كثيراً ما تحتفي المطبوعات والدوريات الثقافية والفكرية بذكرى مرور عقود على تأسيسها. لكن من النادر أن يصبح هذا الاحتفاء سلسلة نشاطات ممتدة على أشهر في باريس عاصمة الأنوار. هذه هي حال "بوزيتيف" هذه الأيام، المجلة الفرنسية العريقة، المتخصصة في النقد السينمائي التي مضى على تأسيسها هذا العام 70 سنة، أي أكثر من نصف عمر السينما مذ ولدت على يد الأخوين لوميير في ليون، وهي أيضاً المدينة التي أبصرت فيها بوزيتيف النور عام 1952. وأراد القائمون الحاليون على المجلة احتفالاً ليس بأنفسهم أو بإنجازاتهم، بل بالأفلام التي أحبوها ودافعوا عنها هم وأسلافهم طوال تاريخهم الذي كتبوا خلاله سيرة السينما، نقداً وتحليلاً ومتابعة نهمة. بدأت النشاطات الاحتفالية في مايو (أيار) الماضي وتستمر حتى أبريل (نيسان) من العام المقبل، وهي انطلقت بنشاط يحمل عنوان "70 عاماً من السينما الأميركية: 7 أفلام، 7 عقود، 7 أغلفة"، وهو كما يشير عنوانه عرض في صالة "لو غران أكسيون" الباريسية لسبعة أفلام أميركية تصدرت غلاف المجلة طوال سبعة عقود متتالية، "الثور الهائج" لمارتن سكورسيزي هو الفيلم الذي يمثل الثمانينيات على سبيل المثال. هناك أيضاً في السينماتك الفرنسية استعادة لأفلام المخرج الألماني دوغلاس سرك (عمل في هوليوود بعد هجرته إليها هرباً من النازية) بالشراكة مع "بوزيتيف" التي تخصص عدداً خاصاً عن أمير الميلودراما في عدد أيلول المقبل، وهو الشهر الذي ينطلق فيه أيضاً معرض لكل أغلفة المجلة التي ظهرت عليها بواكير مخرجين معروفين، إضافة إلى نشاطات متنقلة في عدد من المدن الفرنسية مثل مونبيلييه وأميان وتولوز.
بلا انقطاع
قد يستغرب القارئ العربي الذي يعيش في بلدان لم يستمر فيها يوماً مشروع ثقافي واحد بلا انقطاع، أن تواصل مجلة سينمائية سبعينية مسارها مع قرائها وتفرض حضورها المتجدد في المشهد الثقافي الفرنسي والأوروبي والدولي. لكن في الحقيقة يجب ألا ننسى أننا نتحدث عن مجلة تصدر في فرنسا حيث صالات السينما الفنية لا تحصى وحيث تقليد عريق في المشاهدة والمناقشة وكتابة النقد، وهي البلد التي تنتج سنوياً أكثر من 300 فيلم، إضافة إلى تمسكها بـ"الاستثناء الثقافي"، أي المبدأ القائم على فكرة المتاجرة بكل شيء سوى بالثقافة. حتى الذين لم تطأ أقدامهم أرض فرنسا، تعلّموا كثيراً، لا بل تتلمذوا على مجلات مثل "دفاتر السينما" (1951) و"بوزيتيف" (1952)، فطوال عقود وحتى يومنا هذا، بقيت هاتان المجلتان مرجعين أساسيين لفهم السينما ولتلبية حاجتنا كقراء فرنكوفونيين يريدون التعمق في فهمهم لفن الشاشة.
بالنسبة إلينا، نحن الذين نشأنا على هامش الثقافة الفرنسية وفي دول انتدبتها أو استعمرتها فرنسا سابقاً، كان لكل من "دفاتر السينما" و"بوزيتيف" تأثير كبير، خصوصاً لدى الجيل الذي كان "يسمع" عن الأفلام قبل مشاهدتها، فتلك الأفلام التي كانت تتناولها المجلة بأقلام كتابها لم تكن متوافرة في دول عربية كانت (ولا تزال) السينما الهوليوودية فيها هي المسيطرة. تلك الأفلام الأوروبية التي لطالما بحثنا عنها في متاجر تأجير الفيديو وأحياناً بلا جدوى، فلم يكن يبقى لنا سوى أن نغمض أعيننا ونتخيل بعض تلك الأفلام بعد أن نكون قرأنا عن القصص التي تدور حولها. غني عن القول أن منصات العرض التدفقي قضت على هذا كله، فبات كل شيء متوافراً ببعض النقرات هنا وهناك.
