"القاتل الأشقر" (دار الآداب) هي الرواية الثالثة للروائي المغربي طارق بكاري، بعد "نوميديا"، و"مرايا الجنرال". وهو يفكك فيها الداعشية، بدءاً من آليات الالتحاق بها، مروراً بممارساتها الوحشية، وصولاً إلى مآلاتها الحتمية. ويفعل ذلك من خلال الأحداث التي تنتظم الرواية، وتغطّي لحظة تاريخية ما نزال نشهد تداعياتها على أكثر من صعيد. وهي أحداثٌ تتمحور حول شخصية قاتل محترف وشخصيات أخرى ترتبط به، بشكلٍ أو بآخر. وهي جميعها نتاج الظروف التي أنتجتها، وصنيعة التجارب التي عاشتها، وجعلت أخطر النوازع البشرية تطفو على السطح، وتُحوّل الإنسان إلى وحشٍ ضارٍ متحلّلٍ من الضوابط والقيم التي تحفظ إنسانيّته. فهل يريد الكاتب الذي يصدر عن منظور روائي يجعل من القتلة المحترفين ضحايا الظروف أن يمنح هذه الظاهرة الغريبة أسبابًا تخفيفية؟
في بدايات الرواية، يقول الكاتب على لسان الراوي: "ما كان لهذه الرواية أن تكون لولا حكاية الأشقر، لكن ما كانت لتكون لولا أنّني بادرت إلى اعتقالها بأسلوبي: أنا وهو شريكا هذه الخيبة، وشريكا هذه الأوراق" (ص 22). وهكذا، يرسم، منذ البداية، خطاطة الخطاب الروائي التي تقوم على معادلة واضحة. الطرف الأوّل فيها هو الراوي المشارك وليد معروف، الصحافي اللبناني الذي يلبّي طلب مجلة بريطانية لكتابة تقرير عن داعش، فيشكّل هذا الطلب نقطة البداية لحركة هذه الشخصية، ونقطة التحوّل التي تودي بها إلى مصير قاتم ، في آن. والطرف الثاني هو المرويُّ عنه، المغربي الأشقر الذي تقوده تربيته ومسار حياته إلى احتراف القتل والمصير المجهول. على أنّ هذه القسمة بين راوٍ ومرويٍّ عنه ليست ثابتة، طيلة الرواية، فالراوي يتحوّل من شاهدٍ على الأحداث إلى مشاركٍ فيها، ومنخرط في حركتها، وراوٍ شكليٍّ لها، وضابط إيقاع لسرد المرويِّ عنه، الذي يتحوّل بدوره، في سياق النص، إلى راوٍ فعليٍّ للأحداث التي عاشها أو كان شاهداً عليها. وبذلك، تقوم العلاقة بين الشريكين على تبادل الأدوار، على مسرح الرواية، ينجم عنه تعدّدٌ للرواة، وتنوّعٌ للمادة المروية وفضاءات الروي.
فضاء مقفل
تشكّل الزنزانة المغربية التي يروي منها وليد معروف حكايته الفضاء الأوّل الخارجي للروي، وتشكّل الغرفة المعلّقة في البناء المتهدّم في كوباني التي يروي منها القاتل الأشقر حكايته الفضاء الثاني، المحتوى من الأول. وبذلك، يكون فضاء الروي، في الحالتين، مقفلاً، ضيّقاً، ومحدوداً. غير أنّه ينفتح على فضاءات واسعة للأحداث المروية تمتدّ على بلدانٍ عدة، وتغطّي لحظة روائية / تاريخية تستغرق سنواتٍ طويلة. في الفضاء الأوّل، يقول الراوي حكايته الحافلة بالإثارة والمحطّات الدرامية؛ فوليد معروف، الصحافي المولود، في قرية لبنانية متاخمة لمدينة صيدا، لوالدين أسرفا في تدليله، يبحث عن الاستثناء والتميّز، ويعمل مراسلًا لمجلّة بريطانية في الشرق الأوسط، وينخرط في علاقة حبٍّ مع مريم، زميلته الجامعية السورية، ويوشكان على الزواج. غير أن نزوعه إلى المغامرة يغيّر مساره ومصيره، فيقرّر الاستجابة لطلب المجلة كتابة تقرير ميداني عن "داعش"، ويحترم قرار حبيبته أن تقتنص فرصتها الصحافية، وتغطّي احتجاجات الربيع في بلدها سوريا، غير أن حساب بيدره لا يطابق حساب الحقل. في إطار تنفيذ المهمّة التي كلّف بها، يتحوّل وليد إلى ملتحٍ في جبّة بيضاء للتقرّب من التنظيم، غير أن آلية الانضمام إليه تتخطّى الشكل إلى الفعل، ويكون عليه أن يثبت أهليته بحضور "الأخ الأكبر"، القيادي في التنظيم، بارتكابه فعل القتل، فيفعل ذلك مكرهاً خشية أن يقع عليه الفعل. وتكون جريمته الأولى التي تنتهك عذريّته النفسية إطلاق النار على رأس امرأة لا يُسمح له رؤية وجهها لحرمة ذلك.
