عندما نقول نقلاً عن الإحصاءات الموثوقة إن "عايدة" قد احتلت الترتيب 25 بين أنجح العروض الموسيقية في أميركا وحدها منذ عروضها الأولى، سيتعين على القارئ أن يتمهل قليلاً، فلا يخطر في بال أحد أن أوبرا "عايدة" يمكن أن تكون قد حققت خلال 23 سنة من عروضها الأميركية الأخيرة ما يقرب من 166 مليون دولار، حتى وإن كنا غير مخطئين في الاسم. فالمعني حقاً ليس بالتحديد مغناة "عايدة" المعروف أن الموسيقي الإيطالي جيوزيبي فيردي قد لحنها في أواخر القرن التاسع عشر بناءً على طلب من الخديوي المصري إسماعيل، لتفتتح بها دار الأوبرا القاهرية ولمناسبة الحفل العالمي الضخم الذي أقامته مصر لمناسبة افتتاح قناة السويس في عام 1869، لكن الحديث عن أوبرا "عايدة" في هذا السياق قد يكون صحيحاً لكنه بالتأكيد غير دقيق. فالاستعراض الذي حقق من المداخيل كل تلك العشرات من ملايين الدولارات كان فقط مقتبساً عن الأوبرا الشهيرة -التي يمكننا أن نقول إنها من المستحيل أن تحقق مثل تلك الأرقام، على الرغم من شهرتها التي تجعلها واحدة من أكثر الأوبرات شعبية في هذا الفن، والتي لم تقدم من قبل فيردي في الموعد المضروب فأجل تقديمها المصري الأول يومها- إنما في تحديث ينتمي إلى بدايات القرن الحادي والعشرين ويحمل توقيع المغني والموسيقي العالمي إلتون جون، إلى درجة أن الصحافة اعتادت الحديث عن هذه "العايدة" تحت عنوان "إلتون جون عايدة" تمييزاً لها عن الأوبرا الكبيرة.
على خطى فيردي
والحقيقة أن هذه المغناة المعاصرة تنطلق حقاً من "عايدة" الأساسية ولكن ليس من موسيقى فيردي، بل إن إلتون جون وضع لها موسيقى أخرى تماماً وعلى كلمات كتبها تيم رايس تختلف كثيراً عن تلك التي كتبها أنطونيو غيسلانزوني لشريكه فيردي، ولكن دائماً من حول نفس الموضوع المصري – النوبي، ولكن مروراً من خلال كتاب للصغار يروي حكاية عايدة نفسها المعروفة، ولكن على طريقته المبسطة وربما تيمناً بأعمال كثيرة من هذا النوع كانت تبسط مآثر إبداعية من الماضي لتقديمها للصغار. ولقد كان الكتاب الذي صدر في بدايات تسعينيات القرن العشرين من النجاح بحيث إن شركة ديزني سارعت إلى شراء حقوق اقتباسه في عرض لم تعلن يومها كثيراً من تفاصيله، لكنها كانت تعمل بدأب وبخاصة مع الموسيقي إلتون جون الذي كان قد حقق نجاحاً كبيراً مع مغناة "الملك الأسد" الموجهة أصلاً كذلك للأطفال والتي كانت بداية عروضها عام 1997. وما لبثت "عايدة" المعاصرة أن قدمت في العام التالي على الرغم من أن جون كان لا يتوقف عن إعلان عدم رغبته في خوض التجربة ثانية، على اعتبار أن هذا النوع من العروض بات يجازف بأن يكون نخبوياً على الرغم من المليار ونصف المليار دولار التي حققها "الملك الأسد". وهكذا ظهرت "عايدة" الجديدة بشكل مباغت في أطلانطا عام 1998 لتعرض في العام التالي في شيكاغو وتنتقل منها إلى برودواي ومنها إلى جولات أميركية بدءاً من عام 2002، معيدة في طريقها الحياة إلى الأوبرا الأصلية التي راحت تقدم من جديد بحلتها القديمة ولكن من دون أن تحقق واحداً في المئة مما حققته "عايدة إلتون جون". ويومها حتى وإن كان قد جرى التعارف على أن هذه الأخيرة عمل للصغار، فإن بعض الأغنيات التي غناها إلتون جون ولي آمس رايمس، ولا سيما أغنيتهما المشتركة "كتب على النجوم"، وصلت إلى المراكز الأعلى في لوائح الأسطوانات الأكثر مبيعاً بعد فوز موسيقى المغناة بأربع جوائز "طوني" وخمس جوائز "غرامي" وهي الجوائز الأرفع التي تمنح في عالمي المسرح والغناء.