يقول الناقد السينمائي المغربي صلاح سرميني المقيم في باريس عن "بوزيتيف": "أصبحت المجلة سبعينية العمر وهو عمر طويل لمجلة سينمائية، لكنها لا تزال شابة. طوال كل تلك السنوات، لم تتوقف عن الدفاع عن رؤية ملتزمة ومستقلة. عندما انتبهت إلى ذكرى سبعينيتها، اعتقدت بأنها سوف تكتفي بإصدار عدد تذكاري، لكنها فعلت أكثر من ذلك إذ إنها بادرت إلى تنظيم نشاطات سينمائية تعيد إلى الأذهان أفلاماً تعبر عن رؤيتها التي تروج لها، وتدافع عنها نقداً وتحليلاً في صفحاتها. من منا، نحن الذين فشلنا في الحفاظ على مجلة سينمائية واحدة في العالم العربي، يصدق بأن هذه ’بوزيتيف‘ المعمرة أصدرها شخص واحد برنار شاردير وفي مدينة ليون أي بعيداً من المركز، ومع ذلك أصبحت مجلة تنافس تلك التي صدرت في باريس، أي ’دفاتر السينما‘ من طرف أسماء معروفة أصبحت لاحقاً منارات سينمائية في النقد والإخراج؟".
بلاد النقاد
تاريخياً، عدد كبير من مجلات السينما صدرت في فرنسا. كان بعضها يصدر ثم يختفي فجأة أو تدريجاً. هكذا كانت الحال دائماً، صعود ثم هبوط فاختفاء كلي. كل هذه المطبوعات صنعت جزءًا لا يستهان به من الحركة النقدية في بلاد كان يقول عنها فرنسوا تروفو إن الكل فيها نقاد. تعددت تجارب إصدار المجلات السينمائية، إلا أن المرتبة الأولى احتلتها ولا تزال تحتلها "دفاتر السينما" و"بوزيتيف". ما هو السر وراء استمرارهما؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لكن في حالة "بوزيتيف" هناك جملة أسباب جعلتها تبقى وتتمدد: الدعم المالي والمعنوي والأقلام التي صنعت مجدها والقراء الأوفياء لها ومستوى المادة التي تقدمها، من مقابلات حصرية إلى مقالات نقدية فملفات قيمة. لم تتكرس "بوزيتيف" عند القراء فحسب، بل عند السينمائيين كذلك، فلويس بونويل كان يعشقها ومارتن سكورسيزي وصفها ذات مرة بـ"أفضل مجلة سينما في أوروبا".
كأي أمر نخبوي، ليس لـ"بوزيتيف" الملايين من القراء، لكن لا يستطيع محب السينما أن يتصفحها من دون أن يشعر بأن ثمة "كتاباً" ثميناً بين يديه. كل عدد جديد منها ينطوي على "أدب" السينما، لا مجرد معلومات حولها في زمن فرض الفصل بين المعلومات والثقافة. ولادتها في ليون صاغت هويتها والقراء نظروا إليها منذ البداية بشيء من الغرابة، لأنهم لم يستطيعوا تصنيفها، وبكونها ولدت في ليون، فهذا يعني أنها ولدت في منأى عن الـ"سنوبية" الباريسية، وهذا ما أعطاها صبغة مختلفة تقع في وقار بعيد من التكلف والتعقيدات التي زجت فيها "دفاتر السينما"، خصوصاً في مرحلتها التي سميت المرحلة الماوية. منذ البداية، راحت السوريالية تتغلغل في شرايين المجلة، بعدما انضم إليها أشخاص مثل أدو كيرو وروبير بينايون ولاحقاً جيرار لوغران، ثم كل الذين كانوا من الحركة السوريالية التي كانت في الأصل حركة استطاعت ردم الهوة بين ما يسمى الفن الراقي وفن السذج، وتولت "بوزيتيف" المهمات التي قام بها السورياليون في مجال الفن التشكيلي.