وتكرّ سبحة الجرائم التي يرتكبها حتّى يتحوّل إلى سيّاف مقنّع يقطع عشرات الرقاب، على مرأى من ملايين المشاهدين. وإذ يجد نفسه، بفعل التطوّرات، محاصرا في غرفة معلّقة، على حافّة السقوط في كوباني، يصغي إلى حكاية القاتل الأشقر، ويسجّل تفاصيلها تمهيدًا لكتابتها، يؤدّي القصف إلى تهديم الغرفة، وغيابه عن الوعي، وإصابته، والقبض عليه. وهنا، تشفع لوليد بطاقته الصحافية، فتتم معالجته لأشهر في مستشفى ميداني تنتهي ببتر يده، يمضي بعدها سنةً يبحث عن حبيبته مريم في القرى والبلدات السورية، حتى إذا خاب بحثه يعود إلى لبنان عبر تركيا ليجد أن أمّه ماتت، وأنّه "خسر نفسه ولم يملك العالم". وبعد سنة لبنانية، يُنفق فيها ما تركته الأم، وتعضّه الحاجة إلى المال، يلبّي طلب مجلّة أميركية أن يكتب لها تقريراص عن الدعارة في المغرب، فيجدها فرصة مناسبة لاقتفاء أثر صديقه القاتل الأشقر في مدينته الأطلس المتوسط، حتى إذا ما علم "الأخ الكبير" بأمر خيانته، يرسل له فيلما يُظهر وجه المرأة التي قتلها، فيكتشف أنه قتل حبيبته مريم. وحين ينتشر الفيلم على وسائل التواصل الاجتماعي، يتمّ القبض عليه وإيداعه الزنزانة بانتظار تنفيذ حكم الإعدام فيه.
وهكذا، تقول الحكاية الأولى آليات الالتحاق بتنظيم داعش، وإثبات الأهلية للانضمام إليه، والجرائم الوحشية التي يرتكبها، والعقل الشيطاني الذي يتحكّم بقادته، والازدواجية بين العقيدة والممارسة. على أنّ ما يميّز شخصية وليد عن الشخصيات الأخرى هو أنّها اختارت الالتحاق بالتنظيم عن سابق وعيٍ وتصميم، ولم تفعل ذلك مكرهةً وبفعل الظروف، ودفعت غاليا ثمن هذا الخيار. والمستهجن أنّ هذه الشخصية ترتكب الخطأ نفسه مرّة ثانية، وتُلدغ من الجحر نفسه مرّتين اثنتين، وتدفع ثمنًا أغلى.