انطلاقة من زمننا
والحقيقة أن الموسيقى والأغنيات لم تكن وحدها مختلفة عما لدى فيردي. فهناك تجديدات قد لا تمس بجوهر حكاية "عايدة، لكنها تنطلق انطلاقة مختلفة لا تخلو من طرافة تتوجه إلى الصغار. ففي الفصل الأول تقدم لنا المغناة الحكاية من خلال قاعة متحف معاصر وتحديداً داخل جناح مصري. ويطالعنا رجل وامرأة بين الزوار يبدو وكأنهما ليس فقط وقعا في الهوى منذ النظرة الأولى، بل كأنهما يعرفان بعضهما بعضاً منذ أزمان بعيدة. وتصدح الأغنية الغرامية الرائعة هنا لتخبرنا وبغناء تمثال للفرعونة الأنثى أمنيريس كان من معروضات المتحف لكن الحياة دبت فيه فجأة، بأن "كل حكاية حكاية حب". وتنتقل بنا الأغنية من الجناح المصري في المتحف المعاصر إلى مصر القديمة ليطالعنا هذه المرة راداميس قائد الجيش المصري العائد لتوه من حملته المظفرة على النوبة مصحوباً بعدد من الأسرى النوبيين ومن بينهم الحسناء عايدة التي لا يعرفون -إذ قبضوا عليها في جمع من بنات شعبها- أنها الأميرة عايدة ابنة ملك النوبة. ومنذ البداية تبدو عايدة مختلفة وتحاول حتى الفرار بتواطؤ من حارسها لكن راداميس ينتبه إلى ذلك ويردعها، ثم يطلب منها أن تغسل له ظهره فترفض قائلة له إنكم أنتم معشر المصريين قد انتزعتم منا كل شيء لكنكم لن تنتزعوا كرامتنا. وكما في الأوبرا القديمة ولكن على وقع موسيقى دينامية، يلوح على راداميس أن الفتاة المتمردة قد راقت له، وهكذا ينقذها هي ورفيقاتها من المصير الذي كان من نصيب بقية الأسرى الذين أرسلوا ليعملوا في المناجم وانتهى بعضهم ميتين من التعب والجوع وحرارة الشمس القاتلة.
سياسة وحب
وطبعاً ستتتابع الأحداث هنا كما نعرفها في أوبرا فيردي، من تصلب عايدة في مواقفها ومحاولات راداميس التقرب منها، وصولاً إلى الأطر السياسية التصالحية التي جعلها فيردي الإطار الحدثي، المختلق بالطبع، لأوبراه الشهيرة. وعلى هذا النحو يمضي الفصل الأول ليتلوه الثاني الذي تتعقد فيه الأحداث ولا سيما بعد وصول أموناسرو ملك النوبة ووالد عايدة، بالتالي انكشاف الهوية الحقيقية لتلك الأسيرة المشاكسة التي خلبت لب القائد المصري، فباتت تصرفاته وحتى تدخلاته السياسية لترتيب خلافة الفرعون الذي رحل واشتد الصراع حول خلافته محكومة بنيله رضا عايدة، التي نعرف أنها أحبته لكنها عازمة على ألا تكشف عن الحقيقة حتى اللحظة المناسبة. وبالفعل سيدور الفصل الثاني من حول المناورات في البلاط كما من حول موقف راداميس الذي بات أكثر التباساً وحيرة تماماً كما هي الحال في الأوبرا الأصلية، ولكن دائماً انطلاقاً من ذهنية بالغة الحداثة ومن موسيقى وأغنيات تنتمي إلى أواخر القرن العشرين – تماماً كما فعل فيردي نفسه حين كتب لأوبراه موسيقى تنتمي إلى نهايات القرن التاسع عشر وهو يتصور أنه يكتب موسيقى "فرعونية"!
عودة إلى الحاضر
المهم أن كل هذا، أي التشابك بين التاريخ والسياسة والحب وتحرر الشعوب والتصالح الذي يفرضه الغرام بين الأمم، حتى وإن كانت نهاية العاشقين التراجيدية هي الثمن الذي لا بد من دفعه، سيعيدنا في آخر الفصل الثاني والأخير إلى المتحف المعاصر الذي كنا قد انطلقنا منه أول الأمر لنجدنا في الجناح المصري نفسه الذي كنا بدأنا معه، ونجدنا في حضرة أمناريس، صاحبة التمثال، التي كانت المنتصرة لتتولى منصب الفرعون فتنشدنا هذه المرة أغنية ختامية تقول لنا فيها "ها هو ذا موت العاشقين يلف ملكوت السلام" وتعني بين النوبة ومصر، فيما هي تنظر بحنو بينما تستعيد كينونتها كتمثال من مقتنيات المتحف، إلى الرجل والمرأة أنفسهما المعاصرين واللذين سنجدهما نوعاً من التقمص المعاصر لراداميس وعايدة يلتقيان بلهفة فيما نستعيد أغنية البداية "كل حكاية حكاية حب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مسار فنان عصامي
وبقي أن نذكر هنا أن إلتون جون الذي يكاد يكون أكبر وأشهر مغني وموسيقيي "البوب" و"الروك" و"السوفت روك"، في زمننا هذا، فنان بريطاني ولد عام 1947، وحقق مكانته الكبيرة بعصامية نادرة في عالم الغناء الشعبي وغالباً من دون أن يعتمد على فريق يقدم من خلاله الغناء الجماعي الذي ساد في شبابه. وهو اشتهر خصوصاً بغنائه مرات عديدة مع لوتشيانو بافاروتي (1996)، كما من خلال الحفل الضخم الذي غنى فيه مع زميله ستيفي (1998) في البيت الأبيض في حضور الرئيس بيل كلينتون والوزير الأول البريطاني توني بلير، غير أن لحظة "المجد" الكبرى في حياته كانت في كاتدرائية وستمنستر في لندن حين أنشد للمرة الأولى أغنيته الرائعة "شمعة في الريح" candle in the wind ولكن في تلك المناسبة التي سيقول دائماً إنها كانت أتعس مناسبة في حياته: مناسبة مراسم جنازة الأميرة ديانا إثر مقتلها في حادثة السيارة الشهيرة عام 1997.