الذكاء السينمائي
كانوا يحبون "فانتوماس" والرواية الغوطية الإنجليزية وروايات الرعب. ساعدتهم السوريالية كثيراً لاتخاذ مواقف إيجابية ودفعتهم إلى الاهتمام بالسينما الأميركية، خصوصاً فيلم الـ"جانر" أو الـ"بيبلوم" الإيطالي. أيضاً ما جعل "بوزيتيف" مميزة هو أن عدداً من الطلاب الجامعيين كتبوا ولا يزالون يكتبون فيها، وسعت إدارتها دوماً إلى الحصول على أفضل من في الجامعات، أي ذكاء التحليل والجدية والبحث، لكنهم حرصوا مع ذلك على عدم الوقوع في الأكاديمية المملة، وما أعطاهم أيضاً طابعاً خاصاً هو يساريتهم خلافاً لـ"دفاتر السينما" التي كانت تنحاز إلى اليمين في خمسينيات القرن العشرين. ويتذكر ميشال سيمان (84 سنة) الذي ترأس تحرير المجلة لأعوام أنه في مرحلة من المراحل ترتبت على المجلة نتيجة الالتزام بـ"قيم" السوريالية، مواقف رافضة للدين، لذا لم يتحمل كتابها أفلام روسيلليني وهيتشكوك وبروسون الذين كانوا يتناولون دوماً مواضيع الخطيئة والرحمة وهذه المواقف يصفها سيمان اليوم بالغبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الأمور التي برعت فيها "بوزيتيف" فن إجراء المقابلة. نجد في كل عدد منها ثلاث مقابلات مع أصحاب أفلام تعرض في الشهر ذاته، والمقابلات هي دائماً في خصوص الأفلام التي هتفت لها قلوب النقاد، أي إنها مقابلات أرادها القائمون على المجلة وسعوا خلفها، لا مجرد دس لمواد غير مرغوب بها نشرت لأغراض دعائية. في الأعوام الأخيرة، كانت كل مقابلة تزينها صورة بكاميرا المصور الموهوب نيكولا غيران لتصبح المادة متعة للعين أيضاً. لم يصعب على "بوزيتيف" الحصول على أسماء كبيرة، كانت هوليوودية أو من رموز الحداثة الأوروبية التي صنعت مجد السينما. طوال أعوام، نشرت المجلة مقابلات مع أندره تاركوفسي وموريس بيالا وفيديريكو فيلليني وميكلأنجلو أنتونيوني ووودي آلن وفرنسيس فورد كوبولا وغيرهم كثر. وكما "دفاتر السينما" التي ردت على يد تروفو وشابرول ورومير بعض الاعتبار إلى أمثال ألفرد هيتشكوك وهاورد هوكس بعدما اعتبرا في بلادهم مجرد حرفيين، فكان هناك في فريق "بوزيتيف" من يدعم شلة أخرى من السينمائيين وعلى رأسهم جون هيوستن وترنس ماليك وجون بورمان وثيو أنغلوبولوس وستانلي كوبريك.
واستفادت المجلة كثيراً في عقودها الأخيرة من اسم ميشال سيمان، أحد شيوخ النقد في أوروبا والصحافي السينمائي الوحيد الذي حاور ستانلي كوبريك مرات عدة، إضافة إلى كتبه عن جوزف لوزي وإيليا كازان وجاين كمبيون... سيمان أتقن فن الحوار: أسئلة بسيطة غير مقنعة بالاستعراض، معرفة عميقة بأعمال المحاور السابقة… وهكذا أضحت الحوارات المشغولة بدقة نقطة قوة المجلة التي قال عنها ناقد "لو موند" صامويل بلومنفلد إنها "تبحث عن المواهب من دون تعقب الموضة".