يقف الخمسيني عبدالله برواح متحسراً على أيام الزمن الجميل وهو يرمق مجموعة من الأطفال والمراهقين تلتصق ظهورهم بحائط الحي شبه جامدين من دون حراك، وهم في غاية الانشغال بما تحمله هواتفهم من صور وفيديوهات.
ويحن العم عبدالله إلى الماضي عندما كان طفلاً يلعب ألعاباً جماعية بمعية أقرانه من الأطفال مثل لعبة الكريات الزجاجية الصغيرة أو لعبة الخذروف أو حتى لعبة "ضاما"، بينما كانت الفتيات في ذلك الوقت يستمتعن بلعبة "كاش كاش" وغيرها.
ويبدو أن الحنين إلى الماضي يستبد بالعديد من المغاربة خصوصاً الذين عايشوا الأجيال السابقة، ليس فقط في الألعاب الطفولية ولكن أيضاً في القيم الاجتماعية والعلاقات مع الجيران، الشيء الذي يفسره متخصصون بأنه نوع من المواجهة النفسية لتحديات الراهن المعيشية والضائقة الاقتصادية.
ألعاب زمان
يقول الخمسيني عبدالله لـ "اندبندنت عربية" إن مرد حسرته كلما رأى مجموعة أطفال وفتيات تتسمر عيونهم في هواتفهم الذكية يعود لأن هذا الجيل بات "كسولاً" إلى درجة أن الألعاب التي يمارسها توجد في راحة يده عبر الهاتف الذي يستخدمه، فالهواتف الذكية واللعب عبر العالم الافتراضي جعلت جيل الأطفال والمراهقين وحتى الشباب لا يكلفون أنفسهم عناء الحركة، والاستمتاع بألعاب جماعية تتطلب التكاثف والتنافس والاحتكاك والتفاعل الجسدي أحياناً، عوضاً عن ألعاب الهواتف والشاشات الإلكترونية الحديثة.
يسرح عبدالله بخياله في لعبة "البلي"، وهي لعبة الكجة أو الكرات الصغيرة الملونة المصنوعة من الزجاج أو البلاستيك، وتتطلب وجود أكثر من لاعب للتنافس، ويذكر لعبة "الترونبية" بالدارجة المغربية وتسمى الخذروف، وهي بيضة خشبية يعلوها رأس مستدير وأسفلها مسمار يدار عليه خيط.
ويسترسل بأن البنات كن يمارسن لعباً مثل "حابا" و"كاش كاش" أو "الغميضة" وهي لعبة الاختفاء، كما أن هناك أيضاً لعباً كان يمارسها الكبار مثل "ضاما"، وهي لعبة "استراتيجية" تلعب بين اثنين فوق لوحة خشبية.
لكل جيل ألعابه
سعيد في ربيعه الـ 16 يلتقط الحديث من العم عبدالله ليقول إن العبرة في اللعب ليس بالضرورة أن يكون جماعياً في الواقع عبر الاحتكاك أو التواصل الجسدي، لأن هناك بالفعل لعباً جماعية لكنها تمارس في العالم الافتراضي. ويضيف أنه "لا يتفق مع من يروجون لمسألة الحنين إلى ألعاب الماضي، لأن لكل جيل ألعابه الخاصة التي تساير عقله وتواكب حتى المستوى التكنولوجي الذي يسود في ذلك الزمن".
ولفت إلى أنه "وفق هذا المنطق فإن أجيالاً مقبلة ستأتي وسترى جيله هو كشاب في مقتبل العمر، بأنه جيل من الماضي الجميل، وبالتالي تخلق لنفسها نوعاً من الحنين إلى ألعاب الزمن الماضي وهكذا دواليك".
علاقات الجيران
الحنين إلى الماضي نفسه أبدته السيدة رقية وهي في عقدها السادس وتقطن في إحدى العمارات السكنية بمدينة الرباط، إذ تخبرنا "أن الشعور بالحنين وافتقاد العلاقات القديمة مع الجيران يغمران عقلها وقلبها كلما تمعنت في واقع العلاقات بين الجيران بالعمارة التي تسكنها".
