ليس من السهل خروج السيد مقتدى الصدر من الحياة السياسية، وإن أعلن "اعتزال" السياسة لدواع "شرعية لا سياسية"، ولا من الصعب أن يتخيل خصومه حدوث تفاهم أميركي- إيراني على إخراج الرجل الذي صار دوره خطيراً من المشهد، وما يقود إلى الخيال هو المفاجأة التي قام بها المرجع كاظم الحائري المقيم في قم بدعوة مقلدية وفي طليعتهم الصدر إلى تقليد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، لكن الواقع يقود إلى شيء آخر، فالدواعي الشرعية نفسها تحتم على الصدر قيادة التيار الصدري الذي سار وراء والده محمد صادق الصدر، وعمه محمد باقر الصدر ثم وراءه، وعدم ترك الذين تمسكوا بمرجعية آل الصدر، والدور الذي أدى إلى اغتيالهم. وليس أهم مما يريده الصدر سوى ما لا يريده، ما أصر عليه بعد الانتخابات هو حكومة "أغلبية وطنية" تبني أسس دولة وطنية تحارب الفساد، وما يرفضه هو أولاً الهيمنة الأميركية التي حاربها في بداية الغزو حين كان وكلاء إيران يدخلون العراق على الدبابات الأميركية، وهو ثانياً الهيمنة السياسية الإيرانية على العراق العربي، وهو ثالثاً الهيمنة المذهبية لأن "النجف، لا قم، هي المقر الأكبر للمرجعية الشيعية"، وما يريده الصدر وما يرفضه يشكلان أكبر خطر على المشروع الإيراني، ولا يسهلان العمل في العراق للسياسة الأميركية.
لكن التطورات الأخيرة أكدت أن مقتدى الصدر هو أقوى زعيم عراقي، فلا شيء عفوياً في أحداث العراق، كل شيء بأوامر وأحياناً على الهواء، التظاهر، الاعتصام في مبنى البرلمان ثم خارجه، فك الاعتصام والتظاهر، لا أوامر القيادة العامة للقوات المسلحة وإعلان حظر التجوال بل أوامر الصدر بالنسبة إلى تياره، وأوامر "الإطار التنسيقي" المرتبط بإيران بالنسبة إلى مسلحيه، وفي كل الأحوال، مطالب لا بد منها، مطلب الاعتصام هو حل المجلس النيابي بعد استقالة نواب الصدر وإعطاء مقاعدهم للمرشحين الخاسرين، وإخراج المعتصمين من المنطقة الخضراء خلال "60 دقيقة" له ثمن، ففي العراق أزمة سياسية و"خلل بنيوي" في النظام باعتراف رئيس الجمهورية برهم صالح، حل المجلس النيابي والذهاب إلى انتخابات مبكرة يحل جزءاً من الأزمة السياسية، لكن تصحيح الخلل البنيوي يحتاج إلى تغيير في الدستور والخروج من المحاصصة كما من حصر الكتلة الأكبر التي تتولى تسمية رئيس الحكومة بالأحزاب الشيعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والترجمة العملية لذلك هي إعادة "تأسيس" الدولة التي ركبها الأميركيون بعد الغزو وإسقاط الدولة والنظام، ويتحكم بها الإيرانيون، وتلك هي المهمة التي لا مهرب منها، مهما عملت إيران والفصائل المسلحة التابعة لها من أجل ما تسميه الحكم بالإجماع، حكم الرابحين والخاسرين جميعاً، حيث ازدهار الفساد وفرض "حشد شعبي" مسلح مرتبط بالحرس الثوري الإيراني تدفع السلطة العراقية رواتبه، من دون أن يكون خاضعاً لأوامرها. فالتركيز على عروبة الشيعة يقرع أجراس الخطر في طهران، وما دام المشروع الإيراني قائماً على تجييش المكونات الشيعية في البلدان العربية، فإن الدولة الوطنية هي نقيض المشروع، وأكبر خطر عليه هو أن تتولى زعامة شيعية لديها تيار واسع رفض الهيمنة الإيرانية، والتوجه نحو تحالف وطني مع السنة والكرد، والانفتاح على المحيط العربي لبلد الرافدين، فضلاً عن أن من الوهم السير بالخطة التي تعمل لها الفصائل الإيرانية من دون أخذ التيار الصدري في الاعتبار، ومن دون التحسب لقدرته على تعطيل المخططات بقوة الشارع.
الصدر بدأ انتفاضة ضد نظام الفساد والمحاصصة والهيمنة الإيرانية، وطهران عاجزة عن تجاهله ومضطرة لمراعاته، ولا شيء يوحي أنه "سيعود إلى المنزل القديم" كما يقول هادي العامري قائد الفصيل الأقوى في "الحشد الشعبي" المرتبط بالحرس الثوري الإيراني.