إن كانت "مجاهر" الباحثين والمستكشفين لحضارات القدماء بالسعودية لا تزال تتقصى بعضاً من كنوز أرضها القديمة، فباحثو جامعة "أوكسفورد" قد شغفهم النظر لعجائب صحراء الجزيرة العربية بأدوات حديثة من بعد 4700 كيلومتر عبر الأقمار الاصطناعية، وذلك بعد نشر الجامعة العريقة "لأكثر من 32 مصائد طيور حجرية" يعود تاريخها إلى مئات السنين.
ونشرت الجامعة التي تهتم بالأبحاث عبر باحثين اثنين بحثاً قالت إنه "مسح شامل بالاستشعار عن بعد"، وهو ما أظهر مصائد طيور حجرية تقع في أرض الحضارات القديمة "العلا"، وحرة الوعيري وهي على مقربة منها.
وقالت الجامعة عبر مشروع EAMNEA الذي يستخدم تقنية استشعار لتسجيل وتحديد الآثار المهددة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إن ثمة 175 مصائد أخرى تتخذ من الحرف v شكلاً، وهي التي حددت سابقاً من قبل السعوديين وتقع في المناطق الجبلية وعلى طول الامتدادات الغربية للدرع العربي في شبه جزيرة سيناء وصحراء النقب وجنوب غربي السعودية.
مصائد حجرية
ورجحت الجامعة أن تكون المجسمات لمصائد حجرية تتكون في سياقات بيئية وجيولوجية وتمثل مجمعاً متميزاً، وتركيزاتها الأكثر كثافة تقع في غرب آسيا وغرب شبه الجزيرة العربية، من سوريا والأردن وشمال غربي السعودية، كما أن لها آثاراً شمال قارة أفريقيا.
وذكرت الجامعة أنه "تم التعرف على الهياكل الحجرية المعروفة باسم المصائد الحجرية للمرة الأولى في العصر الحديث في الشام، وتحديداً على طول الأراضي الأردنية من قبل طياري سلاح الجو الملكي الذين رأوها أثناء تحليقهم في طريق البريد الجوي من شرق الأردن إلى العراق عام 2012".
واستخدمت الدراسة مجموعة من البيانات التي جمعت من خلال الاستشعار "عن بعد" بالأقمار الاصطناعية والمسح الجوي كجزء من مشروع (AAKSAu)، وأجري مسح أولي للاستشعار عن بعد لمدينة العلا شمال غربي السعودية، باستخدام صور الأقمار الاصطناعية المتاحة مجاناً على واجهات الكرة الأرضية الرقمية (بشكل أساسي Google Earth) في عام 2018.
تقول الجامعة عبر موقعها الرسمي، "يعد الاستشعار عن بعد والمسح الجوي أكثر الوسائل فاعلية لتحديد هذه الهياكل ومداها الكامل، كما يمكن أن تمتد الجدران على مدى كيلو مترات، وغالباً لا تقف أعلى من نصف متر، مما يجعل من الصعب تحديد وتصور الهياكل بأكملها من الأرض، ومع ذلك فإن اكتساب فهم أفضل للتفاصيل الدقيقة للهيكل يتطلب تحقيقاً أرضياً،
وهذه الهياكل أو ما يعرف بالمصائد الحجرية بنيت لتسهيل الصيد، بخاصة الغزلان والوعول عن طريق تلك الفخاخ".
مستطيلات الصحراء
ويأتي هذا البحث بعد أشهر من اكتشاف "مستطيلات الصحراء"، وهي هياكل مستقيمة ضخمة في محافظتي العلا وخيبر (شمال غربي السعودية)، وأوضحت دراسة بكامبردج أنها تضم غرفاً ومداخل وأحجاراً منتصبة، يمكن تفسيرها على أنها منشآت لممارسة طقوس تعود إلى أواخر الألفية السادسة قبل الميلاد، إذ كشفت الحفريات الأخيرة عن أقدم دليل على عبادة الماشية في شبه الجزيرة العربية.
وتعد المستطيلات من بين أقدم الآثار الحجرية في شبه الجزيرة العربية، وواحدة من أقدم تقاليد البناء الأثرية التي تم التعرف إليها على مستوى العالم.