وقائع قاسية
في الفضاء الثاني، يقول القاتل الأشقر حكايته، وهي مزيج من وقائع قاسية يعيشها مع الراوي في الغرفة المحاصرة، المعلّقة، الآيلة إلى السقوط، يعاني ألم الرصاصة المبرّح في الساق ويقوم باستخراجها بنفسه، وذكريات قاسية يستعيدها ويرويها بنفسه ويتحوّل إلى راوٍ فعلي بعد أن كان مروياً عنه. وفي هذا الفضاء، يترجّح الأشقر بين جرحٍ جسدي مؤلم يحاول معالجته بالنبيذ والويسكي، وجرحٍ نفسي أشدّ إيلامًا يتعلّق بطفولته وشبابه ويحاول معالجته بالحكي في تقمّصٍ لدور شهرزاد، مع فارق أن المتهدف بالحكي هو نفسه وليس شهريار يحتاج إلى الترويض. وإذا كانت الوقائع في هذا الفضاء تحدث في غرفة مغلقة تتعرّض للقصف، وفي يوم محدّد، وتتناول الآلام المبرّحة التي يعانيها الأشقر والعملية الجراحية التي يجريها لساقه وعلاقته بالراوي وليد في مواجهة خطر الموت، فإن الذكريات المستعادة تحدث في بلدان عديدة، وتمتدّ على سنوات عمر الأشقر، وتتناول نشأته في جحر بغاء لأمٍّ عاهرة، وحبّه الأول لشامة، رفيقة الطفولة التي نشأت في المكان نفسه لأمٍّ عاهرة بدورها، وتعرّضه للاغتصاب صغيرًا، وسجنه دفاعًا عن حبيبته، وقيامه بقتلها بعد الاشتباه بخيانتها له، ومطاردته من السلطات المغربية، وتيهه الأوروبي الجنسي، وتيهه الأفريقي الجغرافي، والتحاقه بداعش وخوض المعارك معها ما يقرّبها من أمير الجماعة، وارتكابه جرائم القتل، وتنقّله بين النساء، على أنواعهن، ومقتل حبيبته الأخيرة ليلى أمام عينيه وقيامه بقتل أخيها دون أن يعرف ذلك، وسقوطه تحت أنقاض الغرفة دون أن يُعثر له على أثر.
وهكذا، نرى أن هذه الشخصية التي تعاني عقد الأب المجهول والأم العاهرة والحبيبة المقتولة تلجأ إلى السفر والنساء والصحراء والإرهاب للتحرّر من تلك العقد غير أن هذا المسار الملتوي يقودها إلى مصير قاتم مجهول. ولعل الرسالة الروائية من وراء هذه الأحداث، بوقائعها والذكريات، هي أن البدايات الخاطئة التي تسلك سبلاً ملتوية تقود إلى نهايات قاتلة. ولعل مسارات الشخصيات ومصائرها ترهص بمسار الجماعة التي تنتمي إليها ومصيرها القاتم. على أنّ هذه التحوّلات لا تقتصر على وليد والأشقر بل تتعدّاهما إلى الشخصيات الأخرى؛ فأمير الجماعة الملقب بـ"الأخ الكبير"، هو نتاج الظروف التي عاشها، المتمثلة بقتل النظام أبيه، وفشله في الحب، وخيانة أمّه ذكرى الأب، وقيامه بقتل الأم، وانتقامه من صديق أبيه الخائن باغتصاب زوجته وأمّه، وتغليبه هاجس الانتقام الخاص على العام الذي يزعم الانشغال به، ونصب الفخ للراوي وليد منذ بداية العلاقة معه والإيقاع به في التوقيت المناسب. والأمر نفسه ينطبق على شخصيات أخرى، يجتمع فيها الضحية والجلاّد، والقاتل والقتيل، وهي صنيعة الظروف وصانعتها في آن. إن المنظور الروائي يغلّب صورة الضحيّة على صورة المجرم في الملتحقين بالتنظيم الإرهابي الذي تتناوله الرواية. وهذا المنظور قد يكون صحيحاً في بعضه، حين يتعلّق الأمر بمن دفعتهم ظروفهم إلى الارتماء في أحضان الإرهاب، لكنه غير صحيح، وغير واقعي، في حلّه، لأنّ معظم الملتحقين يفعلون ذلك مختارين، وبكامل قواهم العقلية لأسباب تختلف بين الديني والمذهبي والسياسي والجنسي والشخصي...، وبالتالي، إنّ أي منظور روائي يمنح الإرهابيين أسبابًا تخفيفية، حتى في حالة كونهم ضحايا الظروف غير الإنسانية، هو منظور غير مقبول وينبغي إعادة النظر فيه. فليس ثمّة ما يبرّر أن تتحوّل ضحية الاستبداد إلى جلاّد الإرهاب.
وبمعزل عن المنظور الروائي في "القاتل الأشقر"، فإنّها رواية رشيقة، متماسكة، طليّة السرد، جميلة اللغة، تؤثر الجمل القصيرة والمتوسّطة ذات الظلال الأدبية الخفيفة، ما يجعل قراءتها محفوفة بالمتعة والفائدة.