منذ أن حازت روايته الأولى "الرومانطيقيون" على جائزة التايمز عام 2000 وترجمت إلى إحدى عشرة لغة، لم يصدر للكاتب الهندي بانكاج ميشرا أي عمل روائي. وها هو يعود بعد عقدين من الزمان راصداً تطور الهند، السريع والمذهل، في روايته الثانية "اركض واختبئ" الصادرة عن دار هاتشينسون هاينمان للنشر.
ميشرا كاتب مقالات وروائي معروف، ذاعت شهرته عالمياً بعد حصوله على جائزة ويندهام كامبل للأدب غير الخيالي، البالغة قيمتها 150 ألف دولار، والأعلى قيمة بين الجوائز. سبق أن قدم في "الرومانطيقيون"، بسخرية لاذعة، حكاية عن مجموعة من الأشخاص يتوقون للاندماج في ثقافات أخرى غير ثقافتهم، لتصبح قضية الاندماج، إشكاليته الدائمة في أعماله كافة؛ الخيالية منها وغير الخيالية، ومحور روايته الجديدة. تدور هذه الرواية حول ثلاثة أصدقاء استطاعوا في عصر الاضطرابات والانهيارات، الانسلاخ عن أصولهم المتواضعة والتحليق إلى أوهام غاتسبي العظيم في الثروة والسلطة. لكن التكلفة التي دفعها الأخير، سيكون لزاماً على كل من يحذو حذوه أن يدفعها بالمثل.
يبحث ميشرا من خلال مصائر الخريجين الثلاثة من معهد تكنولوجيا المعلومات، في سيكولوجية الشعوب الصاعدة اقتصادياً في العالم النامي بعد أن شغلته تداعياتها في آسيا طويلاً، ووصل هنا إلى ذروة انشغاله.
"لقد أصبح من المتعذر على المتعلمين أمثالنا أن يستريحوا لنظرتهم إلى العالم المستمرة بلا تغيير من جيل إلى جيل. تلك الحياة الأبدية من التواضع والصلاة، التي لم نكن نشعر فيها بأي خوف أو ترويع، لأنها كانت بمشيئة إلهية، اختفت مع جيل آبائنا. ولكن، من كنا لنحتقرها؟ لقد نشأنا في حياة ضيقة المعنى، وأقنعنا أنفسنا بوجود طرق أكثر انفتاحاً على الوجود، وبأننا سنجدها حتماً. في الواقع، كان هذا بمثابة ركض في هذا الطريق وذاك، بلا تيقن من وجهتنا، فطوال الوقت كنا ننظر إلى الوراء من أجل التفسير".
تحت الحطام المتطاير
ولد ميشرا عام 1969 في مدينة جانسي في الهند، والده عامل سكة حديد تماماً مثل بطل روايته "آرون" الذي نشأ في بلدة متواضعة، وظل يحلم طويلاً بالهروب، ليصبح قبوله في المعهد المرموق، بكثير من التضحيات من والديه الفقيرين، طوق النجاة من جذوره المدموغة بالقسوة والحرمان. لكن الخلاص المنشود بالفعل، كان عزيز المنال!
في الحرم الجامعي الذي يغلب عليه الذكور، ويضج بالتنمر، يلتقي آرون بطالبين من خلفيات مماثلة، أحدهما يدعى عاصم (يصبح أحد مشاهير الأدب المتسلقين على المستوى الاجتماعي)، والآخر فيرندرا (يصبح مليارديراً لاحقاً). لكن الخلفيات المتشابهة لم تضمن يوماً تشابهاً في المصائر، لا سيما مع تفرد الطبيعة البشرية التي تصل هنا إلى حد التناقض. فعاصم وفيرندرا يتمتعان بالإرادة والثقة المطلقة لاختراق الحواجز الاجتماعية التي لا ترحم. لقد أصبح خريجو المعهد التكنولوجي في نهاية المطاف يمثلون قصصاً للنجاح في نظر جيلهم، يعيشون كما يحلو لهم، يعملون بجد ويلعبون بجد من إيست هامبتون إلى توسكانا، ويستفيدون إلى أقصى حد من الحرية المادية والجنسية غير المسبوقة. وبينما ينجح صديقاه في الوصول، يفشل آرون في الاستفادة من تعليم النخبة فيقرر متابعة مسيرته الأدبية، منسحباً إلى قرية صغيرة في جبال الهيمالايا مع والدته العجوز.
المهن المتقاطعة العابرة للحدود والحياة الشخصية للرجال الثلاثة، تتضمن امرأة أيضاً، عليا، سليلة عائلة مسلمة من الأثرياء القدامى الذين تلقوا تعليمهم في رابطة آيفي. يتعرف إليها آرون من طريق جارها عاصم وتتوطد العلاقة بينهما متسببة في تشكيك عاصم في جميع قيمه. يهتم ميشرا بما يجري على البشر من تحولات، حين يحاولون الإبحار في عالم مفخخ بقضايا العرق والجنس والطبقة، فيتمزقون بين الحداثة والتقاليد، والغرب والهند، والدين والعلمانية، واللامبالاة والمجتمع والأسرة والوظيفة، فضلاً عن عالم يبدو، في الوقت الذي يعدهم بالازدهار الليبرالي المعولم، يرتد إلى الشعبوية والقومية.
