حين يجتمع داخل رواية واحدة المجهري واللامتناهي، الفردي والجماعي، الأدب والعِلم، موهبة السرد والإنسانية في أكثر تجلياتها حساسيةً وبصيرةً، تأتي النتيجة حتماً باهرة. وهذا ما ينتظرنا في جميع روايات الكاتب الأميركي ريتشارد باورز، وآخرها "انبهار" التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود"، بعد بضعة أشهر من صدورها في نيويورك. رواية آسِرة بشكلها وقصّتها وموضوعاتها، تسائل بألمعية نادرة مكاننا في الكون وتقودنا إلى إعادة النظر في روابطنا به وبكل كائن حيّ فيه.
أحداث هذه الرواية تدور في مستقبل قريب جداً، في ولايات متحدة تقف على شفير سديم سياسي ومناخي. بطلاها طفلٌ في سن التاسعة يدعى روبين، ووالده عالِم الفلك تيو بيرن الذي يربّي ابنه بمفرده، منذ وفاة زوجته في حادث سيارة، بموازاة بحثه عن حيوات أخرى في الكون. روبين ليس طفلاً عادياً مثل سائر الأطفال. شديد الذكاء والحسّاسية، يجد صعوبة في فهم رفاقه في المدرسة ونسج علاقات معهم، ويشغف بالحيوانات، مثل أمه قبله، التي كانت ناشطة إيكولوجية تكافح بلا كلل لتخفيف معاناة هذه الكائنات ومنع تواري بعض أنواعها المهددة بالانقراض. لكنه أيضاً عرضة لنوبات تجعله ينزلق من الفرح العارم إلى الغضب الشديد، ومن الضحك إلى الصراخ والبكاء.
مزاج وطبيعة وكوكب
وبغية تلطيف تقلّبات مزاجه، يصطحب تيو ابنه من حين إلى آخر، للتخييم في أحضان الطبيعة، وكل مساء، يستكشف معه كوكباً خارج المجموعة الشمسية، ويحاول بمساعدته سبر لغز مصدر الحياة. وقبل أن ينام روبين، يبتكر له كواكب ويتخيّل معه ما يمكن أن يكون عليه عالمٌ آخر غير عالمنا، مكانٌ يمكن أن تظهر الحياة فيه وتتطور، بعيداً عن نزواتنا المدمِّرة. هكذا نسافر معهما إلى نجومٍ وكواكب عملاقة غازية، سائلة أو جليدية، تقطنها كائنات تتحاور بتوارد الخواطر، أو رخويات تعيش بسلام ووئام تحت الماء... أسفار تسمح لروبين الذي يعاني من داء التوحّد بإشباع عطشه الذي لا ينضب إلى المعرفة. تسمح أيضاً له بنسيان، ولو لفترة قصيرة، ما يقترفه البشر من جرائم في حق كوكبنا ويقضّ مضجعه، وبالتوقف عن التفكير في مآل هذه الجرائم المرعبة. تسمح أخيراً بتعزيز الرابط القوي الذي يجمع هذا الوالد بابنه، وتواطئهما المشحون بشعرية ورقة مؤثّرتين.
لكن العودة إلى "الواقع" غالباً ما تكون فجّة وقاسية. وحين يُطرَد روبين من مدرسته إثر نوبة غضب جديدة، يضطر تيو إلى البحث عن مساعدة لمعالجته. لكن، وبما أنه يرفض قطعياً الحل الوحيد الذي يقترحه الأطباء لحالة ابنه الفريدة، الأدوية، يلجأ إلى صديق قديم لزوجته، هو عالِم وطبيب أعصاب طوّر علاجاً تجريبياً جديراً برواية خيال علمي. فبفضل نظام معلوماتي من ابتكاره، نجح هذا الأخير في تطوير قدرة مرضاه على التركيز، وفي تخليصهم من إثارتهم الفائضة عن طريق جعلهم يزورون أدمغة أشخاص آخرين سليمين، ويتماثلون بترسيماتها. هكذا يتدرّب روبين على تقبّل الآخرين، على التحكّم في انفعالاته وعواطفه، وعلى تلطيف نار الشغف المشتعلة داخله بنشوة السكون، إثر سماح هذا الطبيب له في التواصل والتفاعل مع... أمه المفقودة، التي كانت قد أخضعت دماغها قبل وفاتها لمسحٍ بواسطة آلته. والنتيجة؟ تحسُّنٌ باهر في سلوكه يسعده ويسعد والده على حد سواء.