وتضيف "أن العلاقات الإنسانية بين الجيران في العمارات السكنية بالخصوص تكاد تضمحل وتندثر، إذ أحياناً لا يعرف الجار إن كان جاره حياً أو ميتاً أو شبعاناً أو جائعاً، بل هناك جيران في العمارة نفسها لا يتبادلون السلام والتحية ولا يكادون يعرفون بعضهم بعضاً".
وتكمل السيدة أنها تستحضر "أيام زمان" حينما كانت تقطن في منزل والديها، وكيف كان الجيران يتسابقون على خدمة بعضهم ويدعمون ويؤازرون الجار المحتاج ويتقاسمون اللحظات السعيدة والأوقات العصيبة بما لديهم على الرغم من ضيق ذات اليد في تلك الأيام التي لا تعوض.
وتتابع المرأة الستينية، "في هذا الزمان لم تعد علاقات الجيران كما كانت من قبل، فالجارة تحاول التجسس على جارتها وتتصيد أخطاءها وعثراتها وتسعى إلى فضحها وكشف سترها، كما أن سلوكيات التفاخر والتباهي صارت هي السائدة في علاقات الجيران، بينما التضامن والتآزر صارا عملة مفقودة للأسف".
تغيرات مؤسسة الجار
هذه السلوكيات الجديدة تراها الباحثة في علم الاجتماع ابتسام العوفير "طبيعية في سياق المتغيرات القيمية التي مست مؤسسة الجار في المجتمع المغربي، وهي مؤسسة ذات وقار ومكانة كبيرة داخل التركيبة المجتمعية الحضرية والقروية على السواء، وبالتالي فإن أي تغيرات تطاول هذه المؤسسة الاجتماعية الشعبية فإن باقي التركيبات الاجتماعية تتغير بدورها".
وتضيف الباحثة أنه "من الطبيعي أن تتغير علاقات الجيران في ما بينهم، لأن العلاقات الاجتماعية كاملة تغيرت، لكن لا يمكن الجزم بأنها تغيرت نحو الأحسن أو الأسوأ، لأن لكل شخص زاوية خاصة برؤيته للموضوع".
وشددت على أن "وتيرة الحياة المتسارعة والسعي إلى توفير لقمة العيش سببان رئيسان في تغير علاقات الجيران في المجتمع المغربي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عادات ومناسبات
ويتوقف الموظف في القطاع الخاص محمد جبوري عند ملمح آخر من ملامح الحنين إلى "أيام الزمن الجميل" من خلال اندثار عادات وتقاليد كان يعرف بها المجتمع المغربي خلال المناسبات العائلية أو الأعياد، ويضيف جبوري أن "الأعياد مثل عيدي الفطر والأضحى والمناسبات الدينية مثل شهر رمضان وعاشوراء وذكرى مولد النبي التي عايشها خلال سنوات طفولته لم تعد كما كانت في السنوات الأخيرة، خصوصاً بدخول الألفية الثالثة، ففي الزمن الجميل كان هناك شعور بالفرحة يعم الناس صغاراً وكباراً بحلول هذه المناسبات، كما كانت الأسر تلتئم وتجتمع كيفما كانت ظروفها بهدف التلاقي والتواصل وإحياء صلة الرحم بين العائلات المتباعدة".
ويتابع، "في الزمن الحالي فإن الفرحة الفطرية الصادقة خفت واندثرت إلا في حالات تعتبر استثناء، إذ تكاد تمر الأعياد والمناسبات الكبرى في أجواء تشبه باقي الأيام الاعتيادية، بل أحياناً لا يجتمع جميع أفراد الأسرة بداعي الانشغالات والضغوط المعيشية والصعوبات الاقتصادية".
إكراهات اقتصادية
ويلتقط الباحث في علم الاقتصاد الاجتماعي عبدالرزاق بلملاح خيط الحديث من سابقه ليقول، "من الصعب الإبقاء على القيم والعادات الأسرية ذاتها خلال الأعياد وغيرها التي كانت معروفة في زمن ماض، والاستمرار عليها في هذا الزمن الراهن المتسم بعدد من التحولات التي لا تخفى على أحد".
وشدد الباحث ذاته على أن "أكثر المتحولات التي تسوغ تغير التعامل مع العادات والأعياد والمناسبات الكبرى بين أجيال زمان وأجيال اليوم في المجتمع المغربي هو المتحول الاقتصادي الذي له الأثر الكبير في مثل هذه المقارنات التي يراها بعضهم بعين الحنين إلى الماضي".