وحددت آلاف من الهياكل الحجرية في جميع أنحاء هذه المنطقة وبشكل أوسع في شبه الجزيرة العربية، وتعرف هذه الهياكل مجتمعة باسم "إنجازات الإنسان القديم"، ويتدرج تاريخها من عصر "الهولوسين الأوسط" (ما بين 6500-2800 قبل الميلاد) حتى الوقت الحاضر، وهناك افتراضات عدة بأنها قد تكون علامات إقليمية.
وتتراوح أشكال الهياكل ما بين المقابر والأبراج والمدافن "المزينة"، إلى رموز صخرية ومصائد كبيرة للحيوانات الضخمة وهياكل في الهواء الطلق مثل البوابات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من بين الأشكال المذكورة حظي ما يسمى بـ"البوابات" باهتمام محدود، وسجلت هذه الهياكل الضخمة المعزولة في غرب شبه الجزيرة العربية للمرة الأولى خلال الدراسات الاستقصائية في السبعينيات، على كل حال لم تجر أول دراسة منهجية لهذا النوع من العلامات إلا في عام 2017.
ما وراء العلا
بحث جامعة أوكسفورد يأتي لمواصلة الطريق نحو الإجابة عن أسئلة كثيرة يدور رحاها شمال السعودية، يقول أحد الباحثين وهو يواصل استكشاف بعض من التفاصيل "نود تكوين فكرة شاملة عن التسلسل التاريخي للموقع، نريد إجابة عن أسئلة كثيرة"، وهو أحد أفراد باحثين ضمن فريق "سعودي - فرنسي" مشترك ينقب في مواقع متفرقة داخل العلا منذ مطلع 2020.
وعلى الرغم من أن الفريق تعطل لفترة من الزمن بسبب الإغلاق والظروف الصحية التي اقتضتها جائحة كورونا، فإنه استمر في بحثه عن آثار مملكتي دادان ولحيان القديمتين، اللتين طواهما النسيان منذ أمد بعيد.
وتشتهر العلا التي أصبحت منذ فتحها للعامة في 2019 وجهة سياحية رئيسة بالمقابر الملكية في الحجر أو ما يعرف بـ"مدائن صالح"، التي حفرها الأنباط في الصخور منذ 2000 عام، وهم ذاتهم من بنوا مدينة البتراء في الأردن قبل ظهور الإسلام.
خمسة مواقع
ويركز فريق من متخصصي الآثار الفرنسيين والسعوديين الآن على الحفر في خمسة مواقع قريبة مرتبطة بالحضارتين الدادانية واللحيانية، اللتين كانتا تمثلان قوى إقليمية مهمة ازدهرت قبل 2000 عام.
وقال عبدالرحمن الصحيباني، الذي يشارك في إدارة بعثة الآثار الخاصة بدادان، إن المشروع يحاول فك ما يحيط بهاتين الحضارتين من غموض.
ومملكة دادان مذكورة في العهد القديم، أما مملكة لحيان فقد كانت من أكبر الممالك في زمانها، وامتدت من يثرب (المدينة المنورة حالياً) في الجنوب إلى العقبة شمالاً (الأردن حالياً)، وفقاً لما تقوله الهيئة الملكية بالعلا القائمة على المشروع.
وظلت المملكتان قائمتين على مدار قرابة 900 عام حتى عام 100 في التقويم الميلادي، وكانتا تسيطران على طرق التجارة الحيوية، لكن المعلومات عنهما شحيحة لا تذكر، ويأمل الفريق في معرفة مزيد عن طقوس العبادة والحياة الاجتماعية والاقتصاد في المملكتين.
واكتسبت العلا مكانة بارزة في مسعى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لإحداث تغيير كبير في شكل الاقتصاد والمجتمع السعوديين، وتعول المملكة على السياحة في إطار محاولاتها للانفتاح على العالم وتنويع مواردها الاقتصادية، بدلاً من الاعتماد على النفط.
ويمثل مشروع تطوير العلا خطوة ترمي إلى صيانة المواقع التراثية لما قبل ظهور الإسلام من أجل جذب السياح.