في تحقيق بعنوان "قريباً، ستتمكن الأقمار الاصطناعية من مشاهدتك في كل مكان على مدار الوقت"، كتب كريستوفر بيم BEAM لمجلة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في يونيو 2019، إنه في عام 2013 تلقت شرطة ولاية أوريغون معلومات بأن رجلاً يدعى كورتيس دبليو كروفت يزرع النباتات المخدرة بشكل غير قانوني في فناء منزله الخلفي، لذا فحصوا برنامج Google Earth، فأظهرت صورة القمر الاصطناعي صفوفاً أنيقة من النباتات الممنوعة، فداهم رجال الشرطة المكان.
وهكذا تمكنت الشرطة من أداء عملها بمساعدة الأقمار الاصطناعية، وكانت المرة الأولى التي تستخدم الشرطة وسيلة التجسس هذه، فمن دون الصور لما تمكنت الشرطة من إثبات التهمة. من هنا بدأ طرح السؤال حول إذا ما كانت صور الأقمار الاصطناعية بمثابة تجسس على الناس من دون موافقتهم، وككل القضايا المطروحة حالياً حول دور التكنولوجيا في حياة البشر يدور النقاش بين رأيين، المؤيدون يقولون إنه على الشرطة أن تسعى إلى تحقيق القانون بأية وسيلة كانت، بينما يرفض المعارضون أن تصبح حياة الناس الخاصة مفتوحة أمام الأقمار الاصطناعية. ولا يمكن استخدام تنفيذ القانون كمبرر، وإلا يمكن تشريع وضع الكاميرات في غرف الفنادق مثلاً، تحت حجة السلامة العامة.
تأثير الأقمار الاصطناعية
هناك من يتناول فوائد صور الأقمار الاصطناعية المتعلقة بالبيئة والغابات والتصحر وذوبان الجليد في القطبين وجفاف الأنهار والبحيرات، إذ يمكن للأقمار الاصطناعية أن تراقبها وتحدد حجم الخسائر، وإصلاحها قبل فوات الأوان. على سبيل المثال في عام 2018 استخدمت الشرطة البرازيلية صور الأقمار الاصطناعية لاكتشاف بقعة واسعة من غابة الأمازون المحمية دولياً وقد تعرت تماماً من الأشجار، واكتشفوا أن الموقع يستخدم لإنتاج الفحم بشكل غير قانوني، وتم اعتقال الفاعلين، ولولا تطبيق "غوغل إيرث" لكان من المستحيل العثور على هذه البقعة داخل غابات الأمازون الكثيفة والواسعة. ويساعد التطبيق الإلكتروني في مراقبة الهجرات الموسمية للحيوانات والطيور، ويراقب حركة الرياح وتقلباتها ما يمنحنا القدرة على تنبؤ الطقس والاستعداد لأي طارئ مناخي. وبات بإمكان الأقمار الاصطناعية التنبؤ بموجات التسونامي بينما تحدث وليس بعد حدوثها، نتيجة التقدم الذي حدث في هذا المجال بعد كوارث التسونامي التي اجتاحت شرق آسيا في عام 2004 وراح ضحيتها 283 ألف شخص، من دون ذكر الخسائر المادية الهائلة، وكادت تتسبب بتسرب نووي في المنشآت اليابانية.
وقد استخدمت صور الأقمار الاصطناعية لتحديد حجم الدمار الذي ألحقته الحروب في المدن السورية والعراقية وقبلها في أفغانستان، وتمكنت من اكتشاف المنشآت النووية التي تبنى في الخفاء، ومراقبة هجرات البشر بين الدول بسبب الحروب ونزوحهم داخل دولهم وطرق التهريب البحرية والبرية من الجنوب نحو الشمال، واستخدمت جمعيات حقوق الإنسان هذه الصور لصالحها أيضاً لإثبات وجود معسكرات اعتقال للإيغور في مقاطعة شينجيانغ، ما اضطر المسؤولين الصينيين إلى إنكار هذه الصور، ووصفوا المعسكرات بأنها "مدارس مهنية أو محو أمية"، على الرغم من أن صور الأقمار الاصطناعية أظهرت المواقع محاطة بأبراج المراقبة والأسلاك الشائكة، بحسب ما روجت منظمات دولية معنية بحقوق الإنسان.
مراقبة الحياة الشخصية
على الرغم من الفوائد الجمة لصور الأقمار الاصطناعية التي باتت تدخل ضمن كثير من شؤون حياتنا اليومية عبر تطبيقات كثيرة نستخدمها على هواتفنا الذكية كنظام "تحديد المواقع"، وبسبب أهميتها المستجدة فقد ارتفع عددها من 150 قمراً في عام 2008 تدور حول مدار الأرض، إلى 768 قمراً في عام 2019، ثم ما يقارب سبعة آلاف و500 في عام 2021. وتروج شركات إطلاق الأقمار المزدهرة في هذه الآونة إلى أن هذا العدد سيرتفع إلى عشرات الأضعاف خلال السنوات الماضية، بعد نجاح عمليات إطلاق أقمار اصطناعية عدة في الرحلة نفسها.
