بمجرد إعلان الرجل الأكثر شهرة في مواجهة فيروس كورونا ومدير المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية أنتوني فاوتشي تقاعده بنهاية العام الحالي، اشتعل الخلاف حول إرثه حتى قبل أن يغادر مقعده الذي شغله على مدى عقود، فبينما أشاد به البيت الأبيض معتبراً أنه أنقذ عدداً من الأرواح طوال حياته الحافلة بالعمل العلمي الدؤوب ضد كثير من الفيروسات والأمراض، اعتبر نجل الرئيس السابق دونالد ترمب جونيور أن الرجل يحاول تجنب استجوابه في مجلس النواب المقبل، لأنه فعل كل شيء بشكل خاطئ ولفترة طويلة، فمن هو فاوتشي وكيف جذب الأضواء وسط أزمة كورونا، ولماذا يثير كل هذا الصخب حتى الآن؟
روايتان متناقضتان
بالنسبة إلى إدارة الرئيس بايدن والليبراليين ووسائل الإعلام الرئيسة في الولايات المتحدة، يعتبر فاوتشي أحد الأيقونات العلمية الجديرة بالاحترام، على الرغم من بعض الأخطاء التي وقع فيها، فالرجل البالغ من العمر 81 عاماً تفانى في تقديم المشورة لسبعة رؤساء سابقين في الولايات المتحدة، بدءاً من الرئيس الجمهوري رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي وانتهاء بالرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن، وخلال هذه الفترة أثبت نجاحاً مميزاً من موقعه بالخطوط الأمامية في مواجهة أوبئة وأمراض العصر الحديث، من الـ "إيدز" والـ "إيبولا" إلى "الجمرة الخبيثة" و"زيكا" وانتهاء بـ "كورونا".
لكن بالنسبة إلى اليمين المحافظ فهو متهم بخيانة الأمانة والفساد وإساءة استخدام السلطة والأكاذيب المتعددة تحت القسم، وأنه سيظل عرضة للاستجواب في مجلس النواب حول أصول فيروس كورونا إذا استعاد الحزب الجمهوري السيطرة على المجلس، وهو ما أوضحه زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب كيفين مكارثي وأكده السيناتور الجمهوري راند بول الذي اشتبك مع فاوتشي بمرارة واتهمه علانية بالكذب في شأن الأبحاث التي يمولها معهده في الصين.
لكن فاوتشي نفسه اعتبر في حديث مع "موقع إكسيوس" أنه كان محقاً في عين الإعصار الناشئ عن تفشي الأمراض المعدية الجديدة، بما في ذلك فيروس كورونا، وأنه كان يهدف ببساطة إلى شرح العلم للجمهور الأميركي بطريقة يمكنهم تقديرها، لكنه وقع ضحية للاستقطاب السياسي قائلاً إنه "عندما يكون لديك أشخاص يشوهون الحقائق ويعيشون من خلال نظريات المؤامرة يكون هناك استقطاب"، مشيراً إلى خصومه اليمينيين من أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب الذين تعهدوا بمحاسبته حتى لو تخلى عن منصبه الحالي.
شهرة عالمية
وفي حين أن فاوتشي ظل من أكثر الباحثين الذين يستشهد بهم منذ سنوات طويلة، ومعروف على نطاق واسع في الأوساط العلمية منذ عقود عدة، إلا أن جائحة الفيروس التاجي "كوفيد-19" دفعته إلى شهرة عالمية غير مسبوقة، حتى بات اسماً عالمياً مألوفاً خلال الأيام الأولى لانتشار الوباء، وظهر على شاشات شبكات التلفزيون وكان نجماً بمعنى الكلمة لدرجة أثارت انتقادات ضده بأنه يسعى إلى النجومية، بل تم تخليد وجهه على القمصان والجوارب والأكواب وأطلقت عليه مجلة "بيبول" الأميركية لقب "أكثر الرجال الأحياء جاذبية" بعد أن حصل على دعم وتوقيع أكثر من 28 ألف شخص.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع ذلك فقد فاوتشي جزءاً من شعبيته الواسعة عندما اختلف مع الرئيس ترمب الذي انتقده قبل نهاية رئاسته ولوح بإقالته، على الرغم من أنه ليس معيناً سياسياً من الرئيس، وعندما سئل في مقابلة هذا العام عن سبب تحوله إلى مثل هذا الاستقطاب أشار فاوتشي إلى بعض مساعدي ترمب الذين سعوا إلى تشويه سمعته والسخرية منه من خلال الإصرار على أن كل ما قاله كان خطأ، وصبت وسائل التواصل الاجتماعي الوقود على الانتقادات التي وجهت إليه ونظريات المؤامرة حول كيفية تصدى الحكومة الفيدرالية للوباء.
الاعتراف بالخطأ
اعترف العالم المخضرم بخطوات خاطئة اتخذها خلال الأسابيع الأولى للوباء، إذ قال وعلماء حكوميون آخرون إن الأميركيين لم يكونوا بحاجة إلى ارتداء أقنعة الوجه (الكمامات)، إذ لم يتعرف فاوتشي في وقت باكر على أن الأشخاص الذين لا تظهر عليهم أعراض هم الناشرون الرئيسون للفيروس، كما صرح في موضع آخر أنهم كانوا قلقين في شأن عدم وجود أغطية كمامات كافية للعاملين في مجال الرعاية الصحية، ولم يروا حينذاك دليلاً على أن الكمامات كانت فعالة في منع العدوى خارج المستشفيات، الأمر الذي أصبح واضحاً في ما بعد، بخاصة أن العلماء أدركوا أن الفيروس ينتقل بسرعة عبر الهواء.
