنزاهة في شأن حرية التنقل لمعالجة أزمة نقص العمالة التي تصيب مختلف قطاعات الاقتصاد والخدمات العامة في المملكة المتحدة تقريباً، فقد تبين لـ"غرف التجارة البريطانية - British Chambers of Commerce" أخيراً أن أكثر من 75 في المئة من الشركات تواجه صعوبات في التوظيف، وتطلب مساعدة الحكومة من أجل سد فجوة النقص الحاد في اليد العاملة.
إننا كثيراً ما ننسى كيف نشأ الاتحاد الأوروبي، فلقد كان التعاون الوثيق في أوروبا بمثابة خطة للسلام. وكما قال السير ونستون تشرشل (رئيس الوزراء البريطاني الراحل)، "إن الهدف هو إعادة صياغة النسيج الأوروبي، أو أكبر نسبة ممكنة منه، وتزويده ببنية يمكن أن يعيش في ظلها بسلام وأمان وحرية".
في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها العالم ونشوء تحالفات جديدة تدعو إلى القلق، فإن من مصلحة المملكة المتحدة البقاء إلى جانب الاتحاد الأوروبي من أجل توفير السلام والأمن في جميع أنحاء العالم. وهذا هدف أسمى بكثير من عملية الاستغراق المفرط في التفكير بمصالحها الذاتية التي عمد إليها أنصار "بريكست"، إذ إن هؤلاء ينكبون بحنكة على تحويل النقاش المشروع حول مستقبل بلادنا إلى ذريعة للقول إن أي شخص يلمح إلى المشكلات التي تسببت بها مغادرة الكتلة الأوروبية لا يتمتع بحس وطني.
فلنأخذ الانسحاب من أفغانستان مثالاً على ذلك، ذلك البلد الذي شهد تحرك عدد من الدول على أساس أحادي الجانب. كان يمكن لانسحاب منسق على المستوى الإقليمي أو حتى العالمي أن يتم بشكل أكثر فاعلية، خصوصاً إذا كنا قد وافقنا على إبقاء قوى مشتركة لحفظ السلام على الأراضي الأفغانية.
لا شك في أن القضية التي سيكون لها التأثير الأكبر علينا في المستقبل هي تغير المناخ، المشكلة التي لا حدود لها. ولهذا يتعين علينا تحقيق التكافؤ مع معايير الاتحاد الأوروبي، والحد من البيروقراطية في تجارة المواد الغذائية، والتأكيد أن التزاماتنا المناخية غير قابلة للتفاوض من خلال تعزيز تأييدنا أهداف "القمة السادسة والعشرين للتغير المناخي" Cop26، إضافة إلى الشراكة مع الاتحاد الأوروبي و"مجموعة الدول السبع" G7، من أجل دعم الدول الأقل تقدماً على التكيف مع كوكب يزداد احتراراً. وإذا لم نلتزم بذلك فإننا سنشهد موجات هجرة جماعية لملايين من البشر ستؤثر فينا جميعاً.
أخيراً لا بد من الإشارة إلى أن إحدى القضايا الكبرى تتمثل في عقلية "الكاوبوي" (المهيمنة) لعمالقة التكنولوجيا والبرمجة التي باتت تطغى على عصرنا الراهن. فمرة أخرى لا يمكن ترسيخ عوامل السلامة والأمن والضرائب عبر الإنترنت وجعلها تعمل بفاعلية إلا من خلال اتفاقات دولية. في وسعنا أن نفرض عقوبات على أي تصرف خاطئ، كالتدخل في الحملات السياسية أو ارتكاب إساءة عنصرية، لكن لا يمكن أن ننجح في ذلك إلا إذا تم ضبط تلك المنصات، ولا سيما تلك التي تخدم مصلحة الأسواق المربحة التي هي في متناولها. وبالنتيجة لا بد لقوانيننا وعقوباتنا أن تكون متوافقة ومنسجمة مع تلك التي يعتمدها ويطبقها الاتحاد الأوروبي. لا يمكن لأي من الطرفين أن يتعامل بمفرده مع هذه المسائل.
أتفهم السبب وراء رغبة كثير من البريطانيين في معاودة انضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي، فبعد أن كانت المزايا لدينا لا تعد ولا تحصى، فإذا بها تتلاشى كـ"الدموع وسط المطر" في استعارة وردت في أحد الأفلام الشهيرة. مع ذلك يجب أن نتعامل مع الأمور التي نواجهها الآن، لا التي نتمناها أن تكون. العودة إلى الاتحاد الأوروبي باتت غير ممكنة، ولدينا أولويات أخرى هي أكثر إلحاحاً.
جينا ميلر هي زعيمة حزب "الحق والعدل" True & Fair Party في المملكة المتحدة
© The Independent