ووفق الباحث "لا يمكن إرغام أسرة تعيش ضائقة مالية أو تعاني تحت وطأة القروض أو تعيش في شقة صغيرة لا تتجاوز 50 متراً مربعاً مثلاً، كما هو شأن المساكن الاجتماعية بالمغرب، أن تحتفل بالأعياد وتستضيف أفراد الأسر الممتدة المكونة من الوالدين والأولاد والأعمام والأخوال".
ويستطرد الباحث في الاقتصاد الاجتماعي أن "وجود مثل هذه الوقائع يعني كلفاً مالية إضافية للأسرة المستضيفة، فضلاً عن صعوبة إيواء كل هذه الأعداد من الأشخاص في مساحة ضيقة، وغيرها من الإكراهات الاقتصادية الواقعية".
العزلة الاجتماعية
أستاذ علم الاجتماع بجامعة أغادير ومدير مختبر التخصصات البينية في العلوم الاجتماعية زهير البحيري يرى من جهته أنه "يمكن تفسير الحنين إلى الماضي عند بعض المغاربة من منظور سوسيولوجي انطلاقاً من مجموعة من المحددات، ترتبط أولاها بارتفاع معدلات التحضر"، وأشار إلى أن "عدد القاطنين اليوم في المجالات الحضرية والمدن الكبرى على وجه التحديد يعني انتشار الثقافة الحضرية القائمة على أساس مجموعة من الخصائص الجديدة التي تنبني بشكل خاص على أساس عقلاني".
ويوضح البحيري هذه الخصائص في "سيادة العقل الحسابي والمادي في مجمل العلاقات الاجتماعية، وتصاعد مطرد للفردانية كأساس مميز لبناء الأفعال والممارسات الاجتماعية في سياق سيرورة التحولات الاجتماعية والقيمية التي يعشيها المجتمع المغربي".
وانطلاقاً من ذلك، وفق البحيري، نجد أن "نمط العلاقات الاجتماعية يتسم بالسطحية وطابعه اللاشخصي مما يجعل الأفراد يعيشون نوعاً من العزلة الاجتماعية تزيد حدتها بفعل ضغط الحياة المعاصرة، وهذا يعني أن الحنين إلى الماضي ينشأ أساساً من العزلة الاجتماعية والانعزال اللاإرادي الذي يعانيه الأفراد، بخاصة مع تراجع أدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأولية وما كانت توفره من دفء اجتماعي يسهل اندماجهم".
البحث عن الاستقرار النفسي
وفي المقابل يسجل البحيري تعاظم أدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعية الثانوية داخل المجتمع المغربي والتي جعلت الأفراد يعيشون في واقع افتراضي غير ضامن لأسس التوازن النفسي والاجتماعي.
وانطلاقاً من ذلك يردف أنه "رجوع بعض المغاربة وحنينهم إلى الماضي في ارتباطه بالقيم السائدة آنذاك يشكل طابع وشكل العلاقات الاجتماعية والألعاب الممارسة والمناسبات المختلفة من أعياد وأعراس ومختلف وضعيات التفاعل الاجتماعي، آلية من آليات البحث عن الاستقرار النفسي والسعادة الاجتماعية التي لم تعد توفرها الحياة المعاصرة بتعقيداتها المختلفة".
وشدد البحيري على أن "هذا الحنين يرتبط بشكل كبير بتجربة الحياة السلبية وحالات العزلة الاجتماعية، وربما أيضاً البحث عن معنى للوجود الاجتماعي، بخاصة أن الحنين إلى الماضي من خلال استرجاع ذكريات وأحداث في مواقف اجتماعية معينة يتسم بنوع من التفكير الانتقائي العاطفي القائم على أساس التركيز على ما هو إيجابي وتجاهل كل من هو سلبي غير مرغوب فيه".
وخلص الباحث إلى أن "هذا الحنين يمكن اعتباره آلية للدفاع الاجتماعي يتم استخدامها للتغلب على صعوبات التكيف والعزلة الاجتماعية والبحث عن الأسس الكفيلة بتحسين الحال النفسية".