الصور التي ترسلها الأقمار الاصطناعية التجارية اليوم باتت قادرة على رؤية سيارة من الفضاء، لكن لا يمكنها تحديد طرازها أو رقمها، وإبقاء هذه التفاصيل مجهولة متعمد ومحدد في اللوائح الفيدرالية الأميركية التي تحدد المسافة القصوى لصورة ما على الأرض ببعد 25 متراً، بالطبع هذا الأمر لا ينطبق على أقمار التجسس العسكرية التي تلتقط صوراً دقيقة جداً، في حالات التجسس أو المراقبة أو تحديد الأهداف العسكرية لقصفها بطائرات الدرون مثلاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي جديد شركات التصوير باتت شركة Planet Labs تمتلك وحدها 140 قمراً اصطناعياً يمر فوق كل مكان على الأرض مرة واحدة في اليوم، أما شركة "ماكسار" MAXAR التي أطلقت أول قمر اصطناعي تجاري لرصد الأرض في عام 1997 فتبني كوكبة من الأقمار الاصطناعية ستكون قادرة على المرور فوق المواقع وتصويرها 15 مرة في اليوم، أما شركة BlackSky Global فقد أعلنت نيتها تصوير المدن الكبرى حتى 70 مرة في اليوم. وكلما ارتفع عدد مرات تصوير المكان نفسه في اليوم، اقتربنا من تصوير الأحداث في وقت قريب من حدوثها، وذلك في سبيل الوصول إلى بث مباشر في النهاية، أي تمكين المستخدم من رؤية الأحداث في لحظة وقوعها. وهكذا مثلاً يمكن عبر أي تطبيق يبث الصور في الوقت نفسه الذي تجري فيه مراقبة شخص منذ خروجه إلى المنزل حتى وصوله إلى مكان عمله، على سبيل المثال. وهنا يصبح التساؤل حول خضوع الأفراد للمراقبة تساؤلاً مشروعاً، إذ إن هذا الهدف لم يعد مستحيلاً بعد أن أعلنت شركة تدعى EarthNow إنها ستقدم مراقبة "مستمرة في الوقت الفعلي، بتأخير يصل إلى ثانية واحدة تقريباً"، على الرغم من أن مهتمين كثر يعتقدون أن هذا الإعلان مبالغ به، وأن أكثر ما يمكننا توقعه حتى اليوم هو ما يذاع في النشرات الجوية التي تستند إلى صور تم التقاطها قبل 12 ساعة على الأقل، وتمكننا من تنبؤ مسار الطقس لأيام قليلة مقبلة.
يعتبر مهتمون كثر أن وجود تطبيق تحديد المواقع GPS في كل الهواتف الذكية، الذي بات يستخدم في مئات من المهن والأعمال والأبحاث تهديداً شرعياً للخصوصية، إذ أصبح من المستحيل الاختباء من كاميرا القمر الاصطناعي، ومن ثم هناك من يطالب بفرض قواعد صارمة على ما يمكن للمؤسسات الإعلانية أو شركات التجسس أو التواصل الاجتماعي أن تشاهده وتسجله أو تعرفه عن حياة الأفراد الخاصة.
وعلى الرغم من أن شركات الأقمار الاصطناعية ومعها شركات تحليل البيانات تعلن دوماً أنها حريصة على عدم نشر بياناتها، خصوصاً أنها مقيدة بعدم التعرف على الوجوه، إلا أن الصور الشخصية المجتمعة مع تدفقات البيانات الشخصية، إضافة إلى نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) وكاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان والوجود المتواصل على وسائل التواصل الاجتماعي، يمكنها جميعها أن تشكل تهديداً جدياً للخصوصية، فهي تحدد مكان وجودك وما تفعله، وتقدم لك الخيارات المتاحة لاهتماماتك.
يقول بيتر مارتينيز من مؤسسة Secure World Foundation، إن الخوارزميات باتت تعرف ما أنواع المتاجر التي تذهب إليها وإلى أية مدرسة يذهب أطفالك، وما الديانة التي تعتنقها، ويمكنها أن تتوقع إلى أين قد تسافر أو أي مكان قد تزور في الأيام المقبلة، إذا لم يكن هذا يعتبر مراقبة شخصية دائمة، فما المراقبة؟ وبرأيه أنه لا بد من إعادة تعريف معنى الخصوصية والمساحة الشخصية والخاصة، كيف تتوافق مع القيم الجديدة التي تدفع الأفراد إلى إعلان معلوماتهم الشخصية بطرق تبدو ملتوية أو من دون معرفتهم المباشرة، فأغلب المشتركين في تطبيقات التواصل الاجتماعي أو تحديد المواقع، ينقرون زر قبول الشروط التي تعرضها عليهم الشركة من دون قراءتها، إذ تبدو هذه الصفحات كثيرة والمكتوبة بخط صغير غير قابلة للقراءة.
المساهمة في السلام العالمي
في تحقيق صحافي مناقض للتحقيقات السابقة بعنوان "لا تتفاجأوا: التجسس من الفضاء شيء جيد"، بقلم بريان ر. وإيريك جارتزكي. نشر في أبريل 2021 في مجلة Conflict Resolution، جاء في مقدمته "كل واحد منا يتم التجسس عليه من الفضاء. تدور أقمار الاستطلاع لعدد متزايد من الدول حول المدار، وتجمع المعلومات حول ما يفعله البشر على الأرض"، لكن الكاتبين يريان نقطة إيجابية بالمقابل، لأن التجسس المتبادل من الفضاء بين الدول يجعل من الصعب القيام بهجمات عسكرية مفاجئة، مما يعني أن المراقبة عبر الأقمار الاصطناعية تسهم في زيادة الاستقرار والسلام الدوليين، ويقولان إنهما استخدما بيانات جديدة حول النزاعات العسكرية بين عامي 1950 و2010. وكشفت هذه البيانات أن الدول التي يمكنها التجسس من الفضاء تقلل احتمال تعرضها لهجوم عسكري مفاجئ، وهذا ما يمكن تطبيق عليه مقولة "رب ضارة نافعة" أو على ما قال عالم الاقتصاد الأميركي آدم سميث "إن الرأسماليين يمكنهم فعل الخير من دون قصد من خلال السعي وراء مصلحتهم الخاصة في السوق"، إن التنافس على المراقبة العسكرية من الفضاء لها فائدة دولية في إرساء التوازن المثبت للسلام.