علاقة تيو وروبين محورية إذاً في هذه الرواية التي تغوص بنا ببراعة، داخل الحب غير المشروط الذي يكنّه أب لابنه. حبّ تشوبه الحيرة والعجز أحياناً، ولكن تجعلنا رقّته وقوته الجارفة عاجزين عن عدم التأثر بالجهود التي يبذلها كل منهما لملاقاة الآخر. نتأثّر أيضاً بفطنة روبين التي تخرج عن المألوف، بتألمه "من رؤية ما لا يراه عالمنا الغارق في غيبوبته"، بقدرته على أخذ وقته في كل ما يفعله، وعلى التواجد في اللحظة الآنية، مجبراً والده على التماثل به، حتى لو أدّى ذلك إلى عدم احترامه قواعد حياته المهنية وواجباتها. طفلٌ يُرينا بسلوكه وإدراكه كيف أننا نسير في حياتنا من دون أن نعي الجمال الذي يحيط بنا، فنفقد معنى كل شيء.
حالة ضياع
وعن طريق قصة هذا الطفل ووالده، يذهب باورز إلى ما هو أبعد منها، عبر ترسيخ روايته ضمن جهدٍ بصير لفضح بلدٍ ــ أميركا ــ يتخبّط في حالة ضياع ويحكمه نظام لا يكترث إطلاقاً لما يحذّرنا العلماء منه منذ عقود، بل لمصالحه الصغيرة الآنية فقط. فضحٌ يتحول شيئاً فشيئاً إلى صرخة ودعوة: صرخة لإيقاظنا على الكارثة البيئية التي تتربّص بنا وما زال معظمنا عاجزاً عن رؤيتها أو التعامل معها، علماً أنها من صنع أيدينا. دعوة لاستكشاف الكون الذي يخبّئ لنا مفاجآت وحلولاً لا تحصى. استكشاف تعوقه رؤية أنظمتنا السياسية القصيرة المدى، والخوف الديني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا السياق، تبيّن الرواية مدى صغر الإنسان في هذا الكون الفسيح، وفي الوقت نفسه، مدى تشابههما. فالكون كائن حيّ ودماغ الإنسان كونٌ مكثَّف. وفي علاقة التواطؤ الجميلة التي يرويها باورز فيها، نراهما يتشابكان ويتعانقان ضمن رقصة كونية تتحوّل أحياناً إلى انخطاف، وتدور حول أسئلة وجودية عميقة، أبرزها: أيّهما أكبر وأهمّ، الفضاء الداخلي أم الفضاء الخارجي؟ رفاهيتنا أم مستقبل كوكبنا؟ وماذا عن فرضية اكتشاف حياة على كوكب آخر، المنطقية أكثر مما نظن، وفقاً لعلماء الفلك، نظراً إلى التوافُر الأكيد لشروط هذه الحياة في عدد لا يحصى من الكواكب، التي تقع في مجرّات لم نكتشف بعد منها سوى بضعة ملايين؟!
"انبهار" هي إذاً، وقبل أي شيء، نشيد احتفاء بمعجزة الحياة، ومحاولة ناجعة لجعلنا نعي هذه المعجزة فنتحرّك ونغيّر سلوكنا قبل فوات الأوان. رواية ترفع عيوننا نحو النجوم للسفر في ما لا حدود له، وتحطّ بنا في أحضان الطبيعة حيث تجعلنا نتأمل كائناتها وننتشي بها من أقرب مسافة ممكنة. رواية ترمم بقصّتها، وموسيقى نثرها الشعري، والأفكار التي تسيّرها، ذلك الرابط المقطوع بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، عبر جعلنا نرى أنفسنا في مخلوقات، وحتى في أشياء صغيرة نظن أنها شديدة الاختلاف عنا. وبالنتيجة، تشفينا من لا مبالاتنا، وتبدد قلقنا الوجودي عبر إشعارنا بأننا جزء من شيء أكبر منا بكثير، من لغزٍ مثير لم نتمكّن بعد من خدش سطحه.