لكن فاوتشي حينما طالب الأميركيين بعد ذلك بارتداء القناع أصبح هو "رجل القناع" والهدف الأساس لليمين السياسي، وأدت تناقضاته العلنية مع ترمب حول علاجات "كوفيد-19" غير المثبتة والتهديد الذي يشكله الوباء ودعوته إلى تدابير التخفيف إلى جعل فاوتشي شريراً بالنسبة إلى اليمين السياسي على الرغم من الدور الرئيس الذي لعبه في تطوير اللقاحات التي أنقذت الآن ملايين الأرواح.
الرجل الشرير
تحول فاوتشي إلى رجل شرير في نظر اليمين السياسي لم يحدث فجأة، وإنما تدرج مع معارضته رئيس الولايات المتحدة الذي لم يكن من السهل التوافق معه، بحسب قوله، عكس الرؤساء الخمسة السابقين الذين تعامل معهم فاوتشي، من منطلق أنه شخص غير سياسي ولا يتحدث إلا بما يقول به العلم، وعلى سبيل المثال فعندما بدأ ترمب الحديث عن علاجات واعدة مثل "هيدروكسي كلوروكين" في محاولة يائسة لإقناع الناس بأن الوباء يقترب من نهايته، بدأ فاوتشي في التناقض العلني مع الرئيس الذي اعتبره مزاجياً، وقال إنه لا يوجد دليل على نجاح هذا العلاج.
وفي حين أن ترمب تبنى في البداية توصية من فاوتشي ومنسقة الرئيس للاستجابة لفيروس كورونا ديبورا بيركس لتوسيع عملية الإغلاق على مستوى البلاد، إلا أن ترمب تخلى بعد ذلك عن جميع تدابير التخفيف مع استمرار انتشار الفيروس خلال صيف وخريف 2020 قبل أن تصبح اللقاحات والعلاجات متاحة، واستمر فاوتشي في تقديم النصيحة بأن يرتدي الناس الأقنعة والبقاء على مسافة اجتماعية من الأشخاص الآخرين حتى بعد أن سئم كثيرون، بخاصة الجمهوريين، من هذه القيود، مما جعل فاوتشي رجلاً مخادعاً بالنسبة إلى اليمين، خصوصاً بعد أن انقلب عليه ترمب في النهاية وحمله جملة الأخطاء في التعامل مع الوباء، الأمر الذي أدى إلى وابل من الانتقادات والتهديدات ضد فاوتشي وعدد آخر من المسؤولين، ودفع الحكومة إلى تخصيص حراسة أمنية عليه وعائلته من المرجح أن تستمر بعد تركه منصبه.
وباء مرهق
لكن فاوتشي اعتبر أن الوباء الذي أودى بحياة أكثر من مليون شخص في الولايات المتحدة أثبت أنه مرهق للغاية، وعزا ذلك إلى تحوره بسرعة مذهلة، ومع ذلك أوضح فاوتشي الذي يصل دخله إلى 480654 دولاراً سنوياً خلال حديث موسع مع صحيفة "واشنطن بوست"، أنه يريد التنحي في ديسمبر (كانون الأول) المقبل عندما يبلغ الـ 82 عاماً بعد نصف قرن من العمل في الحكومة، وهو لا يزال يتمتع بصحة جيدة وحيوية، وشغوف بمجال عمله ومتحمس للمرحلة التالية من حياته المهنية.
كما تحدث عن المشاعر المعادية للعلم التي انتشرت والأخطاء التي ارتكبها هو وعلماء آخرون أثناء الوباء، والانقسامات الوطنية العميقة التي عرضت الديمقراطية للخطر.
أزمة باكرة ونجاحات
انضم فاوتشي إلى المعهد الوطني لمقاومة الأمراض المعدية للمرة الأولى عام 1968 خلال ولاية الرئيس ليندون جونسون، وكان يبلغ من العمر 27 عاماً إلى أن ترأس المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية عام 1984 في عهد الرئيس رونالد ريغان، إذ كان فيروس نقص المناعة البشرية يصيب الآلاف من الرجال المثليين، وجميعهم تقريباً ماتوا بسبب عدم وجود علاجات، وهو ما شكل أزمة باكرة لفاوتشي، إذ غير اتجاه مختبره للتركيز على المرض الناشئ الذي كان محبطاً للغاية مع عدم حدوث تقدم في العلاج، لكنه في النهاية رضخ لمطالب نشطاء الـ "إيدز" الذين تظاهروا أمام مكتبه للحصول على الأدوية التجريبية والتي كشفت التجارب في ما بعد أنها مفيدة نسبياً.
وفي عهد الرئيس جورج دبليو بوش كان فاوتشي أحد مهندسي "خطة بيبفار"، وهو برنامج عالمي لمكافحة الـ "إيدز" تبلغ كلفته مليارات الدولارات، وأنقذ حياة الملايين ودفع الرئيس بوش إلى منح فاوتشي وسام الحرية الرئاسي عام 2008.
وعلى الرغم من النجاحات التي واصلها المركز الوطني لمقاومة الأمراض المعدية بقيادة فاوتشي خلال مواجهة أوبئة مثل الـ "إيبولا" و"الجمرة الخبيثة" و"زيكا" وغيرها، إلا أنه يأمل الآن بأن تقترب الولايات المتحدة من التعايش مع فيروس كورونا في حال من الاستقرار خلال الخريف وحتى أوائل الشتاء، معرباً عن عدم سعادته باستمرار الوفيات عند معدل 400 حالة يومياً.
لكن يبدو أن فاوتشي يستعد لكتابة مذكراته التي ستكون حافلة بالأحداث والمواقف على الرغم من أنه منع من التعاقد مع ناشر حتى الآن، لأنه لا يزال يعمل لدى الحكومة.