"الشيء الفظيع في من يدوسون بأقدامهم على الظلام مثل فيرندرا هو أن ادعاءهم بشأن ثراء العالم جاء بعد فوات الأوان، قبل أن ندخل إلى نهاية لعبة الحداثة في جميع أنحاء العالم. كل صرح كبير للحداثة - الاقتصادات النامية، والمؤسسات السياسية، والنظم الإيكولوجية للمعلومات، والثقة بين المواطنين - ينهار اليوم، ونحن جميعاً نخاطر بأن ندفن أحياء تحت الحطام المتطاير".
بين السيرة والفلسفة والتاريخ
تتأثر شخصية آرون المتواضعة بوصول الناشطة عليا، الجميلة والطموحة والتي تصب تركيزها على كتابها عن سماسرة القوة العالمية الجدد في إينيا، بمن في ذلك زملاء آرون في الدراسة. تحاول عليا مساعدته في الاندماج في العالم المتطور بأن يكون شخصاً آخر. يطرح ميشرا على مدار الرواية الكثير من الآراء الفلسفية حول الوجهة التي تتجه إليها الهند، يصرفنا عن الشخصيات إلى وجهة نظر أكثر شمولاً. لكن تياراً حميمياً يطفو بين الحين والآخر على السطح، خصوصاً وهو يكتب بعاطفة بالغة، عن طفولة آرون، "العديد من اللحظات التي تنأى بنفسها عن ضجيج الوقت لتهمس بأشياء ساحرة لا يمكن استرجاعها: مثل الصاروخ الذي نشتريه ويظل يتوهج في الحياة بهسهسة مريحة ثم يرتفع لأعلى وأعلى. وبعد ذلك، حين تسقط شرارات خضراء وحمراء، تتوهج وجوهنا المرتفعة بابتسامة لفترة وجيزة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعوّد ميشرا في كتاباته أن يدمج بين سيرته الذاتية والتاريخ والفلسفة كما فعل في "نهاية المعاناة: بودا في العالم"، مستكشفاً علاقة بودا بالأزمنة المعاصرة. وفي "إغراءات الغرب: كيف تكون معاصراً في الهند وباكستان وما بعدها"، راح يصف رحلاته عبر كشمير وبوليوود وأفغانستان والتيبت ونيبال وأجزاء أخرى من جنوب آسيا ووسطها. بينما انشغل في كتابه "من أنقاض الإمبراطورية"، بالبحث عن طريقة لكرامة الذات في هذا العالم الذي أنشأه الغرب، حيث احتفظ الغرب وحلفاؤه بأفضل المناصب لأنفسهم. وعلى نحو مماثل في كتابه "عصر الغضب"، الذي يزداد أهمية يوماً بعد يوم، يُشرِّح ميشرا سياسات الغضب في سياق 200 عام من كذبة الرأسمالية الكبرى.
كتابان داخل رسالة
آرون وأصدقاؤه ليسوا إلا مجرد أمثلة على الحراك الاجتماعي في بلد مثل الهند، تطور بين طرفة عين وغمضتها، من مجتمع منغلق يتقيد بأعراف معقدة، إلى لاعب عالمي نيوليبرالي. لكن المشكلة أن هذا "الحراك" يقدم نفسه، منذ البداية، كنوع من الإرهاب الوجودي. ففي حين يتم الترحيب بهم من الطبقات الراقية في مجتمع جديد، يُجبرون على تجاوزات جنسية مروعة، فيظل الإذلال الذكوري ملازماً لهم بقية حياتهم.
الرواية بلا حبكة تقريباً، على الرغم من الطريقة المعقدة المتبعة في بنائها. فهي تتخذ من رسالة آرون من جبال الهيمالايا إلى عليا في لندن، قالباً للقصة الحميمية والهروب الكبير من سلبيات العاصمة الحديثة. داخل هذا الشكل الرسائلي تفرد مساحات لكتاب عليا عن السماسرة، ومثلها لرواية عاصم. كان لمثل هذه الطريقة أن تسهم في كثير من الربكة، لولا تناوب السرد بين الضمائر الثلاثة.
تضمنت الرواية أيضاً مقتطفات ساخرة من أمسيات ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو من حسابات الناشطين على "إنستغرام"، واستشهادات من أعمال الروائي البريطاني ف. س. نيبول، الحائز جائزة نوبل، والذي أتاح له السفر إلى لندن، من جزيرة استوائية، فهم الرغبة في الحداثة بعد الاستعمار. لقد تنبأ نيبول في روايته "منعطف في النهر" بما يجري في الهند الآن: "العالم كما هو؛ الرجال الذين لا شيء، الذين يسمحون لأنفسهم بأن يصبحوا لا شيء، لا مكان لهم فيه". بهذه العبارة يستهل ميشرا روايته باعتبارها عقيدة الهند الجديدة.